في ظهيرة حارّة قرب مجمع سار، توقفت بسيارتي قليلا بانتظار أحد أفراد أسرتي.
اقترب عامل آسيوي يحمل سطل ماء وقطعة قماش. كان متعبا، وصوته بالكاد يُسمع وهو يعرض تنظيف السيارة مقابل دينار. سألته إن كان يعمل مع جهة. تردد قليلا، ثم قال وهو يمسح العرق عن وجهه:
«كنت أعمل في شركة، لكنهم توقفوا عن دفع الرواتب. ومن يومها أبحث عن أي عمل أستطيع القيام به. أنظف سيارات، أرتب حدائق، المهم يصل شيء إلى أهلي».
ما رأيته بقي يرافقني بعد أن غادرت المكان. صورته وهو واقف تحت الشمس لم تفارقني، ولا أعرف إن كنت أميل للتعاطف معه أو للاستياء من مخالفته لأنظمة بلدي.
النظام ضروري، وجوده يحمي السوق من الفوضى. لكن الواقع أوسع من نصوص القانون. بعض العمال جاءوا بصدق بهدف العمل، ثم سقطوا في مشاكل الرواتب المتأخرة أو غير المدفوعة، ووعود لم تتحقق. وآخرون جاؤوا وفي نيتهم التحايل من البداية على الأنظمة والقوانين، يمارسون العمل خارج الإطار القانوني، يمارسون البيع المتجول خارج كل نظام، فمن الصعب أن نضع الجميع في خانة واحدة.
أتذكر قضية عمالية مرت عليّ قبل سنوات. كان العامل يرفض تقديم شكوى للجهة المختصة، رغم أن حقه واضح. قال لي ببساطة: «لو اشتكيت.. بيرحلوني» لم يكن خوفه من القانون نفسه، بل من شعور داخلي أن صوته قد لا يصل. عندها أدركت أن المشكلة لم تكن في القوانين، إنما في إحساس العامل أن القانون قد لا يقف معه حين يحتاجه.
لكن أثر هذا الخلل لا يتوقف عند العامل وحده. فالمواطن بدوره يتأثر حين ينعكس ضعف الالتزام بالنظام على حياته اليومية: ترتبك الأسعار، تتفاوت جودة الخدمات، ويفقد سوق العمل توازنه عندما يعمل البعض خارج الإطار النظامي بلا ضوابط تحمي الجميع.
ما لا يُلتفت إليه كثيرا هو أثر هذه الظاهرة في الاقتصاد نفسه. فالعمل في الخفاء لا يضر فقط بالعامل أو المواطن، بل يخلق سوقا موازية خارج الرقابة الرسمية، تُقدم فيها خدمات منخفضة السعر لكنها غير مضمونة الجودة.
هنا يخسر أصحاب الأعمال الملتزمون بالقانون فرص المنافسة العادلة، وتستنزف موارد الدولة في معالجة نتائج الفوضى بدلا من توجيهها نحو التنمية. لذلك، فإن معالجة العمالة المخالفة ليست مسألة قانونية فحسب، بل ركيزة لحماية اقتصاد بلد صغير يقوم على التوازن والشفافية.
جانب مهم في معالجة العمالة المخالفة هو التوعية المستمرة للعامل وللمجتمع من حوله. فالمسؤولية لا تتوقف عند تعريف العامل بحقوقه وواجباته، بل تشمل أيضا توعية أصحاب العمل والمواطنين الذين يتعاملون معه يوميا، وهنا يبرز دور الجهات الحكومية المختصة في تنظيم هذه الجهود وتنسيقها مع مختلف الشركاء.
وتزداد فاعلية هذه المساعي عندما تتكامل مع المكاتب المعنية بالعمالة الوافدة، والاتحادات العمالية، والجمعيات الحقوقية التي تتابع مثل هذه الحالات. وعندما تُوجَّه الرسائل بلغات متعددة تشرح الحقوق والواجبات بوضوح، يتحول الالتزام بالنظام إلى ثقافة مشتركة، يتأكد معها العامل والمجتمع أن القانون ضمانة تحمي الطرفين وتحفظ استقرار السوق.
وإلى جانب هذه الجهود التي يمكن أن تنهض بها مؤسسات المجتمع والجهات المختلفة، كان للحكومة خطوات عملية واضحة في السنوات الأخيرة. فقد أُقر نظام حماية الأجور، وأُنشئ صندوق مكافأة نهاية الخدمة، وشُددت الرقابة على المكاتب غير المرخصة، وفُتحت قنوات لتلقي الشكاوى.
هذه إنجازات ملموسة تؤكد جدية الدولة في ضبط السوق وحماية الحقوق، وبهذا ترسم أساسا متينا يمكن البناء عليه لمزيد من العدالة والاستقرار.
ومن الخطوات العملية التي يمكن أن تترجم هذه الجهود على الأرض، أن يتلقى العامل فور وصوله البحرين، رسالة نصية بلغته، تحتوي أهم التعليمات: أن يلتزم بالعقد، وألا يترك العمل إلا عبر القنوات القانونية، وأن يعرف الجهة التي يلجأ إليها إن واجه مشكلة. رسالة قصيرة، لكنها عملية وواضحة، تكفي لتضع النقاط على الحروف منذ اللحظة الأولى، وتؤكد له؛ مرحبا بك، ولكن ضمن نظام يحميك ويحمي البلد.
التجارب المتراكمة في هذا الملف تؤكد أن الواقع معقد، ولا تُعالجه الكلمات وحدها. المسؤولية موزعة بين أطراف عدة، فالدولة ترسم الأطر وتتابع التنفيذ، والمؤسسات مطالبة بالالتزام بها، والمجتمع بدوره يتعامل بوعي، فيما يبقى على العامل أن يحترم ما وقّع عليه. إنها معادلة لا ينجح طرف فيها من دون الآخر.
القانون وُجد ليحمي الجميع. متى طُبق بروح العدالة، فإنه قادر أن ينصف ويحفظ الكرامة من دون أن يفرط في النظام. والعمال الذين نراهم في صمت، لكل واحد منهم ظرفه الخاص وتفاصيل لا تُرى من بعيد. التعاطي مع هذه الحالات يحتاج إطارًا قانونيا واضحا، يوازن بين الصرامة والمرونة. بهذه الروح، تظل البحرين بلدا يرسخ القانون ويحفظ كرامة الإنسان.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك