العدد : ١٧٣٦٥ - الأربعاء ٠٨ أكتوبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٦ ربيع الآخر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٦٥ - الأربعاء ٠٨ أكتوبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٦ ربيع الآخر ١٤٤٧هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

هذا حي وذاك حي

في‭ ‬تقديري‭ ‬فإن‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬قيل‭ ‬في‭ ‬حب‭ ‬الوطن،‭ ‬جادت‭ ‬به‭ ‬قريحة‭ ‬شاعر‭ ‬العراق‭ ‬الكبير‭ ‬بدر‭ ‬شاكر‭ ‬السياب‭: ‬إني‭ ‬لأعجب‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يخون‭ ‬الخائنون‭/ ‬أيخون‭ ‬إنسان‭ ‬بلاده؟‭/ ‬إن‭ ‬خان‭ ‬معنى‭ ‬أن‭ ‬يكون،‭ ‬فكيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون؟‭/ ‬الشمس‭ ‬أجمل‭ ‬في‭ ‬بلادي‭ ‬من‭ ‬سواها،‭ ‬والظلام‭ ‬حتى‭ ‬الظلام‭ ....‬

قيل‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬الحب‭ ‬بين‭ ‬الرجل‭ ‬والمرأة‭ ‬الكثير،‭ ‬ولكن‭ ‬قليلين‭ ‬من‭ ‬حاولوا‭ ‬تفسير‭: ‬لماذا‭ ‬يحب‭ ‬الإنسان‭ ‬وطنه،‭ ‬خاصة‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬حال‭ ‬ذلك‭ ‬الوطن‭ ‬يسبب‭ ‬الغم‭ ‬والإحباط‭ ‬بل‭ ‬والقرف‭ ‬أحيانا،‭ ‬ونحن‭ ‬بنو‭ ‬السودان‭ ‬شديدو‭ ‬التعلق‭ ‬بالوطن‭ ‬ويتحدث‭ ‬الواحد‭ ‬منا‭ ‬عن‭ ‬السودان‭ ‬فتحسبه‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬جنة‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬فنحن‭ ‬ندرك‭ ‬أن‭ ‬حال‭ ‬بلدنا‭ ‬لا‭ ‬يسر‭ ‬عدوا‭ ‬أو‭ ‬حبيبا،‭ ‬وإننا‭ ‬من‭ ‬أمم‭ ‬الأرض‭ ‬القليلة‭ ‬التي‭ ‬تتقدم‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭ ‬بخطى‭ ‬حثيثة‭ ‬مدروسة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ابتلى‭ ‬الله‭ ‬قادتنا‭ ‬بالجدل‭ ‬وقلة‭ ‬العمل،‭ ‬ولكن‭ ‬إنصافا‭ ‬للساسة‭ ‬السودانيين‭ ‬فإنهم‭ ‬يرفعون‭ ‬الرأس‭ ‬كلما‭ ‬ظهروا‭ ‬على‭ ‬شاشات‭ ‬التلفزيون،‭ ‬بقدراتهم‭ ‬الفذة‭ ‬على‭ ‬الكلام‭ ‬المركّز‭ ‬والمكثف‭ ‬حسن‭ ‬الحبك‭ ‬والسبك،‭ ‬حتى‭ ‬يقنعوا‭ ‬المشاهد‭ ‬بأن‭ ‬السودان‭ ‬كما‭ ‬ليبيا‭ ‬القذافي‭ ‬قوة‭ ‬عظمى،‭ ‬ثم‭ ‬تتأمل‭ ‬حال‭ ‬البلاد‭ ‬والعباد‭ ‬فتكتشف‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬استمعت‭ ‬إليه‭ ‬لغو‭ ‬والغ‭ ‬في‭ ‬التضليل‭ ‬والتجهيل‭.‬

وفي‭ ‬بلد‭ ‬حاله‭ ‬كذلك‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬حدوث‭ ‬مضحكات‭ ‬مبكيات،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬عثرت‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬أرشيفي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قصاصة‭ ‬من‭ ‬صحيفة‭ ‬سودانية‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬بضع‭ ‬سنوات‭ ‬عن‭ ‬رجل‭ ‬قروي‭ ‬توفي‭ ‬إثر‭ ‬علة‭ ‬لم‭ ‬تمهله‭ ‬طويلا،‭ ‬وترك‭  ‬الجثمان‭ ‬في‭ ‬العنبر‭  ‬بعد‭ ‬غسله‭ ‬وتكفينه‭ ‬ولفه‭ ‬بملاءة‭ ‬بيضاء‭ ‬نسبيا،‭ ‬إلى‭ ‬حين‭ ‬إصدار‭ ‬شهادة‭ ‬الوفاة،‭ ‬وبعد‭ ‬استيفاء‭ ‬الإجراءات‭ ‬الرسمية،‭ ‬سمحت‭ ‬سلطات‭ ‬المستشفى‭ ‬لذوي‭ ‬المتوفى‭ ‬بنقله‭ ‬للدفن‭ ‬في‭ ‬قريته،‭ ‬وهكذا‭ ‬وضع‭ ‬الجثمان‭ ‬في‭ ‬سيارة‭ ‬نصف‭ ‬نقل‭ ‬مكشوفة‭ ‬انطلقت‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬القرية‭ ‬للصلاة‭ ‬عليه‭ ‬ودفنه،‭ ‬وجلس‭ ‬بعض‭ ‬الأقارب‭ ‬حول‭ ‬الجثمان‭ ‬وهم‭ ‬في‭ ‬حزن‭ ‬عظيم،‭ ‬وكان‭ ‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬سارت‭ ‬عليه‭ ‬السيارة‭ ‬يشبه‭ ‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬أرغم‭ ‬الساسة‭ ‬البلاد‭ ‬على‭ ‬السير‭ ‬فيه،‭  ‬مليئا‭ ‬بالحفر‭ ‬والمطبات،‭ ‬فظلت‭ ‬الشاحنة‭ ‬الصغيرة‭ ‬تتقافز‭ ‬بينما‭ ‬مفاصلها‭ ‬تئن‭ ‬وتزنّ،‭ ‬مما‭ ‬ضايق‭ ‬المتوفى،‭ ‬فهب‭ ‬من‭ ‬سريره‭ ‬جالسا‭ ‬وهو‭ ‬يطنطن‭: ‬شنو‭ ‬الحكاية‭ ‬يا‭ ‬جماعة؟‭ ‬دي‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬أشوف‭ ‬سرير‭ ‬مستشفى‭ ‬هزاز؟‭ ‬في‭ ‬زلزال؟‭ ‬ثم‭ ‬نظر‭ ‬إلى‭ ‬الجالسين‭ ‬حول‭ ‬سريره‭ ‬واكتشف‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬أيا‭ ‬منهم‭ ‬وتساءل‭: ‬من‭ ‬أنتم؟‭ ‬وبداهة‭ ‬فقد‭ ‬قفز‭ ‬جميع‭ ‬من‭ ‬كانوا‭ ‬في‭ ‬الشاحنة‭ ‬المندفعة‭ (‬لأن‭ ‬سائقها‭ ‬كان‭ ‬يركز‭ ‬على‭ ‬تفادي‭ ‬المطبات‭) ‬وسقطوا‭ ‬أرضا،‭ ‬وأصيب‭ ‬معظمهم‭ ‬بكسور‭ ‬مركبة‭ ‬وتمت‭ ‬إعادتهم‭ ‬إلى‭ ‬المستشفى‭ ‬مع‭ ‬الميت‭ ‬الذي‭ ‬نهض‭ ‬من‭ ‬مواته‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬‮«‬غيّر‭ ‬رأيه‮»‬‭ ‬لسبب‭ ‬بدهي‭ ‬وهو‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ميتا‭ ‬أصلا‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬السرير‭ ‬الملاصق‭ ‬للمتوفى‭ ‬ويغط‭ ‬في‭ ‬نوم‭ ‬عميق‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬مخدر‭ ‬ملتحفا‭ ‬ملاءة‭ ‬بيضاء‭ ‬نسبيا،‭ ‬وتم‭ ‬تسليمه‭ ‬للجماعة‭ ‬باعتباره‭ ‬الميت‭ ‬الذي‭ ‬يخصهم،‭ ‬فساروا‭ ‬به،‭ ‬وأيقظته‭ ‬المطبات،‭ ‬فنجا‭ ‬من‭ ‬الدفن‭! ‬يعني‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬الطريق‭ ‬ممهدا‭ ‬ومسفلتا‭ ‬لكانوا‭ ‬قد‭ ‬دفنوه‭ ‬حيا‭ (‬وبسبب‭ ‬حرصها‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬المواطنين‭ ‬البسطاء‭ ‬في‭ ‬الأرياف‭ ‬فإن‭ ‬الحكومة‭ ‬لا‭ ‬تسفلت‭ ‬الطرق‭ ‬في‭ ‬المناطق‭ ‬الريفية‭). ‬وفي‭ ‬بلدة‭ ‬صغيرة‭ ‬تقع‭ ‬جنوب‭ ‬الخرطوم‭ ‬سقط‭ ‬عامل‭ ‬بناء‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬سقالة،‭ ‬وأصيب‭ ‬بكسور،‭ ‬فوضعه‭ ‬زملاؤه‭ ‬على‭ ‬سرير‭ ‬وساروا‭ ‬به‭ ‬صوب‭ ‬المستشفى‭ ‬حاملين‭ ‬السرير‭ ‬على‭ ‬أكتافهم،‭ ‬فرآهم‭ ‬بعض‭ ‬المارة‭ ‬وكعادة‭ ‬أهل‭ ‬السودان‭ ‬تطوعوا‭ ‬لحمل‭ ‬السرير‭ ‬لبعض‭ ‬الوقت‭- ‬في‭ ‬السودان‭ ‬يتسابق‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬حمل‭ ‬جثمان‭ ‬المتوفى‭ ‬كلما‭ ‬مرت‭ ‬بهم‭ ‬جنازة‭- ‬طبعا‭ ‬اعتقدوا‭ ‬أن‭ ‬المحمول‭ ‬على‭ ‬الآلة‭ ‬الحدباء‭ ‬ميت،‭ ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬العامل‭ ‬المصاب‭ ‬أحس‭ ‬بالألم‭ ‬وأراد‭ ‬أن‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬يحملونه‭ ‬بالتوقف‭ ‬قليلا‭ ‬أو‭ ‬السير‭ ‬بخطى‭ ‬بطيئة،‭ ‬فأنزل‭ ‬يده‭ ‬وربت‭ ‬على‭ ‬كتف‭ ‬أحد‭ ‬المتطوعين،‭ ‬وبداهة‭ ‬فقد‭ ‬أصيب‭ ‬الرجل‭ ‬بلوثة‭ ‬لأنه‭ ‬حسب‭ ‬أن‭ ‬المتوفى‭ ‬نهض‭ ‬من‭ ‬مواته‭ ‬فأفلت‭ ‬السرير‭ ‬من‭ ‬يده‭ ‬وسقط‭ ‬العامل‭ ‬أرضا‭ ‬فدقت‭ ‬عنقه‭ ‬فمات‭!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا