العدد : ١٧٣٦٢ - الأحد ٠٥ أكتوبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٣ ربيع الآخر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٦٢ - الأحد ٠٥ أكتوبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٣ ربيع الآخر ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

العمالة المخالفة.. الواقع الإنساني والضوابط القانونية

بقلم: نبيلة رجب

السبت ٠٤ أكتوبر ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬ظهيرة‭ ‬حارّة‭ ‬قرب‭ ‬مجمع‭ ‬سار،‭ ‬توقفت‭ ‬بسيارتي‭ ‬قليلا‭ ‬بانتظار‭ ‬أحد‭ ‬أفراد‭ ‬أسرتي‭.‬

اقترب‭ ‬عامل‭ ‬آسيوي‭ ‬يحمل‭ ‬سطل‭ ‬ماء‭ ‬وقطعة‭ ‬قماش‭. ‬كان‭ ‬متعبا،‭ ‬وصوته‭ ‬بالكاد‭ ‬يُسمع‭ ‬وهو‭ ‬يعرض‭ ‬تنظيف‭ ‬السيارة‭ ‬مقابل‭ ‬دينار‭. ‬سألته‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬مع‭ ‬جهة‭. ‬تردد‭ ‬قليلا،‭ ‬ثم‭ ‬قال‭ ‬وهو‭ ‬يمسح‭ ‬العرق‭ ‬عن‭ ‬وجهه‭:‬

‮«‬كنت‭ ‬أعمل‭ ‬في‭ ‬شركة،‭ ‬لكنهم‭ ‬توقفوا‭ ‬عن‭ ‬دفع‭ ‬الرواتب‭. ‬ومن‭ ‬يومها‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬عمل‭ ‬أستطيع‭ ‬القيام‭ ‬به‭. ‬أنظف‭ ‬سيارات،‭ ‬أرتب‭ ‬حدائق،‭ ‬المهم‭ ‬يصل‭ ‬شيء‭ ‬إلى‭ ‬أهلي‮»‬‭.‬

ما‭ ‬رأيته‭ ‬بقي‭ ‬يرافقني‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬غادرت‭ ‬المكان‭. ‬صورته‭ ‬وهو‭ ‬واقف‭ ‬تحت‭ ‬الشمس‭ ‬لم‭ ‬تفارقني،‭ ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬إن‭ ‬كنت‭ ‬أميل‭ ‬للتعاطف‭ ‬معه‭ ‬أو‭ ‬للاستياء‭ ‬من‭ ‬مخالفته‭ ‬لأنظمة‭ ‬بلدي‭.‬

النظام‭ ‬ضروري،‭ ‬وجوده‭ ‬يحمي‭ ‬السوق‭ ‬من‭ ‬الفوضى‭. ‬لكن‭ ‬الواقع‭ ‬أوسع‭ ‬من‭ ‬نصوص‭ ‬القانون‭. ‬بعض‭ ‬العمال‭ ‬جاءوا‭ ‬بصدق‭ ‬بهدف‭ ‬العمل،‭ ‬ثم‭ ‬سقطوا‭ ‬في‭ ‬مشاكل‭ ‬الرواتب‭ ‬المتأخرة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬المدفوعة،‭ ‬ووعود‭ ‬لم‭ ‬تتحقق‭. ‬وآخرون‭ ‬جاؤوا‭ ‬وفي‭ ‬نيتهم‭ ‬التحايل‭ ‬من‭ ‬البداية‭ ‬على‭ ‬الأنظمة‭ ‬والقوانين،‭ ‬يمارسون‭ ‬العمل‭ ‬خارج‭ ‬الإطار‭ ‬القانوني،‭ ‬يمارسون‭ ‬البيع‭ ‬المتجول‭ ‬خارج‭ ‬كل‭ ‬نظام،‭ ‬فمن‭ ‬الصعب‭ ‬أن‭ ‬نضع‭ ‬الجميع‭ ‬في‭ ‬خانة‭ ‬واحدة‭.‬

أتذكر‭ ‬قضية‭ ‬عمالية‭ ‬مرت‭ ‬عليّ‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭. ‬كان‭ ‬العامل‭ ‬يرفض‭ ‬تقديم‭ ‬شكوى‭ ‬للجهة‭ ‬المختصة،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬حقه‭ ‬واضح‭. ‬قال‭ ‬لي‭ ‬ببساطة‭: ‬‮«‬لو‭ ‬اشتكيت‭.. ‬بيرحلوني‮»‬‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬خوفه‭ ‬من‭ ‬القانون‭ ‬نفسه،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬شعور‭ ‬داخلي‭ ‬أن‭ ‬صوته‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يصل‭. ‬عندها‭ ‬أدركت‭ ‬أن‭ ‬المشكلة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬في‭ ‬القوانين،‭ ‬إنما‭ ‬في‭ ‬إحساس‭ ‬العامل‭ ‬أن‭ ‬القانون‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يقف‭ ‬معه‭ ‬حين‭ ‬يحتاجه‭.‬

لكن‭ ‬أثر‭ ‬هذا‭ ‬الخلل‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬عند‭ ‬العامل‭ ‬وحده‭. ‬فالمواطن‭ ‬بدوره‭ ‬يتأثر‭ ‬حين‭ ‬ينعكس‭ ‬ضعف‭ ‬الالتزام‭ ‬بالنظام‭ ‬على‭ ‬حياته‭ ‬اليومية‭: ‬ترتبك‭ ‬الأسعار،‭ ‬تتفاوت‭ ‬جودة‭ ‬الخدمات،‭ ‬ويفقد‭ ‬سوق‭ ‬العمل‭ ‬توازنه‭ ‬عندما‭ ‬يعمل‭ ‬البعض‭ ‬خارج‭ ‬الإطار‭ ‬النظامي‭ ‬بلا‭ ‬ضوابط‭ ‬تحمي‭ ‬الجميع‭.‬

ما‭ ‬لا‭ ‬يُلتفت‭ ‬إليه‭ ‬كثيرا‭ ‬هو‭ ‬أثر‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬نفسه‭. ‬فالعمل‭ ‬في‭ ‬الخفاء‭ ‬لا‭ ‬يضر‭ ‬فقط‭ ‬بالعامل‭ ‬أو‭ ‬المواطن،‭ ‬بل‭ ‬يخلق‭ ‬سوقا‭ ‬موازية‭ ‬خارج‭ ‬الرقابة‭ ‬الرسمية،‭ ‬تُقدم‭ ‬فيها‭ ‬خدمات‭ ‬منخفضة‭ ‬السعر‭ ‬لكنها‭ ‬غير‭ ‬مضمونة‭ ‬الجودة‭.‬

هنا‭ ‬يخسر‭ ‬أصحاب‭ ‬الأعمال‭ ‬الملتزمون‭ ‬بالقانون‭ ‬فرص‭ ‬المنافسة‭ ‬العادلة،‭ ‬وتستنزف‭ ‬موارد‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬نتائج‭ ‬الفوضى‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬توجيهها‭ ‬نحو‭ ‬التنمية‭. ‬لذلك،‭ ‬فإن‭ ‬معالجة‭ ‬العمالة‭ ‬المخالفة‭ ‬ليست‭ ‬مسألة‭ ‬قانونية‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬ركيزة‭ ‬لحماية‭ ‬اقتصاد‭ ‬بلد‭ ‬صغير‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬التوازن‭ ‬والشفافية‭.‬

جانب‭ ‬مهم‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬العمالة‭ ‬المخالفة‭ ‬هو‭ ‬التوعية‭ ‬المستمرة‭ ‬للعامل‭ ‬وللمجتمع‭ ‬من‭ ‬حوله‭. ‬فالمسؤولية‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬عند‭ ‬تعريف‭ ‬العامل‭ ‬بحقوقه‭ ‬وواجباته،‭ ‬بل‭ ‬تشمل‭ ‬أيضا‭ ‬توعية‭ ‬أصحاب‭ ‬العمل‭ ‬والمواطنين‭ ‬الذين‭ ‬يتعاملون‭ ‬معه‭ ‬يوميا،‭ ‬وهنا‭ ‬يبرز‭ ‬دور‭ ‬الجهات‭ ‬الحكومية‭ ‬المختصة‭ ‬في‭ ‬تنظيم‭ ‬هذه‭ ‬الجهود‭ ‬وتنسيقها‭ ‬مع‭ ‬مختلف‭ ‬الشركاء‭.‬

وتزداد‭ ‬فاعلية‭ ‬هذه‭ ‬المساعي‭ ‬عندما‭ ‬تتكامل‭ ‬مع‭ ‬المكاتب‭ ‬المعنية‭ ‬بالعمالة‭ ‬الوافدة،‭ ‬والاتحادات‭ ‬العمالية،‭ ‬والجمعيات‭ ‬الحقوقية‭ ‬التي‭ ‬تتابع‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الحالات‭. ‬وعندما‭ ‬تُوجَّه‭ ‬الرسائل‭ ‬بلغات‭ ‬متعددة‭ ‬تشرح‭ ‬الحقوق‭ ‬والواجبات‭ ‬بوضوح،‭ ‬يتحول‭ ‬الالتزام‭ ‬بالنظام‭ ‬إلى‭ ‬ثقافة‭ ‬مشتركة،‭ ‬يتأكد‭ ‬معها‭ ‬العامل‭ ‬والمجتمع‭ ‬أن‭ ‬القانون‭ ‬ضمانة‭ ‬تحمي‭ ‬الطرفين‭ ‬وتحفظ‭ ‬استقرار‭ ‬السوق‭.‬

وإلى‭ ‬جانب‭ ‬هذه‭ ‬الجهود‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تنهض‭ ‬بها‭ ‬مؤسسات‭ ‬المجتمع‭ ‬والجهات‭ ‬المختلفة،‭ ‬كان‭ ‬للحكومة‭ ‬خطوات‭ ‬عملية‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭. ‬فقد‭ ‬أُقر‭ ‬نظام‭ ‬حماية‭ ‬الأجور،‭ ‬وأُنشئ‭ ‬صندوق‭ ‬مكافأة‭ ‬نهاية‭ ‬الخدمة،‭ ‬وشُددت‭ ‬الرقابة‭ ‬على‭ ‬المكاتب‭ ‬غير‭ ‬المرخصة،‭ ‬وفُتحت‭ ‬قنوات‭ ‬لتلقي‭ ‬الشكاوى‭.‬

هذه‭ ‬إنجازات‭ ‬ملموسة‭ ‬تؤكد‭ ‬جدية‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬ضبط‭ ‬السوق‭ ‬وحماية‭ ‬الحقوق،‭ ‬وبهذا‭ ‬ترسم‭ ‬أساسا‭ ‬متينا‭ ‬يمكن‭ ‬البناء‭ ‬عليه‭ ‬لمزيد‭ ‬من‭ ‬العدالة‭ ‬والاستقرار‭.‬

ومن‭ ‬الخطوات‭ ‬العملية‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تترجم‭ ‬هذه‭ ‬الجهود‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬أن‭ ‬يتلقى‭ ‬العامل‭ ‬فور‭ ‬وصوله‭ ‬البحرين،‭ ‬رسالة‭ ‬نصية‭ ‬بلغته،‭ ‬تحتوي‭ ‬أهم‭ ‬التعليمات‭: ‬أن‭ ‬يلتزم‭ ‬بالعقد،‭ ‬وألا‭ ‬يترك‭ ‬العمل‭ ‬إلا‭ ‬عبر‭ ‬القنوات‭ ‬القانونية،‭ ‬وأن‭ ‬يعرف‭ ‬الجهة‭ ‬التي‭ ‬يلجأ‭ ‬إليها‭ ‬إن‭ ‬واجه‭ ‬مشكلة‭. ‬رسالة‭ ‬قصيرة،‭ ‬لكنها‭ ‬عملية‭ ‬وواضحة،‭ ‬تكفي‭ ‬لتضع‭ ‬النقاط‭ ‬على‭ ‬الحروف‭ ‬منذ‭ ‬اللحظة‭ ‬الأولى،‭ ‬وتؤكد‭ ‬له؛‭ ‬مرحبا‭ ‬بك،‭ ‬ولكن‭ ‬ضمن‭ ‬نظام‭ ‬يحميك‭ ‬ويحمي‭ ‬البلد‭.‬

التجارب‭ ‬المتراكمة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الملف‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬الواقع‭ ‬معقد،‭ ‬ولا‭ ‬تُعالجه‭ ‬الكلمات‭ ‬وحدها‭. ‬المسؤولية‭ ‬موزعة‭ ‬بين‭ ‬أطراف‭ ‬عدة،‭ ‬فالدولة‭ ‬ترسم‭ ‬الأطر‭ ‬وتتابع‭ ‬التنفيذ،‭ ‬والمؤسسات‭ ‬مطالبة‭ ‬بالالتزام‭ ‬بها،‭ ‬والمجتمع‭ ‬بدوره‭ ‬يتعامل‭ ‬بوعي،‭ ‬فيما‭ ‬يبقى‭ ‬على‭ ‬العامل‭ ‬أن‭ ‬يحترم‭ ‬ما‭ ‬وقّع‭ ‬عليه‭. ‬إنها‭ ‬معادلة‭ ‬لا‭ ‬ينجح‭ ‬طرف‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الآخر‭.‬

القانون‭ ‬وُجد‭ ‬ليحمي‭ ‬الجميع‭. ‬متى‭ ‬طُبق‭ ‬بروح‭ ‬العدالة،‭ ‬فإنه‭ ‬قادر‭ ‬أن‭ ‬ينصف‭ ‬ويحفظ‭ ‬الكرامة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يفرط‭ ‬في‭ ‬النظام‭. ‬والعمال‭ ‬الذين‭ ‬نراهم‭ ‬في‭ ‬صمت،‭ ‬لكل‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬ظرفه‭ ‬الخاص‭ ‬وتفاصيل‭ ‬لا‭ ‬تُرى‭ ‬من‭ ‬بعيد‭. ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬الحالات‭ ‬يحتاج‭ ‬إطارًا‭ ‬قانونيا‭ ‬واضحا،‭ ‬يوازن‭ ‬بين‭ ‬الصرامة‭ ‬والمرونة‭. ‬بهذه‭ ‬الروح،‭ ‬تظل‭ ‬البحرين‭ ‬بلدا‭ ‬يرسخ‭ ‬القانون‭ ‬ويحفظ‭ ‬كرامة‭ ‬الإنسان‭.‬

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا