يثير ترشيح توني بلير لإدارة غزة بعد الحرب موجة واسعة من الجدل، في ظل إرثه الدموي في العراق ودعمه السابق لإسرائيل. وتأتي هذه الخطوة ضمن خطة أمريكية مثيرة للشكوك، وسط احتجاجات داخل بريطانيا وانتقادات دولية متزايدة، ما يضيف بعدًا جديدًا لحالة الغضب المتصاعدة داخل حزب العمال.
وفي هذا السياق، عقد الحزب الحاكم مؤتمره السنوي في مدينة ليفربول، خلال الفترة الممتدة من الأحد 28 سبتمبر وحتى الأربعاء 1 أكتوبر 2025، وذلك في ظل تصاعد الصراعات الداخلية والفضائح السياسية التي تعصف بحكومة السير كير ستارمر، إلى جانب استمرار صعود حزب الإصلاح اليميني المتطرف. وتُعد السياسات البريطانية تجاه الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين في غزة إحدى القضايا الجوهرية التي ناقشها المؤتمر.
ورغم إعلان ستارمر، في وقت سابق من الشهر، اعترافه الرمزي بالدولة الفلسطينية إلى جانب فرنسا وكندا وأستراليا ودول أخرى، فإن ذلك لم يُهدئ من حدة الغضب الشعبي، إذ شهد محيط مركز المؤتمرات وداخله احتجاجات صاخبة، عكست حجم الإحباط من تقاعس الحكومة. وقد قاطع أحد النشطاء كلمة راشيل ريفز، وزيرة الخزانة، متهماً حزب العمال بالتواطؤ في «التجويع الجماعي للفلسطينيين»، متسائلًا: «لماذا لا تزال بريطانيا تواصل تسليح إسرائيل؟».
وعبَّر عدد من أعضاء البرلمان عن استيائهم بوضوح، حيث أبدى ريتشارد بورغون، ممثل الحزب عن دائرة ليدز إيست، غضبه من رؤية الوزراء «يكتفون بمشاهدة ما يحدث على شاشات التلفاز»، ومن ثم ممارسة ما وصفه «المسرحية السياسية» من خلال الاكتفاء بالإدانات دون اتخاذ إجراءات فعلية. كما ندد كلايف لويس، النائب عن دائرة نورويتش ساوث، بمحاولات الحكومة منع النقاش داخل البرلمان والحزب حول «الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة».
وفي تصويت جرى في 29 سبتمبر، صوَّت مندوبو الحزب لصالح الاعتراف بارتكاب إسرائيل جريمة إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وهو ما يزيد من الضغط على حكومة ستارمر لتعليق اتفاقية التجارة مع إسرائيل، ومعاقبة المزيد من المتورطين في جرائم الحرب، ووقف تصدير الأسلحة التي تُستخدم في ارتكاب هذه الجرائم.
لكن، وسط هذه الأجواء، لا يمكن أن يغيب عن المشاركين في المؤتمر أن زعيم الحزب السابق، توني بلير، يقدّم نفسه كمرشح محتمل لتولي منصب الحاكم الفعلي لغزة في حال تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار. وبينما تتعرض غزة للدمار بعد 23 شهرًا من القصف العشوائي المستمر من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، وفي ظل تفشي المجاعة في المنطقة، سلطت مجلة «الإيكونوميست» الضوء على ما وصفته بـ«تخمر المؤامرة» حول هوية الجهة التي ستتولى إدارة غزة بعد انتهاء الحرب، مشيرة إلى أن بلير هو «الأكثر رغبة» في قيادة حكومة انتقالية مقترحة.
ويبدو أن هذه الحكومة، التي تحظى بدعم واضح من الإدارة الجمهورية بقيادة دونالد ترامب، ستتشكل تحت مسمى «السلطة الانتقالية الدولية لغزة». وبحسب مسودة من 21 صفحة، ستكون هذه الهيئة هي «السلطة السياسية والقانونية العليا» في غزة مدة خمس سنوات، بموجب تفويض من الأمم المتحدة.
وفي إطار هذا النظام، الذي وصفه ستيف هندريكس من صحيفة «واشنطن بوست» بأنه «مُصمم بدقة» من قبل بلير، سيتم تحديد مستقبل غزة من قبل أمانة عامة تتألف من 25 شخصًا، وهيئة تنفيذية من 7 مسؤولين، من بينهم ممثل فلسطيني واحد على الأقل، ومسؤول كبير من الأمم المتحدة، إلى جانب خبراء ماليين بارزين.
وتشير الخطة إلى أن خمسة مفوضين، أحدهم من «مؤسسة غزة الإنسانية»، سيشرفون على الشؤون الإنسانية. وتُعد هذه المؤسسة، التي تتلقى دعمًا من إسرائيل، جهة مثيرة للجدل، إذ أدانها خبراء حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، من بينهم فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة بالأراضي الفلسطينية المحتلة، معتبرين إياها مثالًا مقلقًا على استغلال العمل الإنساني لتحقيق أجندات عسكرية وجيوسياسية خفية، في انتهاك صارخ للقانون الدولي.
ورغم أن الخطة تتجاوز «مهمة الاستقرار الدولية المؤقتة» التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2025، وتزعم أن هدفها تسليم السيطرة السياسية في غزة إلى السلطة الفلسطينية تمهيدًا لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، فإن تعيين سياسي بريطاني سابق، كُشف عن دوره في الغزو الكارثي للعراق عام 2003، ولا يزال إرثه المزعزع للاستقرار محسوسًا في أرجاء المنطقة، ليكون هو من يحدد «الاتجاه السياسي والاستراتيجي» للخطة، يثير اعتراضات كبيرة ومفهومة.
وفي رده على مقال لتوم هاريس، النائب السابق في حزب العمال، في صحيفة «التليجراف»، والذي وصف فيه بلير بأنه «شخص يمكن الوثوق به من جميع الأطراف للتفاوض على مستقبل ما بعد الحرب»، كتب بول وود، مراسل الشؤون العالمية في شبكة بي بي سي، في مجلة «ذا سبيكتاتور» متسائلًا: كيف يمكن الوثوق بشخص «تلطخت يداه بدماء مئات الآلاف من العراقيين».
كما سلط ستيف هندريكس الضوء على أداء بلير خلال سنواته الثماني كمبعوث خاص للشرق الأوسط باسم اللجنة الرباعية (الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، روسيا، الأمم المتحدة)، حيث كان «يميل دومًا لصالح إسرائيل» على حساب الفلسطينيين.
وأشارت «الإيكونوميست» إلى أنه خلال تلك الفترة، تعرضت غزة لأربعة اعتداءات عسكرية إسرائيلية، في حين عملت إسرائيل على تشديد قبضتها العسكرية على الأراضي المحتلة بشكل مباشر وواضح.
أشار جون رينتول، كبير المعلقين السياسيين في صحيفة الإندبندنت وكاتب سيرة توني بلير، إلى أن هناك «خيطًا قويًا في شخصية بلير»، يتمثل في «ثقة هائلة بقدرته على حل أصعب مشكلات العالم». في المقابل، سجّل الصحفي فرانسيس بيكيت، المؤلف المشارك لكتاب شركة بلير: الرجل وراء القناع 2015، كيف أنه خلال فترة عمل بلير كمبعوث إقليمي، كانت هناك حالة من الغموض بشأن هويته في الاجتماعات؛ إذ لم يكن أحد يعرف ما إذا كان يتحدث إليهم بصفته مبعوث الرباعية، أو راعي مؤسسة توني بلير الإيمانية، أو مدير شركة توني بلير أسوشيتس للاستشارات. وتعد هذه الديناميكية مصدر قلق خاص حين يُطرح اسم بلير كحاكم سياسي فعلي محتمل لغزة، لا سيما بالنظر إلى علاقاته الشخصية الوثيقة برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وتعاونه الطويل مع إدارة ترامب في خطط تضمنت تطهيرًا عرقيًا للفلسطينيين.
في يوليو 2025، كشفت صحيفة فاينانشال تايمز أن أعضاء من معهد بلير للتغيير العالمي شاركوا في مشروع يهدف إلى تحويل رؤية ترامب لغزة إلى «ريفييرا الشرق الأوسط»، حيث كتب هؤلاء الأفراد أن الدمار الذي لحق بالقطاع «يمثل فرصة لا تتكرر إلا مرة واحدة في القرن لإعادة بناء غزة» كـ«مجتمع آمن، وحديث، ومزدهر». وبعد شهر من ذلك، شارك بلير في اجتماع بالبيت الأبيض ضم أقرب مستشاري ترامب، من بينهم صهره جاريد كوشنر، الذي سبق له أن وصف «ممتلكات الواجهة البحرية» في غزة بأنها «ذات قيمة عالية جدًا». كما حضر الاجتماع رون ديرمر، مستشار نتنياهو، الذي سبق أن ضغط لنقل جميع سكان غزة إلى شبه جزيرة سيناء.
وعلى الرغم من عدم نشر تفاصيل هذا الاجتماع علنًا، إلا أن مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، وصفه بأنه كان «شاملًا للغاية». وظهرت لاحقًا وثيقة مسربة تحمل اسم «إعادة تشكيل غزة وتسريع الاقتصاد والتحول»، دعت إلى «النقل الطوعي» للفلسطينيين من غزة مقابل تعويضات مالية بسيطة. وقد رفض العديد من خبراء حقوق الإنسان والأكاديميين هذا المخطط باعتباره تطهيرًا عرقيًا. من بينهم الدكتور إتش. إيه. هيلير، الزميل في الأمن الدولي في المعهد الملكي للخدمات المتحدة، الذي قال إن الحديث عن «المغادرة الطوعية» لا يتماشى مع الواقع، فالفلسطينيون في غزة «لن يكون أمامهم خيار سوى إطلاق النار عليهم أو الموت جوعًا».
ورغم تأكيد ويتكوف أن خطة بلير الجديدة لا تشمل «تشجيع الفلسطينيين على المغادرة»، إلا أن واقعها يرقى إلى شكل جديد من الاحتلال بقيادة أجنبية. ومع تصميمها على نماذج سياسية مشابهة لتجارب التحول في تيمور الشرقية وكوسوفو، لاحظت مجلة الإيكونوميست أن مثل هذه التفويضات الدولية غالبًا ما تستمر أطول مما هو مخطط لها، ما يؤدي في النهاية إلى رقابة ضعيفة من الأمم المتحدة على إعادة غزة للسيطرة الفلسطينية في إطار دولة مستقلة.
كما أشار وينتور إلى أن هذه الخطة تفتقر إلى الثقة الإقليمية، وقد تؤدي إلى «احتلال مختلف وأكثر ليونة» من الاحتلال الإسرائيلي، لكنها لا تزال تخدم أجندات وزراء الحكومة الإسرائيلية المتطرفين. فعلى سبيل المثال، طالب وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن جفير باحتلال كامل لغزة، بينما وعد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش بـ«طفرة عقارية» في القطاع. وتُظهر مشاريع الخطط الاقتصادية التي تتحدث عن «شراكات بين القطاعين العام والخاص» و«أدوات تمويل مختلطة» لتحقيق «عوائد مجدية تجاريًا» أن إعادة إعمار غزة ستكون وفق رؤية تمليها إدارة ترامب وائتلاف نتنياهو المتطرف بالدرجة الأولى.
وعلى الرغم من أن ويتكوف تساءل عما إذا كانت هذه الخطة تمثل «حلًا وسطًا» مقارنة بنية ترامب المعلنة سابقًا بـ«الاستيلاء الكامل على غزة»، ورغم وصف مجلة الإيكونوميست للخطة بأنها «تحسن واضح» مقارنة بالمقترحات الغربية السابقة، فإنه لا يمكن تجاهل أن تعيين توني بلير – وهو رئيس وزراء بريطاني سابق ومقال من منصبه – على رأس حكومة انتقالية في غزة، هو في جوهره عودة إلى ما وصفه الدكتور مصطفى البرغوثي، الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية، بأنه «الاستعمار البريطاني» للمنطقة. وهذا النهج لا يُقرب الشعب الفلسطيني من هدفه في تقرير المصير أو بناء دولته المستقلة.
وفي الوقت الذي يُتّهم فيه حزب العمال البريطاني، بقيادة كير ستارمر، بالتقاعس في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية في غزة، فإن حقيقة أن زعيم الحزب السابق يطرح نفسه كحاكم ذاتي لغزة ما بعد الحرب، دون أي تفويض شعبي من سكان غزة أو الأمم المتحدة أو الدول الإقليمية، تكشف عن مدى استمرار الهيمنة الغربية على مستقبل الشعب الفلسطيني، رغم مزاعم دعمهم لاستقلاله.
ومع ترحيب ترامب بنتنياهو مرة أخرى في واشنطن في نهاية سبتمبر، من الواضح أن حكومة إسرائيل ستتخذ القرار النهائي بشأن المضي قدمًا في تنفيذ هذا المخطط. ورغم أن ترامب نفى مؤخرًا السماح لإسرائيل بضم الضفة الغربية، وقال إنها «لن تُضمّ»، إلا أن التأخير المتكرر في تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، والتردد المستمر حول مستقبل غزة السياسي بعد الحرب، لا يؤدي سوى إلى «كسب الوقت لصالح إسرائيل لخلق وقائع جديدة على الأرض، كما خلصت الإيكونوميست.
وفي ظل غياب التفويض الشعبي، يُنظر لخطة بلير كامتداد للهيمنة الغربية على القرار الفلسطيني. ويبقى مصير غزة معلقًا بين أطماع الخارج وصمت المجتمع الدولي عن الإبادة الجارية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك