مع حلول الذكرى الثانية لبدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، تبرز صورة مأساوية: مقتل ما يزيد على 10% من سكان القطاع، نزوح شبه كامل للبقية، وتعرض عشرات الآلاف من المدنيين –بمن فيهم الأطفال– إلى جوع متعمَّد جراء خنق ائتلاف نتنياهو المتطرف لإمدادات المساعدات الإنسانية. ورغم هذه المعاناة الهائلة، تواصل الحكومات الغربية دعمها للحرب الإسرائيلية بطرق عدة: عبر الحماية الدبلوماسية من المساءلة القانونية الدولية، والاستمرار في العلاقات الاقتصادية، وإمداد إسرائيل بأسلحة يعلم الجميع أنها تُستخدم ضد المدنيين الفلسطينيين.
وعلى الرغم من أن هذه الدول تحمل في أيديها مفاتيح التأثير، فإن سلوك صناع القرار في عواصم مثل واشنطن ولندن وباريس وبرلين وروما وبروكسل على مدى العامين الماضيين يشير إلى أن دعم إسرائيل لم يتزعزع. في هذا السياق، يلفت الصحفي جيمي ديتمر، بمجلة بوليتيكو، الانتباه إلى أن نتنياهو يمضي في تنفيذ مخططه لتدمير غزة كاملاً، معتمدًا على الفرضية القائلة إن هذه الحكومات الغربية، بمجرد التوصل إلى وقف إطلاق نار، ستتجاهل أو تسامح جرائم الحرب التي ارتُكبت.
لكن ما الذي تغير فعلاً؟ منذ أكتوبر 2023، بدأ الرأي العام الغربي يُظهر تصدعات في الولاء أو التكتّم بشأن السياسات الإسرائيلية. في أوروبا، لاحظت سنام فاكيل، بالمعهد الملكي للشؤون الدولية، «تحولًا جذريًا» في النظرة إلى الجرائم الإسرائيلية، معتبرة أن هذا التحول ساعد على «كسر التابوهات» حول الانتقاد العلني لانتهاكات إسرائيل، سواء تلك ذات البعد التاريخي أو الأحدث منها.
في الولايات المتحدة – حيث كانت إدارة ترامب تُصنَّف أكبر داعم سياسي واقتصادي وعسكري لإسرائيل– نقلت نيويورك تايمز مؤخرًا عن حدوث «تحول زلزالي» في التأييد الشعبي لإسرائيل، في حين أبرزت فيليشيا شوارتز، في بوليتيكو، أن هذه الديناميكية الجديدة تتغلغل حتى في سياق الانقسام الحاد بين الديمقراطيين والجمهوريين.
رغم ذلك، تعاني هذه التحولات من تحدٍّ مركزي: تجاهل الحكومات الغربية المتكرر لإدانات المنظمات الدولية بشأن ممارسات إسرائيل، مثل إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه آنذاك يوآف جالانت في نوفمبر 2024، وإعلان لجنة التحقيق المستقلة التابعة للأمم المتحدة في سبتمبر 2025 بأن الممارسات الإسرائيلية تُشكّل «إبادة جماعية». في ظل هذا التجاهل الرسمي، قد يتحول الضغط الشعبي الداخلي إلى الوسيلة الفاعلة الوحيدة لدفع الحكومات إلى الاعتراف الكامل بجرائم الحرب واتخاذ خطوات فعلية تجاهها.
تُشير التجربة الإيطالية إلى أن التأثير الشعبي ممكن، لكن التغيير بطيء جدًا. فمع أن الحكومة الإيطالية –التي كانت تُعد من أكثر الحكومات الأوروبية دعمًا لإسرائيل– اضطرت تحت ضغط الإضرابات الوطنية إلى تعديل موقفها، إلا أن هذا التعديل جاء متأخرًا جدًا مقارنة بحجم الخسائر البشرية، ولم يفلح في منع سقوط آلاف الضحايا الذين كان من الممكن تجنّبهم لو اتخذت هذه الحكومة موقفًا أكثر جرأة في وقت مبكر.
أما في الغرب عموماً، فتبقى الفجوة بين سياسات الحكومات ورغبات شعوبها كبيرة جدًا؛ وطالما بقي هذا التباعد قائماً، فإن مسؤولية التواطؤ في جرائم الحرب الإسرائيلية ستظل تُحمَّل لصناع القرار الغربيين. إن الشرارة الحقيقية التي قد تُحدث تحولًا في الموقف الغربي تجاه إسرائيل لن تأتي من لندن أو برلين أو واشنطن وحدها، بل من الشارع المؤيد للقصاص والعدالة.
الدلائل التي تُظهر صدوع الرأي العام كثيرة وواضحة. ففي المملكة المتحدة، أظهر استطلاع أجرته شركة إبسوس في منتصف سبتمبر 2025 أن أكثر من نصف البريطانيين (53 %) يرون أن هجمات إسرائيل على غزة قد «تجاوزت الحد». وغرابة أن هذا الموقف لم يقتصر على الأحزاب المعروفة بميولها اليسارية، بل شمل أيضًا مناصري حزب المحافظين وكتلة الإصلاح، بنسبة 51 %. وتصاعد مستوى المعارضة كان شديدًا في صفوف مناصري حزب الديمقراطيين الليبراليين (73 %) وحزب العمال (65 %).
وفي كندا، طرحت نتائج استطلاع أجرته مؤسسة أنجوس ريد في وقت سابق أن 37 % من الكنديين يتعاطفون مع معاناة الفلسطينيين، مقابل 19 % أبدوا تأييدًا لإسرائيل، في تحول ملحوظ عن المواقف التقليدية.
أما في أوروبا القارية، فقد شهدت الأشهر الخمسة الماضية تنظيم أكثر من 2000 احتجاج ضد جرائم الحرب الإسرائيلية، حسب «مشروع بيانات موقع النزال المسلح وأحداثها» - أي ما يعادل أكثر من 15 تظاهرة يوميًا. وفي استطلاع أجرته شركة يوغوف في يونيو 2025، تراجع صافي التأييد لإسرائيل إلى معدلات سالبة كبيرة، إذ بلغ -48 في فرنسا، -44 في ألمانيا، -52 في إيطاليا، -54 في الدنمارك، و-55 في إسبانيا. عمومًا، أصبح لدى ما بين 63 و70 % من الأوروبيين رأي سلبي تجاه إسرائيل، مقابل 13 إلى 21 % فقط ممن يرونها إيجابية.
وفي ألمانيا على وجه الخصوص، ورغم أن نحو نصف الاحتجاجات المؤيدة لإسرائيل (51 احتجاجًا) جرت في أوروبا خلال النصف الأول من 2025، تشير استطلاعات أغسطس إلى أن ثلثي الألمان يطالبون حكومة فريدريش ميرتس بممارسة ضغوط أكبر على إسرائيل لوقف الحرب. كما رفضت غالبية كبيرة (62 %) فكرة أن ألمانيا تتحمّل مسؤولية خاصة في حماية إسرائيل بسبب ماضيها التاريخي، ما يكشف عن رغبة شعبية في فصم الدعم السياسي الإسرائيلي عن الذنب التاريخي.
في الولايات المتحدة، يكشف تطور العلاقة بين الإسرائيليين والجمهور الأمريكي عن تحول واضح في العزلة الدولية لإسرائيل. وفقًا لاستطلاع مشترك بين نيويورك تايمز وجامعة سيينا الإيطالية، فإن نسبة الأمريكيين المتعاطفين مع الفلسطينيين (35 %) فاقت لأول مرة نسبة المؤيدين لإسرائيل (34 %). وهذا يمثل تغيرًا ملحوظًا عمّا كان عليه الوضع في أكتوبر 2023، عندما أيد 47 % من الأمريكيين إسرائيل، بينما كان التعاطف مع الفلسطينيين لا يتجاوز 20 %.
وفي خطوة إحصائية تدعم هذا التغير، أشار مجلس شيكاغو للشؤون العالمية في مارس 2025 إلى أن 61 % من الأمريكيين يعتقدون أن إسرائيل «تلعب دورًا سلبيًا في حل التحديات الرئيسية التي تواجه الشرق الأوسط». وبعد أربعة أشهر فقط، انخفاض الدعم المحلي للإبقاء على العنف الإسرائيلي، إذ أظهرت الإحصاءات أن 32 % فقط من الأمريكيين يدعمون استمرار العنف ضد غزة، مقارنة بأكثر من 50 % في أكتوبر 2023. وفي الوقت الحاضر، يؤكد نحو ستة من كل عشرة أمريكيين على ضرورة أن تنهي إسرائيل قصفها فورًا، وأن 40 % يرون أنها قصفت المدنيين عمدًا، مقارنة بـ 22 % في ديسمبر 2023.
ولقد لفت انتباه الكاتب ليزا ليرير وروث إيجيلنيك في نيويورك تايمز إلى أن هذا التراجع الكبير في الدعم الداخلي للإسرائيليين له دلالة خاصة في كونه جمع بين الجمهوريين والديمقراطيين، في وقت تندر فيه القواسم المشتركة بين أنصار الحزبين. في هذا السياق، أشار شوارتز إلى أن نسبة الناخبين الجمهوريين الذين تجاوزوا سن الخمسين ويعبرون عن آراء سلبية تجاه إسرائيل قد وصلت إلى 50 %. وحتى في صفوف أنصار حركة «لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى»، انتقدت بعض الشخصيات تصرفات إسرائيل. على سبيل المثال، عضوة الكونغرس مارجوري تايلور غرين وصفت العنف الإسرائيلي بإبادة جماعية، وأدانت «الأزمة الإنسانية والتجويع» المفروضين على المدنيين الفلسطينيين.
لكن التحوّل الشعبي وحده ليس كافيًا لتحطيم جدار تبلد الحكومات الغربية. ففي كثير من الحالات، تُقابل هذه التحولات بتجاهل أو صمت من السلطات السياسية. على سبيل المثال، في المملكة المتحدة - حيث يرى 46 % أن الحكومة تعاملت مع الحرب بشكل سيئ و49 % أن أداء رئيس الوزراء كير ستارمر سيئ - فإن أي رد فعل رسمي من داونينغ ستريت تجاه اقتراح الاعتراف بإبادة جماعية في غزة لم يخرج عن الصمت، ما يفضح مدى التواطؤ السياسي داخل الأروقة الحاكمة.
في السياق المقارن، تُعد إيطاليا مثالًا على أن الضغط الشعبي قد يغيّر السياسات، ولكن حتى هذه التجربة لا ترقى إلى سرعة كافية لتقليل الخسائر البشرية. إذ أن ميلوني - التي كانت من أكبر المؤيدين لإسرائيل في بدايات العدوان– اضطرت في نهاية المطاف، بعد إضرابات عامة واسعة، إلى الاعتراف ضمنيًّا بأن الجيش الإسرائيلي «يتسبب في مذبحة بين المدنيين»، ثم دعم خطة أوروبية لمعاقبة إسرائيل.
وفي الجانب الأوروبي الأوسع، قدّم البعض رأيًا مثل رأي أغنيس كالامار، الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية، بأن تراجع المواقف جاء «متأخرًا بشكل مخزٍ». أما مارتن كونيكني، مدير مشروع الشرق الأوسط الأوروبي، فرأى أن تلك العقوبات المقترحة كانت «قليلة جدًا ومتأخرة جدًا» بالنسبة إلى حجم الكارثة التي تجاهلتها بروكسل.
وفي الجانب الأمريكي، أثارت دعوة مستشار الأمن القومي السابق جيك سوليفان إلى تقييد مبيعات الأسلحة الأمريكية تساؤلات عميقة حول لماذا لم تُتخذ مثل هذه الخطوة على أرض الواقع بينما كنت الإدارة في الحكم بين أكتوبر 2023 ويناير 2025. فزعم سوليفان بأن «الحجة لحجب الأسلحة أقوى بكثير مما كانت عليه قبل عام» يغفل تحذيرات محكمة العدل الدولية من إمكانية وقوع إبادة جماعية في أوائل 2024، وتحذيرات خبراء الأمم المتحدة، بما في ذلك المقررة الخاصة فرانشيسكا ألبانيزي، من وقوع إبادة جماعية خلال تلك السنة.
ولذلك، تقدمت منظمة الديمقراطية من أجل العالم العربي الآن بطلب إلى المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في تورّط الإدارة الأمريكية الديمقراطية في ارتكاب جرائم حرب بحق المدنيين الفلسطينيين. هذا الطلب يُعبّر عن مدى الإحباط من عدم قيام الولايات المتحدة بدورها الحقوقي في مجابهة انتهاكات إسرائيل.
وفي الختام، إذا كانت هناك إرادة سياسية حقيقية في الغرب، فإن الضغط الشعبي المتنامي يمكن أن يُحوّل المواقف، ويُجبر الحكومات على الانحياز إلى الحق بدلاً من الوقوف إلى جانب من ينتهكونه. طالما بقيت الفجوة بين إرادة الشعوب وسياسات النخب قائمة، فإن عزل إسرائيل الشكلي سيستمر، وستظل الحكومات الغربية متورطة في جرائم الحرب عبر الصمت أو الدعم المباشر. ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر الآن هو ترجمة الدعم الشعبي إلى مواقف سياسية فعلية تُفضي إلى مساءلة حقيقية وإنصاف للشعب الفلسطيني.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك