حين يُذكر الفقر، يذهب الذهن مباشرة إلى المال. نقص الدخل، أو غياب المسكن، أو عجز الأسرة عن تلبية احتياجاتها الأساسية. وهذا طبيعي، فهو المعنى الأكثر تداولًا. نحن في البحرين، بفضل الله واستقرار البلد وحسن إدارته، لا نعرف الفقر القاسي الذي يصيب بعض المجتمعات. لكن هذا لا يمنع أن نلتفت إلى أوجه أخرى للفقر، قد تطال أي إنسان في أي مكان، لأنها لا تُقاس بالدينار، بل بما يغيب من وقت أو كلمة أو معنى.
من هذه الأوجه فقر الوقت. أعرف طعمه جيدًا منذ سنوات عملي الأولى كمحامية متدربة، حين كنت أعمل بنظام الدوامين. أنتهي من المكتب في السابعة مساءً، أعود مرهقة، بينما كانت ابنتي في الرابعة من عمرها تنتظرني بلهفة. أحيانًا لا أجد في جسدي طاقة للجلوس معها أو قراءة قصة صغيرة قبل النوم. لم يكن ذلك فقرًا في المال، بل في اللحظات التي لا تعوّض. لحظات كان من المفترض أن تكون أساسًا في بناء العلاقة بين أم وابنتها، لكنها تسرّبت مع زحمة اليوم. وهذا الفقر لا يظهر في الإحصاءات، لكنه يبقى حاضرًا في الذاكرة والقلب.
وهناك فقر آخر قد يظل خفيًا وسط زحمة الحياة؛ فقر الكلمة الطيبة. كلمة تشجيع قادرة أن ترفع معنويات طالب يظن أنه فشل، أو تزرع الثقة في موظف يكدّ كل يوم من دون أن يسمع كلمة تقدير. أحيانًا ما ينتظر الإنسان شيئًا بسيطًا فقط: عبارة مثل «زين سويت»، «وجودك يفرحنا»، أو ابتسامة صادقة تكفي لتغيّر يومه. هذه الكلمات البسيطة تبقى في القلب طويلًا، وتتحول إلى دافع. وعندما تغيب، يصبح الناس كأنهم يعملون ويعيشون في فراغ، بلا سند معنوي يشدّهم إلى الأمام.
ويمتد الفقر أحيانًا ليصل إلى الحوار بين الأجيال. ففي كثير من البيوت، يعيش الأبناء في عالم التقنية السريع، بينما يتمسك الآباء بعاداتهم وأساليبهم القديمة. النتيجة أن الجسر يضيق، والكلام يقل. قد يجلس الجميع حول مائدة واحدة، لكن كل واحد منهم في عالمه الخاص.
وهذا الصمت يتراكم حتى يصبح فجوة حقيقية تُبعد أفراد العائلة عن بعضهم. وكسر هذه الفجوة لا يحتاج إلى أكثر من بادرة بسيطة، سؤال، أو مشاركة صادقة، أو لحظة إنصات تعيد الوصل.
ومثلما يسرق الانشغال الوقت من علاقة الوالد بأبنائه، فإنه يتسلل بهدوء إلى الحياة الزوجية أيضًا. قد يعيشان تحت سقف واحد، لكنهما لا يجلسان معًا إلا لمناقشة الفواتير أو التزامات الأولاد. تغيب الأسئلة الصغيرة التي تُبقي الود حاضرًا؛ «كيف كان يومك؟» أو «ما الذي أفرحك اليوم؟». ومع مرور الأيام، يضعف الحوار ويخفت الشعور بالمشاركة، فيتحول البيت إلى مكان عبور يومي بدلا من أن يكون حضنًا يمدّهما بالطاقة والدفء.
وهناك وجه آخر للفقر لا يُرى بالعين لكنه يثقل الداخل وهو فقر الروح والمعنى. أن يعيش الإنسان في بيت مريح، ويملك ما يحتاجه من مال، لكنه لا يجد هدفًا يملأ أيامه بالجدوى. هذا النوع يظهر حين تتشابه الأيام وتفقد نكهتها، بلا شغف ولا رسالة. وعلاجه لا يكون بزيادة الراتب أو شراء ممتلكات جديدة، وإنما بالبحث عما يوقظ القلب: عمل تطوعي، أو اهتمام ثقافي، أو حتى عادة بسيطة تمنح الرضا. حين يتوفر هذا المعنى، يشعر المرء بثراء داخلي ينعكس على صحته وعلاقاته، ويعطيه قدرة أكبر على العطاء.
كل هذه الأشكال تقول إن الفقر لا يقتصر على المال. قد يكون في الوقت الذي نفقده مع أحبّتنا، أو في الكلمة التي نبخل بها، أو في الصمت الذي يبعدنا عن بعضنا. وقد يكون في المعنى الذي نفتقده ونحن نعيش أيامًا متشابهة. علاجه لا يحتاج دائمًا إلى خطط ضخمة، بل إلى مبادرات صغيرة: مكالمة هاتفية لمن لا يتوقع صوتنا، زيارة لأخت لم نرها منذ زمن، أو جلسة قصيرة مع ابن يطلب اهتمامًا أكثر من أي شيء آخر.
اليوم العالمي للقضاء على الفقر مناسبة لنتأمل هذه الجوانب الخفية، ونمنحها بعضًا من اهتمامنا. فالمجتمع الغني ليس فقط ذاك الذي يملك دخلًا أعلى، بل الذي يملك علاقات أدفأ، وحوارًا أعمق، ومعنى أوسع للحياة.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك