لطالما شدتني الأحداث التي تخلِّد منجزات الإنسان، وكان قلبي يمتلئ بالشغف للتعبير، ويداي مستعدة للبدء في الكتابة عن يومٍ يحتفي بمن زرع فينا بذور العلم والمعرفة، تذكرت معلمتي التي غرسَت فيّ حب التعلم، وكانت كلماتها تشجعني دائمًا في كل مرة أشعر فيها بالتردد أو الخوف، تقول لي: «أرى لك مستقبلا جميلا»، و«استمري في التقدم، سيكون لك شأن كبير»، و«ابدئي من هنا»، كانت لكلماتها التشجيعية أثر كبير في تحول خجلي إلى ثقة، وقلقي إلى إبداع، لقد حفرت في عقلي أثرًا لا يُنسى. واليوم، في الخامس من أكتوبر، يوم المعلم، أتذكرها بكل امتنان، وأجد في هذه المناسبة فرصة لتقدير كل معلمٍ ترك بصمةً خالدة في حياتنا، وألهمنا حب العلم والمعرفة، ليظل رمزًا للنور والإلهام الذي يضيء دروب الأجيال.
في الخامس من أكتوبر من كل عام، تتجه أنظار العالم كله على اختلاف عاداته وأعرافه إلى أصحاب القلوب البيضاء والعقول النيرة، إلى من وهبوا حياتهم لإيقاظ الوعي، وصناعة الإنسان، وبناء الأجيال... إنهم المعلمون، بناة الفكر وحراس القيم، الذين لا يكتفون بتعليم الدروس، بل يغرسون في النفوس بذور المعرفة، ويضيئون في العقول شموع الأمل.
يوم المعلم ليس مجرد مناسبة عابرة في التقويم، بل هو محطة للتأمل في أثر المعلم العظيم في حياتنا، فمن منا لا يذكر معلمًا آمن به حين شكّ في قدراته؟ ومن منا لا يتذكر يدًا وضعت على كتفه بحب وحنانٍ لتقول له: «أنت تستطيع»؟ «أنت قادر»، تلك اللحظات الصغيرة التي قد لا يدرك المعلم قيمتها، كانت في حياة كثيرين الشرارة الأولى نحو النجاح، والنبراس الذي أنار لهم دروب المستقبل.
في هذا اليوم، تُرفع القبعات احترامًا لصوتٍ صدح بالعلم، ولقلمٍ كتب دروسًا من نور، ولعينٍ سهرت تراجع أوراقًا، ولقلبٍ امتلأ بالعطاء دون انتظار مقابل.
المعلم الحقيقي هو من لا يُقاس أثره بالدرجات أو الشهادات، بل بالأرواح التي ألهمها، وبالأجيال التي أنار طريقها، وإنّ الأمم لا تنهض إلا على سواعد المعلمين، فهم من يصنعون الحضارة، ويرسمون ملامح المستقبل في كل إنجاز علمي، وفي كل نجاح تربوي، وفي كل طالبٍ أصبح قائدًا أو عالمًا أو طبيبًا أو مبدعًا، يقف خلفه معلم آمن به، فكان له مرشدًا وموجهًا وقدوة.
وفي زمنٍ تتغير فيه الأدوات وتتطور الأساليب، يبقى المعلم جوهر العملية التعليمية، فهو القلب النابض للمدرسة، والعنصر الذي لا يمكن استبداله بالتقنية الحديثة أو ما يسمى بالذكاء الاصطناعي، فالعلم بلا روح يفقد معناه، والتعليم بلا معلم يفتقر إلى الدفء الإنساني الذي لا يُستعاض عنه بشي آخر.
يوم المعلم هو يوم الاعتراف بالجميل، يوم نُعبّر فيه عن امتناننا لكل من حمل رسالة التعليم بإخلاص، وغرس فينا حبّ التعلم، وربّى فينا الفضيلة والانتماء.
هو يوم لنقول فيه لكل معلم: «شكرًا لأنك آمنت بنا حين لم نؤمن بأنفسنا، وشكرًا لأنك زرعت فينا الأمل، وشكّلت ملامح أحلامنا، وكنت لنا نورًا في درب الحياة».
فلنقف اليوم وقفة فخر واعتزاز، ولنرفع التحية إلى كل معلمٍ في مدرسته أو جامعته أو فصله أو ميدانه، نُرسل له رسالة حب وتقدير تقول:
«يا من علمت الحرف فصنعت الفكر، يا من غرست القيم فأثمرت الأجيال، لك منا كل الوفاء والعرفان»
ولأن العالم أدرك عظمة هذا الدور وتأثيره، فقد خصصت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) يوم الخامس من أكتوبر عام 1994 ليكون يومًا عالميًا للمعلم، تخليدًا لتوقيع التوصية المشتركة بين اليونسكو ومنظمة العمل الدولية عام 1966 بشأن أوضاع المعلمين وحقوقهم ومسؤولياتهم، ومنذ ذلك التاريخ أصبح هذا اليوم فرصة للتذكير بأهمية مهنة التعليم، وضرورة دعم المعلمين وتمكينهم من أداء رسالتهم النبيلة في ظل تحديات العصر.
لقد تغيّر وجه التعليم في العقود الأخيرة، وظهرت ثورة رقمية غيرت أساليب التدريس والتعلّم، ومع ذلك ظل المعلم هو المحور الرئيس في هذه المنظومة، فالمعلم اليوم لم يعد ناقلًا للمعرفة فقط، بل أصبح قائدًا تربويًا، ومرشدًا نفسيًا، ومصممًا للتجارب التعليمية التي تنمّي مهارات التفكير النقدي والإبداعي لدى الطلبة، إنه من يواكب التحوّل من التلقين إلى التفاعل، ومن الحفظ إلى الفهم، ومن المعرفة إلى المهارة.
وفي عالم سريع الإيقاع، يتطلب من المعلم أن يكون متعلمًا مدى الحياة، متجددًا في أدواته، منفتحًا على التغيير، قادرًا على دمج التكنولوجيا بروحٍ إنسانية، تحافظ على جوهر التعليم الذي هو بناء الإنسان لا تعبئته بالمعلومات. ولذا، فإن دعم المعلم بالتدريب المستمر، وتقدير مكانته الاجتماعية والمهنية، هو الاستثمار الحقيقي في مستقبل المجتمعات والأمم.
ومن هنا تأتي أهمية أن يلتف المجتمع بمؤسساته وأفراده حول المعلم، فيقدّر جهده، ويستمع إلى صوته، ويشاركه في بناء بيئة تعليمية آمنة ومحفزة، فالمعلم ليس وحده في الميدان، بل هو جزء من منظومة متكاملة تحتاج إلى تعاون الطالب والمدرسة والأسرة والمجتمع والمؤسسات لتحقيق الرسالة السامية للتعليم.
وفي الختام، يبقى يوم المعلم مناسبة نُجدّد فيها عهد الوفاء، ونرفع فيها كلمات الامتنان الصادق لكل من كان له في حياتنا بصمة لا تُنسى، فلنكتب اليوم على صفحات قلوبنا قبل دفاترنا:
«شكرًا معلمي»، فهي الكلمة التي تختصر حكاية عمرٍ من العطاء، ومسيرة من الإلهام، ونورٍ لا ينطفئ. كما في قول الأديب مصطفى الرافعي: «المعلم هو الشعلة التي تضيْء الدروب المظلمة، وتمنح الناس بصيرة لا تنطفئ».
ولعل في حكمة سقراط ما يلخّص رسالة التعليم بأبهى صورها، إذ قال: «المعلم ليس من يملأ أوعية العقول، بل من يشعل فيها نار التفكير».
هكذا يظل المعلم رمزًا للنهضة، وصوتًا للعقل، ورسولًا للمعرفة، يستحق أن يُكرّم كل يوم، لا في الخامس من أكتوبر فحسب، بل في كل لحظة تنبض بالامتنان، كما خبرنا بذلك الأديب جبران خليل جبران حين قال: «إذا أعطى المعلم حبًا وتقديرًا، أخرج للعالم نفوسًا محبه للعلم والحياة».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك