حوادث وكوارث بيئية صحية كثيرة متطابقة في نوعيتها وتأثيراتها وقعت في كبريات الدول المتقدمة الغربية والشرقية، وتؤكد هذه الحوادث أن هذه الدول الصناعية المتطورة اتبعت منهجاً واحداً لا غير في النمو، وتبنت سياسة واحدة متشابهة في تنفيذ برامجها التنموية، وطبقت واستعانت بنمطٍ واحد للأنشطة التنموية في جميع القطاعات الاقتصادية وغير الاقتصادية، ولذلك حصدت جميع هذه الدول نتيجة واحدة متطابقة، بالرغم من اختلافها وتباعدها الجغرافي، وهي تدمير شامل لكل مكونات البيئة، ووقوع كوارث صحية أودت بحياة الآلاف من الناس بين المرض العضال والموت البطيء.
وهذا النمط من النمو اعتمد على عدة فرضيات ومفاهيم خاطئة كانت تسود في كل دول العالم المتقدمة. الأول: إن البيئة ومكوناتها من مسطحات مائية من الأنهار والبحار والمحيطات، والهواء الجوي، عبارة عن أوساط بيئية واسعة وشاسعة في مساحاتها، وعظيمة في امتداداتها، بحيث إنها تستطيع أن تستوعب وتتكيف مع كل ما يُلقى في بطنها من ملوثات سامة وخطرة ومسرطنة، وأن هذه البيئات بفضل حجمها الهائل قادرة على تمييع وتخفيف هذه الملوثات مهما كانت أحجامها. ولذلك فتأثيراتها الضارة تنتهي مع الوقت وتزول، فيقل تركيزها، وتضمحل مردوداتها على صحة البيئة.
والثاني هو اعتبار استقلالية الأوساط البيئة وانفصال بعضها عن بعض، أي لا توجد أية روابط بين مكونات البيئة المختلفة، وأنه لا توجد علاقة وجودية ومصيرية بين كل مكون بيئي وآخر، فإذا اشتكى عضو من مكونات البيئة فإن سائر الأعضاء الأخرى لن تتداعى معها بالسهر والحمى، أي لا تتأثر بما يصيبها. والمفهوم الخاطئ الثالث هو أن مكونات البيئة غير متناهية مهما فعلنا بها، وأن الموارد والثروات البيئية لا تنضب ولا تنتهي ولا تضعف من الناحيتين النوعية والكمية. وأما المفهوم الرابع الذي كان يعتقده الإنسان هو أن سعادة الإنسان ورفاهيته، ورفع مستوى معيشته يتحقق فقط بالنمو السريع غير المنضبط وغير المقيد بأية عوامل أخرى، مثل العامل البيئي، فلا ضير من تلويث البيئة، ولا تداعيات ستصل إلى الإنسان ومجتمعه من سوء إدارة مكونات وعناصر البيئة.
فهذا الفكر المعوق، وهذه الاعتقادات الضيقة وقصيرة الأمد التي مشت عليها الدول في الغرب والشرق، وسارت عليها لتنفيذ برامجها التنموية، ولَّدت عندهم مشكلات بيئية خطيرة متطابقة بسبب تطابق الأفكار والممارسات.
وسأُقدم مثالاً واحداً لتطابق الأفكار والأعمال وتطابق النتائج في الدول الصناعية المتقدمة، وهي اعتبار بيئة الأنهار، وهذه المسطحات المائية مواقع خصبة وصالحة للتخلص من ملوثات المصانع وغيرها. فالمثال الأول من قارة أمريكا الشمالية، وبالتحديد من مدينة شيكاغو في أمريكا، والثاني من قارة أوروبا ونهر السين في باريس، والثالث من اليابان من قارة آسيا وبالتحديد نهر جنتسو.
فمدينة شيكاغو العريقة في ولاية إيلينوي تتميز بهذا النهر الحضري الذي يبلغ طوله 251 كيلومتراً، أي النهر الذي يسير ويجري عبر قلب المدينة الحضرية، وفي مركزها الصناعي والتجاري الحيويين. ولكن بالرغم من وجود هذا النهر العظيم، وهذه الثروة المائية الهائلة، وهذا المورد الكبير، إلا أن الإنسان حُرم منذ قرابة مائة عام، أي منذ عام 1926 حتى 21 سبتمبر 2025، من التمتع بهذه الثروة الغنية، وتم حظر السباحة فيه كلياً، وانخفض بشكلٍ مشهود التنوع الحيوي في النهر من كل أنواع الحياة الفطرية التي تعيش في الأنهار. فالإنسان منذ القرن الماضي اعتبر هذا النهر بيئة مائية خصبة يمكن التخلص من كل مخلفاته السائلة، وشبه الصلبة، سواء أكانت مياه المجاري المعالجة وشبه المعالجة، أو المخلفات الصناعية السائلة، أو مسالخ مدينة شيكاغو، حيث اتبع الإنسان الطريقة الأسهل والأرخص، والأقل كلفة من الناحية المالية والتشغيلية على المدى القريب، فما كان منه إلا أن سمح لنفسه صرف جميع المخلفات من مصادرها المختلفة التي كانت موجودة على ضفاف النهر في بطن هذا المورد الثري والغني بالحياة. وبعد سنوات من رمي أحجامٍ كبيرة من المخلفات لم يعد النهر قادراً على تحمل المزيد، ولم يتمكن النهر من تخفيف تأثير هذه المخلفات في جسمه العليل، وبدنه الضعيف، فبدأت أعضاؤه تشتكي وتتألم من شدة الأضرار التي لحقت به، فتلوث ماء النهر إلى درجة لم يكن صالحاً للشرب والاستحمام وممارسة الرياضات المائية، كما أصابت الحياة الفطرية أعراض الحمى المزمنة والسخونة العالية، فبدأت الأسماك والأنواع الأخرى من الكائنات النهرية تموت، والانخفاض الشديد في أعدادها. فهذا الحالة الكارثية التي وصلت إليها بيئة النهر على مدى عقود من الزمن، حرَّكت المنظمات والجمعيات المعنية بالبيئة إلى البدء سريعاً في إخراج النهر من حالة الإنعاش، والقيام بالإجراءات العلاجية اللازمة والضرورية لإخراج النهر من غرفة الطوارئ بشكلٍ عاجل. وقد نجح الإنسان في إجراء العملية العاجلة قبل إعلان وفاة النهر، ولكن الكلفة كانت باهظة جداً من الناحية الاقتصادية، والبيئية، والصحية، والاجتماعية، والترفيهية، مما أكد للجميع أن الممارسات التي قام بها الإنسان قبل قرن وامتدت سنوات طويلة كانت غير مستدامة.
وما وقع لنهر شيكاغو في أمريكا، تكرر نفسه مرة ثانية في أوروبا، وبالتحديد في نهر السين في القلب الحيوي النابض للعاصمة الفرنسية، باريس. فهذا النهر التاريخي والثقافي يبلغ طوله 777 كيلومتراً، ويعد من أهم معالم باريس خاصة، وفرنسا عامة، ولكن هذا النهر تعرض لتعديات الإنسان على حرماته والإضرار بكل أعضاء جسمه، فنظراً لأنه يمشي في وسط المدينة وحوله محطات مياه المجاري والمصانع والمسالخ، فقد صُرفت في بطنه جميع أنواع المخلفات، حتى تشبعت به، فارتفع صوته من الألم والمعاناة الشديدة، فمنع الإنسان نفسه في عام 1923 السباحة في النهر، وتم الحظر على استهلاك الكائنات الفطرية الحية التي كانت تعيش في النهر. ولم يفتح النهر أبوابه للناس إلا في 5 يوليو 2024، أي بعد قرابة 100 عام من إغلاقه تزامناً مع بدء الألعاب الأولمبية الصيفية في باريس في يوليو 2024.
ومن قارة أمريكا الشمالية وقارة أوروبا، ننتقل بكم إلى قارة آسيا في اليابان، حيث المشهد نفسه بكل تفاصيله يتكرر مرة ثالثة، فالأسباب لم تتغير، والنتائج والظواهر التي نتجت عنها متطابقة أيضاً. وهنا نقف أمام نهر جينزوا في مقاطعة توياما الذي تم العبث بصحته وأمنه من خلال صرف مياه المناجم الملوثة بالعناصر الثقيلة السامة في بدن هذه النهر الفطري الطبيعي وهذه الهبة الربانية، وعلى رأسها عنصر الكادميوم والرصاص وغيرهما. ومع استمرار صرف السموم، زاد تركيز الملوثات وتراكمت في مياه النهر التي كانت تستخدم لري أراضي الأرز، مما أصاب الشعب بمرضٍ شديد زلزل الصحة العامة وأُطلق عليه «إتاي_إتاي»، أي «مؤلم_مؤلم». وبعدها تم إغلاق أبواب النهر للسباحة، وصيد الأسماك، ومنع استخدام مياه النهر للزراعة، ولم يسترجع النهر صحته وعافيته إلا بعد قرابة قرن من الزمن.
فهذه الأمثلة الثلاثة ما هي إلا غيض من فيض من أمثلة لا تعد ولا تحصى، ومن مظاهر بيئية، وكوارث صحية نزلت على الدول الصناعية المتقدمة الكبرى بسبب ممارساتها غير المستدامة، وتصرفاتها غير المسؤولة والأحادية الجانب، مما يضطرنا إلى الوقوف أمامها للاتعاظ بها، والاستفادة من زلاتها، والاعتبار من هفواتها، وتجنب تكرار الممارسات التنموية الخاطئة التي وقعوا فيها، وإذا لم نفعل ذلك فالنتيجة معروفة ومحسومة، وهي دمار بيئي، وفساد صحي، وتنمية غير مستدامة.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك