العدد : ١٧٣٥٩ - الخميس ٠٢ أكتوبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٠ ربيع الآخر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٥٩ - الخميس ٠٢ أكتوبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٠ ربيع الآخر ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

الـهـدوء.. لــغـة الأرواح الـجـميـلـة

بقلم: د. سعد الله المحمدي 

الخميس ٠٢ أكتوبر ٢٠٢٥ - 02:00

اتصل‭ ‬بي‭ ‬صاحبي‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬الباكر،‭ ‬حيثُ‭ ‬تُغرّد‭ ‬الطيّورُ‭ ‬بتسبيح‭ ‬الله‭ ‬تعالى،‭ ‬وتُشرق‭ ‬الشمس‭ ‬بألوانها‭ ‬الزاهية،‭ ‬ويصفو‭ ‬الخاطر‭ ‬وتتفتّح‭ ‬النفس،‭ ‬قائلاً‭: ‬‮«‬عندي‭ ‬لك‭ ‬نصيحة‭ ‬صباحية‭: ‬كنْ‭ ‬هادئًا،‭ ‬مَهْمَا‭ ‬كانت‭ ‬الظروف؛‭ ‬فالحياة‭ ‬لا‭ ‬تسيرُ‭ ‬على‭ ‬وتيرةٍ‭ ‬واحدة،‭ ‬وَكُنْ‭ ‬متأنياً‭ ‬غيرَ‭ ‬مستعجل؛‭ ‬فالأعمالُ‭ ‬والالتزاماتُ‭ ‬لا‭ ‬تنتهي،‭ ‬وَمَنْ‭ ‬تأنّى‭ ‬نالَ‭ ‬ما‭ ‬تمنّى‮»‬‭.‬‮ ‬

إنّها‭ ‬فعلاً‭ ‬نصيحة‭ ‬قيّمة،‭ ‬فالهدوءُ‭ ‬نعمةٌ‭ ‬عظيمة‭ ‬لا‭ ‬يُشعر‭ ‬بها‭ ‬إلا‭ ‬مَنْ‭ ‬مَرّ‭ ‬بتجربةٍ‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬بيئةِ‭ ‬الضّجر‭ ‬والصّخب،‭ ‬ورفع‭ ‬الأصوات،‭ ‬والقيل‭ ‬والقال،‭ ‬وعاشَ‭ ‬في‭ ‬دائرةٍ‭ ‬ضيّقة‭ ‬مشحُونةٍ‭ ‬بالتّوتر‭ ‬والفوضى‭ ‬والاضطراب‭.‬‮ ‬

ومِنْ‭ ‬أعظم‭ ‬صور‭ ‬الهُدوء‭ ‬وأجلّها‭ ‬هُوَ‭ ‬هدوءُ‭ ‬الأوطان‭ ‬وأمنها‭ ‬واستقرارها؛‭ ‬حيثُ‭ ‬ارتبط‭ ‬ذلك‭ ‬بأعزّ‭ ‬المطالب‭ ‬وهو‭ ‬توحيدُ‭ ‬الله‭ ‬وإفراده‭ ‬بالعبادة‭ ‬في‭ ‬دعاء‭ ‬سيدنا‭ ‬إبراهيم‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬الذي‭ ‬ناجى‭ ‬ربّه‭: (‬رَبِّ‭ ‬اجْعَلْ‭ ‬هَذَا‭ ‬الْبَلَدَ‭ ‬آمِنًا‭ ‬وَاجْنُبْنِي‭ ‬وَبَنِيَّ‭ ‬أَن‭ ‬نَّعْبُدَ‭ ‬الْأَصْنَامَ‭) (‬إبراهيم‭: ‬35‭).‬‮ ‬

ومن‭ ‬صور‭ ‬الهدوء‭: ‬الهدوء‭ ‬في‭ ‬التصرفات‭ ‬وردود‭ ‬الأفعال،‭ ‬والهدوء‭ ‬في‭ ‬الجدال،‭ ‬وعدم‭ ‬التسرّع‭ ‬والعجلة‭ ‬في‭ ‬الردّ‭ ‬أو‭ ‬قصف‭ ‬الجبهة‭ ‬كما‭ ‬يقولون،‭ ‬أما‭ ‬الهدوء‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬واتخاذ‭ ‬القرارات‭ ‬دون‭ ‬انفعال‭ ‬وعصبيّة،‭ ‬فهي‭ ‬ميزةٌ‭ ‬نادرةٌ‭ ‬تدُلّ‭ ‬على‭ ‬النّضج‭ ‬الداخلي،‭ ‬وسعة‭ ‬الصدر،‭ ‬ورجاحة‭ ‬العقل،‭ ‬وسلامة‭ ‬الفكر،‭ ‬وسموّ‭ ‬النفس،‭ ‬وكلّما‭ ‬أصبح‭ ‬الشخص‭ ‬أكثر‭ ‬هدوءا،‭ ‬زاد‭ ‬نجاحه‭ ‬وتأثيره‭ ‬في‭ ‬الآخرين‭.‬‮ ‬

ومن‭ ‬البنود‭ ‬المهمة‭ ‬في‭ ‬قواعد‭ ‬السلوك‭ ‬لدى‭ ‬إدارة‭ ‬الموارد‭ ‬البشرية‭ ‬في‭ ‬المؤسسات‭ ‬والشركات،‭ ‬العناية‭ ‬بهدوء‭ ‬بيئة‭ ‬العمل‭ ‬والاحترام‭ ‬المتبادل‭ ‬بين‭ ‬الموظفين‭ ‬والعمل‭ ‬ضمن‭ ‬فريق‭ ‬واحد‭ ‬كخلايا‭ ‬النحل،‭ ‬كما‭ ‬أنّ‭ ‬هدوء‭ ‬البيت‭ ‬ووفاقه،‭ ‬وجمع‭ ‬الأبناء‭ ‬والبنات‭ ‬تحت‭ ‬مظلة‭ ‬الوالدين‭ ‬وجناحيهما‭ ‬الرحيمتين‭ ‬دون‭ ‬تفرقة‭ ‬أو‭ ‬تفاضل،‭ ‬من‭ ‬الهبات‭ ‬الإلهية‭ ‬التي‭ ‬يمنّ‭ ‬الله‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬عباده‭.‬‮ ‬

وتتفاوت‭ ‬درجة‭ ‬الهدوء‭ ‬من‭ ‬شخص‭ ‬إلى‭ ‬آخر؛‭ ‬فالبعض‭ ‬يفقدون‭ ‬هدوءهم‭ ‬بل‭ ‬وأعصابهم‭ ‬عند‭ ‬أول‭ ‬تحدٍّ،‭ ‬بينما‭ ‬يظلّ‭ ‬الآخرون‭ ‬ثابتين‭ ‬لا‭ ‬تزعجهم‭ ‬أقوال‭ ‬الناس،‭ ‬ولا‭ ‬نقْدهم،‭ ‬وآراؤهم،‭ ‬بل‭ ‬يركّزون‭ ‬على‭ ‬أهدافهم‭ ‬بثبات،‭ ‬كالأشجار‭ ‬الراسخة؛‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬الشاعر‭ ‬البشتوني‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬بابا‭:‬‮ ‬

‮«‬أنا‭ ‬ثابت‭ ‬مثل‭ ‬الشجرة‭ ‬في‭ ‬مكاني‭    ‬سواءً‭ ‬مرّ‭ ‬بي‭ ‬موسم‭ ‬الخريف‭ ‬أم‭ ‬الربيع‮» ‬

وبما‭ ‬أن‭ ‬الحياة‭ ‬المادية‭ ‬تفرض‭ ‬ضجيجها‭ ‬على‭ ‬المشهد‭ ‬اليومي،‭ ‬حيث‭ ‬تتنافس‭ ‬الأصوات‭ ‬وتشتد‭ ‬الضوضاء‭ ‬حتى‭ ‬تكاد‭ ‬تخنق‭ ‬الإنسان‭ ‬وتقتل‭ ‬إبداعه،‭ ‬تشتد‭ ‬حاجة كل‭ ‬واحد‭ ‬منا‭ ‬إلى‭ ‬اغتنام‭ ‬لحظات‭ ‬الهدوء‭ ‬لتحقيق‭ ‬نتائج‭ ‬قيّمة‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬التميزّ‭ ‬والابتكار،‭ ‬فالمكان‭ ‬الهادئ،‭ ‬البعيد‭ ‬عن‭ ‬الضجر‭ ‬والضجيج،‭ ‬يساعد‭ ‬على‭ ‬توليد‭ ‬الخواطر،‭ ‬وتنسيق‭ ‬الأفكار،‭ ‬وسلاسة‭ ‬الجمل‭ ‬والكلمات،‭ ‬كما‭ ‬يعزز‭ ‬التوازن‭ ‬النفسي‭ ‬والسموّ‭ ‬الروحي،‭ ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الهدوء‭ ‬ليس‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬الترف‭ ‬والبذخ،‭ ‬والبعد‭ ‬عن‭ ‬الضجيج‭ ‬والاضطراب،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬حاجة‭ ‬نفسية‭ ‬وضرورة‭ ‬بشرية‭ ‬ملحّة‭.‬

وقد‭ ‬ذكر‭ ‬النقاد‭ ‬أن‭ ‬الأفكار‭ ‬العظيمة‭ ‬والمشاريع‭ ‬الناجحة‭ ‬لا‭ ‬تولد‭ ‬في‭ ‬بيئات‭ ‬مزدحمة،‭ ‬لذلك‭ ‬أوصوا‭ ‬بالتأمل،‭ ‬والعزلة،‭ ‬والجلوس‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬هادئة‭ ‬كالحقول‭ ‬الخضراء،‭ ‬أو‭ ‬الغابات‭ ‬المطيرة،‭ ‬فمثل‭ ‬هذه‭ ‬اللحظات‭ ‬تساعد‭ ‬على‭ ‬خلق‭ ‬الأفكار‭ ‬الجديدة،‭ ‬والتركيز،‭ ‬ونقاء‭ ‬الذهن،‭ ‬وصفاء‭ ‬الروح،‭ ‬وإزالة‭ ‬التوتر،‭ ‬وجودة‭ ‬الإنتاج‭.‬‮ ‬

وإذا‭ ‬ألقينا‭ ‬نظرة‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬العظماء،‭ ‬وجدناهم‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬الهدوء‭ ‬والسكون،‭ ‬ويميلون‭ ‬إلى‭ ‬العزلة‭ ‬عن‭ ‬الناس‭.‬‮ ‬

فهذا‭ ‬نبينا‭ ‬محمد‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬كان‭ ‬يذهب‭ ‬قبل‭ ‬البعثة‭ ‬إلى‭ ‬غار‭ ‬حراء،‭ ‬ويتحنث‭ ‬فيه‭ ‬الليالي‭ ‬ذوات‭ ‬العدد،‭ ‬أي‭ ‬يتعبّد‭ ‬ويخلو‭ ‬بنفسه،‭ ‬حتى‭ ‬جاءه‭ ‬الحق‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الغار،‭ ‬ونزل‭ ‬عليه‭ ‬الوحي‭.‬‮ ‬

وكذلك‭ ‬كان‭ ‬الحسن‭ ‬البصري‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬يحبّ‭ ‬الخلوة‭ ‬بالنفس،‭ ‬فانعكس‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬قوة‭ ‬بصيرته،‭ ‬وورعه،‭ ‬وزهده،‭ ‬وحكمته‭.‬‮ ‬

ونجد‭ ‬تأثير‭ ‬الهدوء،‭ ‬والتفكّر،‭ ‬والتأمل‭ ‬العميق‭ ‬في‭ ‬اكتشاف‭ ‬إسحاق‭ ‬نيوتن‭ ‬لقوانين‭ ‬الجاذبية‭.‬‮ ‬

كما‭ ‬أن‭ ‬الأديب‭ ‬الألماني‭ ‬غوته‭ ‬آثر‭ ‬العزلة،‭ ‬لينجز‭ ‬أهم‭ ‬أعماله‭: ‬فاوست‭ (‬Faust‭)‬،‭ ‬تلك‭ ‬المسرحية‭ ‬الشعرية‭ ‬الضخمة‭ ‬التي‭ ‬تُعدّ‭ ‬من‭ ‬قمم‭ ‬الأدب‭ ‬العالمي‭.‬‮ ‬

كيف‭ ‬نصنع‭ ‬الهدوء‭ ‬في‭ ‬حياتنا؟‮ ‬

وهذه‭ ‬بعض‭ ‬الخطوات‭ ‬العملية‭ ‬والوسائل‭ ‬لصناعة‭ ‬الهدوء‭:‬‮ ‬

1‭. ‬السلام‭ ‬الداخلي،‭ ‬وذلك‭ ‬بربط‭ ‬القلب‭ ‬بالله‭ ‬تعالى،‭ ‬وذكره،‭ ‬وعبادته،‭ ‬قال‭ ‬تعالى‭: (‬ألا‭ ‬بذكر‭ ‬الله‭ ‬تطمئن‭ ‬القلوب‭) (‬الرعد‭: ‬28‭).‬‮ ‬

2‭. ‬إدارة‭ ‬الأفكار‭ ‬والخواطر،‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬ذهنك‭ ‬مرتعًا‭ ‬ومسرحًا‭ ‬لكل‭ ‬شيء،‭ ‬ولا‭ ‬حلبة‭ ‬صراع‭ ‬دائم‭ ‬مع‭ ‬الأحداث‭ ‬والمواقف‭.‬‮ ‬

3‭. ‬التقليل‭ ‬من‭ ‬الجدال،‭ ‬والبعد‭ ‬عن‭ ‬المشاحنات‭ ‬والمجالات‭ ‬العقيمة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تسمن‭ ‬ولا‭ ‬تغني‭ ‬من‭ ‬جوع‭.‬‮ ‬

4‭. ‬تنظيم‭ ‬الوقت،‭ ‬وتقنين‭ ‬استخدام‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬التي‭ ‬خلقت‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬الاضطراب‭ ‬النفسي‭ ‬والتوتر‭ ‬والقلق‭ ‬والإرهاق‭ ‬الشديد‭ ‬لدى‭ ‬الناس‭ ‬رغم‭ ‬أنهم‭ ‬يبذلون‭ ‬جهدا‭ ‬عمليا‭ ‬يسبب‭ ‬التعب‭.‬‮ ‬

5‭. ‬العناية‭ ‬بالرياضة،‭ ‬والمشي‭ ‬في‭ ‬الطبيعة،‭ ‬والجلوس‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬هادئة‭ ‬لإعادة‭ ‬التوازن‭ ‬والطمأنينة‭ ‬إلى‭ ‬النفس‭.‬‮ ‬

شمعة‭ ‬أخيرة‭:‬‮  ‬

الهدوءُ‭ ‬مَهدُ‭ ‬القوّة،‭ ‬وبدايةُ‭ ‬كلِّ‭ ‬شيءٍ‭ ‬عظيم،‭ ‬وخطوةٌ‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬السلام‭ ‬الداخلي،‭ ‬وانطلاقةٌ‭ ‬نحو‭ ‬اكتشاف‭ ‬الذات‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا