تتجه الولايات المتحدة، في ظل العودة القوية لدونالد ترامب إلى البيت الأبيض، نحو مرحلة عسكرية غير مسبوقة، مع تعيين وزير حرب يُجاهر بازدرائه للمؤسسات الديمقراطية والقانون الدولي، ويدعو بلا مواربة إلى استخدام القوة ضد الخصوم في الداخل والخارج.
بدأ دونالد ترامب بتشكيل إدارته الجمهورية الثانية بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية لعام 2024، وسط حالة من التوجّس والنفور من جانب كبار قادة الجيش الأمريكي، حيث وصفه رئيس هيئة الأركان المشتركة السابق، مارك ميلي، بأنه «فاشي حتى النخاع». هذا التوتر زاد من صعوبة اختيار شخصية تتولى قيادة الجيش الأمريكي، الذي يُعد الأعلى تمويلًا في العالم. ورغم التوقعات بأن يختار ترامب شخصية موالية لشعاره السياسي «لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا»، جاء ترشيح بيت هيجسيث مفاجئًا، خصوصًا مع افتقاده لأي خبرة سياسية سابقة، رغم كونه ضابطًا سابقًا ومعلقًا في شبكة «فوكس نيوز».
منذ توليه المنصب في يناير، أظهر هيجسيث، البالغ من العمر 45 عامًا، ولاءه الكامل لترامب وسياسته في إقصاء المعارضين داخل وزارة الدفاع، التي جرى تغيير اسمها رسميًا إلى «وزارة الحرب» في سبتمبر. وكما أشار بيتر فيفر، أستاذ العلوم السياسية بجامعة ديوك، وهايدي أوربن من جامعة جورج تاون، فإن الأشهر الثلاثة الأولى فقط من الولاية الثانية لترامب شهدت إقالات مفاجئة طالت رئيس هيئة الأركان المشتركة، ورئيسة العمليات البحرية، وقائدة خفر السواحل، ونائب رئيس أركان القوات الجوية، ومدير وكالة الأمن القومي، إلى جانب كبار المستشارين القانونيين في مختلف فروع الجيش.
وتوقع كثيرون تصعيد هذه الإقالات أواخر سبتمبر، عندما دعا هيجسيث نحو 800 من كبار الجنرالات والأدميرالات إلى اجتماع خارج واشنطن العاصمة، دون جدول أعمال واضح، وهو ما وصفه مارك إف. كانسيان، مستشار مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، بأنه «اجتماع غير مسبوق من حيث العدد والإخطار القصير والغياب التام للشفافية»، ما فتح باب التكهنات بحدوث «تطهير داخلي» أو حتى الإعداد لتحركات عسكرية كبرى.
وفي هذا السياق، أفاد روبرت تيت من صحيفة «الجارديان» أن الخطاب الرئيسي لهيجسيث أمام القادة العسكريين عرّف «العدو الرئيسي لأمريكا» على أنه «الوعي وكل من يروج له»، منتقدًا ما اعتبره انشغالًا مفرطًا داخل الجيش بقضايا المساواة العرقية والجنسانية، ودافع بدلاً من ذلك عن «المعايير الذكورية الصارمة، والحلاقة النظيفة، والانضباط في المظهر».
ورغم أن الخطاب قوبل بصمت من الحضور، فقد سخرت كل من نانسي يوسف وميسي رايان في مجلة «أتلانتيك» من هيجسيث وترامب، مشيرتين إلى أن الاجتماع استخدم للكشف عن معايير لياقة بدنية جديدة، وأن ترامب تحدث عن استخدام المدن الأمريكية «كمناطق تدريب» لاختبار القوة العسكرية للاستخدام المستقبلي في الخارج. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أن هذا الخطاب يعكس التزامًا واضحًا من ترامب وهيجسيث بإقصاء كل الأصوات المعارضة في الدولة، بما فيها المؤسسة العسكرية، لتمرير أجندته السياسية العدوانية، داخليًا وخارجيًا، وهو ما ينذر بعواقب دولية خطيرة.
وفي خطابه بقاعدة «كوانتيكو» لمشاة البحرية شمال فرجينيا، انتقد هيجسيث ما وصفه بتحول «وزارة الحرب» إلى «وزارة مستيقظة»، وعبّر عن فخره بتنحية «العدالة الاجتماعية، والصوابية السياسية، والعفن الأيديولوجي» عن البنتاجون. واتهم بعض المفاهيم مثل «التنمر» و«القيادة السامة» بأنها أصبحت تُستخدم كسلاح ضد الجيش، مؤكدًا رفضه لسياسات المساواة، ومشدّدًا على أن القوات المسلحة الأمريكية يجب أن تلتزم فقط بـ«معايير الذكورة».
ومن اللافت أن «وزير الحرب» الأمريكي، الذي اشتكى من أن «القوات البدينة مُتعبة للنظر»، وأمر قادة الجيش الأمريكي في الاجتماع بضرورة التخلص من «الجنرالات والأدميرالات البدينين»، لم يعلّق على ما إذا كانت هذه المعايير البدنية يجب أن تُطبّق أيضًا على القائد العام للقوات المسلحة، في إشارة إلى الرئيس ترامب، الذي تُعرف محاولاته المستمرة لإخفاء حالته الصحية النفسية والبدنية الحقيقية.
والأهم من ذلك، أن تصريحات بيت هيجسيث لكبار الجنرالات الأمريكيين لم تتطرق إلى التزام القوات المسلحة بالتصرف وفقًا لأعلى معايير القانون الدولي. وهذا ليس مستغربًا، إذ إن هيجسيث سبق أن رفض الالتزام باتفاقيات جنيف، ودعا بدلاً من ذلك إلى استخدام القوة المسلحة بطريقة «قاسية» و«لا هوادة فيها» و«قاتلة للغاية».
وفي خطابه خلال شهر سبتمبر، تحدث هيجسيث عن ضرورة «تحرير محاربي أمريكا»، حيث قال إن «الجنود يقتلون الناس ويدمرون الأشياء لكسب لقمة العيش». وهذه الدعوة المفتوحة للعنف المفرط والتدمير المنفلت تنذر بإمكانية سوء استخدام القوات المسلحة الأمريكية حول العالم، بما في ذلك احتمالية مشاركتها في ما يُسمى «قوة الاستقرار الدولية» التي يُفترض نشرها لضبط الأمن في غزة، إذا ما تم تنفيذ خطة ترامب الأخيرة للسلام، التي تتألف من عشرين بندًا.
لكن الأكثر إثارة للقلق هو ما ورد في تصريحات الرئيس الأمريكي إلى جانب هيجسيث، حيث بدا أن المواطنين الأمريكيين أنفسهم سيكونون أول من يتعرض لعنف تلك القوة. فبعد نشره للحرس الوطني في عدة مدن أمريكية، شدد ترامب على أن حكومته تواجه «عدوًا داخليًا»، مدعيًا أن «الاضطرابات المدنية» لا يمكن احتواؤها إلا بتدخل الجيش الأمريكي.
ولا يمكن قراءة خطابي ترامب وهيجسيث في أواخر سبتمبر إلا كمقدمة لتصعيد خطير في إعادة تشكيل القيادة العسكرية داخل البنتاجون، وهو ما أقره هيجسيث صراحة حين قال: «سيتم إجراء المزيد من التغييرات القيادية»، وذلك بعد إقالة 15 ضابطًا رفيع المستوى خلال الأشهر الثمانية الماضية.
وبينما أشار الباحثان فيفر وأوربن في مجلة فورين بوليسي إلى أن العديد من الضباط قد يفضلون الاستقالة بصمت، فإنهم رجحوا في الوقت ذاته أن تَقدُّم استقالات علنية كاحتجاج سيكون احتمالها ضئيلاً. ومع ذلك، فإن أيًا من هذه السيناريوهات سيخدم في النهاية برنامج إدارة ترامب، لا سيما في ظل تصريحات هيجسيث التي أكد فيها أن «كلما حصلنا على الأشخاص المناسبين بشكل أسرع، تمكنّا من تنفيذ السياسات الصحيحة بسرعة أكبر».
وفي ظل ما كشفته صحيفة نيويورك تايمز عن عزم ترامب إجراء مقابلات شخصية مباشرة قبل أي تعيين في المناصب العليا، أثار أوربن تساؤلات خطيرة حول كيفية اختيار القادة الجدد بناءً على «الولاء الشخصي والانتماء الحزبي»، وليس على أساس الكفاءة. وقد حذّر أوربن، إلى جانب فيفر، من ميل بعض ضباط الجيش الأمريكي إلى التصرف بدافع «الحفاظ على الذات المهني»، بما يتجاوز المعايير الأخلاقية، من خلال الحرص على البقاء في مناصبهم بأي ثمن، حتى لو كان ذلك على حساب القانون أو المبادئ.
ومع هذا التوجه الذي يتجاهل بشكل واضح أي التزام بالقانون الدولي، فإن الصمت الذي رافق خطاب هيجسيث قد يُفسر على أنه نوع من القبول الضمني بتحول القوات المسلحة الأمريكية نحو التطرف في مواجهة أعداء ترامب، سواء كانوا حقيقيين أو مفترضين، محليين أو خارجيين، إلى جانب أقرب مستشاريه وحلفائه الدوليين، وفي مقدمتهم حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة.
وبهذا، يبدو أن إدارة ترامب قد مُنحت اليد الطولى لتوسيع نطاق انتهاكاتها للقانون الدولي، والمضي قدمًا في تجاهلها لمبادئ حقوق الإنسان، بل وحتى تقويض مصالح شركائها الدوليين، بمن فيهم الحلفاء في منطقة الشرق الأوسط.
وفي حين انشغلت وسائل الإعلام بالسخرية من تعليقات هيجسيث حول اللياقة البدنية للضباط والجنود، فإن العواقب الأخطر تكمن في كيف أن الجيش الأمريكي، الذي يتمتع بأعلى ميزانية عسكرية في التاريخ (تُقدّر بنحو تريليون دولار في عام 2024)، سيُدار من قبل شخصيات مختارة بعناية على أساس ولائها لترامب، لتنفيذ أجندة عدوانية تتجاهل القانون الدولي، سواء داخل الولايات المتحدة أو على مستوى العالم.
بينما تنشغل بعض وسائل الإعلام بالتفاصيل الشكلية، يغيب عن المشهد أن المؤسسة العسكرية الأقوى عالميًا تُعاد صياغتها لخدمة مشروع سلطوي عابر للحدود، قد تكون تبعاته كارثية على الأمن الدولي والنظام العالمي بأكمله.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك