العدد : ١٧٣٦٩ - الأحد ١٢ أكتوبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٠ ربيع الآخر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٦٩ - الأحد ١٢ أكتوبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٠ ربيع الآخر ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

أوجه خفية للفقر.. حين يغيب الوقت والكلمة والمعنى

بقلم: نبيلة رجب

السبت ١١ أكتوبر ٢٠٢٥ - 02:00

حين‭ ‬يُذكر‭ ‬الفقر،‭ ‬يذهب‭ ‬الذهن‭ ‬مباشرة‭ ‬إلى‭ ‬المال‭. ‬نقص‭ ‬الدخل،‭ ‬أو‭ ‬غياب‭ ‬المسكن،‭ ‬أو‭ ‬عجز‭ ‬الأسرة‭ ‬عن‭ ‬تلبية‭ ‬احتياجاتها‭ ‬الأساسية‭. ‬وهذا‭ ‬طبيعي،‭ ‬فهو‭ ‬المعنى‭ ‬الأكثر‭ ‬تداولًا‭. ‬نحن‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬بفضل‭ ‬الله‭ ‬واستقرار‭ ‬البلد‭ ‬وحسن‭ ‬إدارته،‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬الفقر‭ ‬القاسي‭ ‬الذي‭ ‬يصيب‭ ‬بعض‭ ‬المجتمعات‭. ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يمنع‭ ‬أن‭ ‬نلتفت‭ ‬إلى‭ ‬أوجه‭ ‬أخرى‭ ‬للفقر،‭ ‬قد‭ ‬تطال‭ ‬أي‭ ‬إنسان‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مكان،‭ ‬لأنها‭ ‬لا‭ ‬تُقاس‭ ‬بالدينار،‭ ‬بل‭ ‬بما‭ ‬يغيب‭ ‬من‭ ‬وقت‭ ‬أو‭ ‬كلمة‭ ‬أو‭ ‬معنى‭.‬

من‭ ‬هذه‭ ‬الأوجه‭ ‬فقر‭ ‬الوقت‭. ‬أعرف‭ ‬طعمه‭ ‬جيدًا‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬عملي‭ ‬الأولى‭ ‬كمحامية‭ ‬متدربة،‭ ‬حين‭ ‬كنت‭ ‬أعمل‭ ‬بنظام‭ ‬الدوامين‭. ‬أنتهي‭ ‬من‭ ‬المكتب‭ ‬في‭ ‬السابعة‭ ‬مساءً،‭ ‬أعود‭ ‬مرهقة،‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬ابنتي‭ ‬في‭ ‬الرابعة‭ ‬من‭ ‬عمرها‭ ‬تنتظرني‭ ‬بلهفة‭. ‬أحيانًا‭ ‬لا‭ ‬أجد‭ ‬في‭ ‬جسدي‭ ‬طاقة‭ ‬للجلوس‭ ‬معها‭ ‬أو‭ ‬قراءة‭ ‬قصة‭ ‬صغيرة‭ ‬قبل‭ ‬النوم‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬فقرًا‭ ‬في‭ ‬المال،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬اللحظات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تعوّض‭. ‬لحظات‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أساسًا‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬أم‭ ‬وابنتها،‭ ‬لكنها‭ ‬تسرّبت‭ ‬مع‭ ‬زحمة‭ ‬اليوم‭. ‬وهذا‭ ‬الفقر‭ ‬لا‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬الإحصاءات،‭ ‬لكنه‭ ‬يبقى‭ ‬حاضرًا‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬والقلب‭.‬

وهناك‭ ‬فقر‭ ‬آخر‭ ‬قد‭ ‬يظل‭ ‬خفيًا‭ ‬وسط‭ ‬زحمة‭ ‬الحياة؛‭ ‬فقر‭ ‬الكلمة‭ ‬الطيبة‭. ‬كلمة‭ ‬تشجيع‭ ‬قادرة‭ ‬أن‭ ‬ترفع‭ ‬معنويات‭ ‬طالب‭ ‬يظن‭ ‬أنه‭ ‬فشل،‭ ‬أو‭ ‬تزرع‭ ‬الثقة‭ ‬في‭ ‬موظف‭ ‬يكدّ‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يسمع‭ ‬كلمة‭ ‬تقدير‭. ‬أحيانًا‭ ‬ما‭ ‬ينتظر‭ ‬الإنسان‭ ‬شيئًا‭ ‬بسيطًا‭ ‬فقط‭: ‬عبارة‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬زين‭ ‬سويت‮»‬،‭ ‬‮«‬وجودك‭ ‬يفرحنا‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬ابتسامة‭ ‬صادقة‭ ‬تكفي‭ ‬لتغيّر‭ ‬يومه‭. ‬هذه‭ ‬الكلمات‭ ‬البسيطة‭ ‬تبقى‭ ‬في‭ ‬القلب‭ ‬طويلًا،‭ ‬وتتحول‭ ‬إلى‭ ‬دافع‭. ‬وعندما‭ ‬تغيب،‭ ‬يصبح‭ ‬الناس‭ ‬كأنهم‭ ‬يعملون‭ ‬ويعيشون‭ ‬في‭ ‬فراغ،‭ ‬بلا‭ ‬سند‭ ‬معنوي‭ ‬يشدّهم‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭.‬

ويمتد‭ ‬الفقر‭ ‬أحيانًا‭ ‬ليصل‭ ‬إلى‭ ‬الحوار‭ ‬بين‭ ‬الأجيال‭. ‬ففي‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬البيوت،‭ ‬يعيش‭ ‬الأبناء‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬التقنية‭ ‬السريع،‭ ‬بينما‭ ‬يتمسك‭ ‬الآباء‭ ‬بعاداتهم‭ ‬وأساليبهم‭ ‬القديمة‭. ‬النتيجة‭ ‬أن‭ ‬الجسر‭ ‬يضيق،‭ ‬والكلام‭ ‬يقل‭. ‬قد‭ ‬يجلس‭ ‬الجميع‭ ‬حول‭ ‬مائدة‭ ‬واحدة،‭ ‬لكن‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬عالمه‭ ‬الخاص‭.‬

وهذا‭ ‬الصمت‭ ‬يتراكم‭ ‬حتى‭ ‬يصبح‭ ‬فجوة‭ ‬حقيقية‭ ‬تُبعد‭ ‬أفراد‭ ‬العائلة‭ ‬عن‭ ‬بعضهم‭. ‬وكسر‭ ‬هذه‭ ‬الفجوة‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬بادرة‭ ‬بسيطة،‭ ‬سؤال،‭ ‬أو‭ ‬مشاركة‭ ‬صادقة،‭ ‬أو‭ ‬لحظة‭ ‬إنصات‭ ‬تعيد‭ ‬الوصل‭.‬

ومثلما‭ ‬يسرق‭ ‬الانشغال‭ ‬الوقت‭ ‬من‭ ‬علاقة‭ ‬الوالد‭ ‬بأبنائه،‭ ‬فإنه‭ ‬يتسلل‭ ‬بهدوء‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬الزوجية‭ ‬أيضًا‭. ‬قد‭ ‬يعيشان‭ ‬تحت‭ ‬سقف‭ ‬واحد،‭ ‬لكنهما‭ ‬لا‭ ‬يجلسان‭ ‬معًا‭ ‬إلا‭ ‬لمناقشة‭ ‬الفواتير‭ ‬أو‭ ‬التزامات‭ ‬الأولاد‭. ‬تغيب‭ ‬الأسئلة‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬تُبقي‭ ‬الود‭ ‬حاضرًا؛‭ ‬‮«‬كيف‭ ‬كان‭ ‬يومك؟‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬ما‭ ‬الذي‭ ‬أفرحك‭ ‬اليوم؟‮»‬‭. ‬ومع‭ ‬مرور‭ ‬الأيام،‭ ‬يضعف‭ ‬الحوار‭ ‬ويخفت‭ ‬الشعور‭ ‬بالمشاركة،‭ ‬فيتحول‭ ‬البيت‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬عبور‭ ‬يومي‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬حضنًا‭ ‬يمدّهما‭ ‬بالطاقة‭ ‬والدفء‭.‬

وهناك‭ ‬وجه‭ ‬آخر‭ ‬للفقر‭ ‬لا‭ ‬يُرى‭ ‬بالعين‭ ‬لكنه‭ ‬يثقل‭ ‬الداخل‭ ‬وهو‭ ‬فقر‭ ‬الروح‭ ‬والمعنى‭. ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬مريح،‭ ‬ويملك‭ ‬ما‭ ‬يحتاجه‭ ‬من‭ ‬مال،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬هدفًا‭ ‬يملأ‭ ‬أيامه‭ ‬بالجدوى‭. ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬يظهر‭ ‬حين‭ ‬تتشابه‭ ‬الأيام‭ ‬وتفقد‭ ‬نكهتها،‭ ‬بلا‭ ‬شغف‭ ‬ولا‭ ‬رسالة‭. ‬وعلاجه‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬بزيادة‭ ‬الراتب‭ ‬أو‭ ‬شراء‭ ‬ممتلكات‭ ‬جديدة،‭ ‬وإنما‭ ‬بالبحث‭ ‬عما‭ ‬يوقظ‭ ‬القلب‭: ‬عمل‭ ‬تطوعي،‭ ‬أو‭ ‬اهتمام‭ ‬ثقافي،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬عادة‭ ‬بسيطة‭ ‬تمنح‭ ‬الرضا‭. ‬حين‭ ‬يتوفر‭ ‬هذا‭ ‬المعنى،‭ ‬يشعر‭ ‬المرء‭ ‬بثراء‭ ‬داخلي‭ ‬ينعكس‭ ‬على‭ ‬صحته‭ ‬وعلاقاته،‭ ‬ويعطيه‭ ‬قدرة‭ ‬أكبر‭ ‬على‭ ‬العطاء‭.‬

كل‭ ‬هذه‭ ‬الأشكال‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬الفقر‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬المال‭. ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬نفقده‭ ‬مع‭ ‬أحبّتنا،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الكلمة‭ ‬التي‭ ‬نبخل‭ ‬بها،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الصمت‭ ‬الذي‭ ‬يبعدنا‭ ‬عن‭ ‬بعضنا‭. ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬المعنى‭ ‬الذي‭ ‬نفتقده‭ ‬ونحن‭ ‬نعيش‭ ‬أيامًا‭ ‬متشابهة‭. ‬علاجه‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬دائمًا‭ ‬إلى‭ ‬خطط‭ ‬ضخمة،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬مبادرات‭ ‬صغيرة‭: ‬مكالمة‭ ‬هاتفية‭ ‬لمن‭ ‬لا‭ ‬يتوقع‭ ‬صوتنا،‭ ‬زيارة‭ ‬لأخت‭ ‬لم‭ ‬نرها‭ ‬منذ‭ ‬زمن،‭ ‬أو‭ ‬جلسة‭ ‬قصيرة‭ ‬مع‭ ‬ابن‭ ‬يطلب‭ ‬اهتمامًا‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭.‬

اليوم‭ ‬العالمي‭ ‬للقضاء‭ ‬على‭ ‬الفقر‭ ‬مناسبة‭ ‬لنتأمل‭ ‬هذه‭ ‬الجوانب‭ ‬الخفية،‭ ‬ونمنحها‭ ‬بعضًا‭ ‬من‭ ‬اهتمامنا‭. ‬فالمجتمع‭ ‬الغني‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬ذاك‭ ‬الذي‭ ‬يملك‭ ‬دخلًا‭ ‬أعلى،‭ ‬بل‭ ‬الذي‭ ‬يملك‭ ‬علاقات‭ ‬أدفأ،‭ ‬وحوارًا‭ ‬أعمق،‭ ‬ومعنى‭ ‬أوسع‭ ‬للحياة‭.‬

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا