لقد لحق الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالرفيق الأعلى، ولم ينص على من سيأتي من بعده في إدارة شؤون المسلمين، والدليل الذي لا يمكن رده أو التشكيك فيه هو الجدل الذي يدور بين المسلمين فيما إذا كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد نص على نظام للحكم يحسم كل هذا الجدل الذي ثار من بعده، ولو كان هناك نص واضح وصريح على من سوف يتولى إدارة شؤون الناس بعد غياب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما ثار كل هذا الجدل الذي شغل المسلمين طوال هذه القرون التي بدأت بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه سلم)، ولم يتوقف أو ينتهي حتى هذه اللحظة.
ونستطيع أن نقول لو أن هذا الجدل الطويل والعريض حول نظام الحكم أكسب المسلمين تجربة ثرية وغنية حول نوع الحكم الذي يدعونا الإسلام ويلح في الدعوة إليه في كيفية تداول السلطة عندما يغيب شخص الحاكم بالتنحي أو بالموت فيما يطلق عليه بـ «الفراغ السياسي» صحيح أن خلافة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) كانت فلتة كما وصفها سيدنا عمر بن الخطاب نجَّى الله تعالى المسلمين منها، وأن مبادرة سيدنا عمر بن الخطاب ترشيح سيدنا أبي بكر الصديق خلفًا لسيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد حفظ المسلمين من استمرار الخلاف حول من سيملأ الفراغ السياسي الذي سوف يتركه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عند وفاته.
من هنا تأتي أهمية وخطورة الخطوة التي قام بها سيدنا عمر بن الخطاب بترشيحه لسيدنا أبي بكر خليفة للمسلمين، فملأ بذلك الفراغ السياسي الذي ينشأ عادة بوفاة الحاكم.
إن السقيفة وما دار فيها وما انتهى أمرها إليه ليؤكد استحقاق سيدنا أبي بكر لتولي السلطة التي خلا مكانها بوفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولقد أظهر سيدنا أبو بكر من الكفاءة السياسية ما جعل المسلمين يتجاوزون هذه المحنة حين وقف سيدنا أبو بكر الصديق ليحسم الجدل الذي نشب بين المسلمين حول من هو الأحق بالخلافة ، القادر على تحمل أعبائها، فأثبت بما لا يدع مجالًا للشك قدرة الصديق وكفاءته في تحمل الأمور في وقت فقد المسلمون رباطة جأشهم حين علموا بوفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكان (رضي الله عنه) قادرًا على أن يملك نفسه رغم المصاب العظيم الذي حدث للمسلمين بوفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقد وقف خطيبًا، فقال: «أيها الناس.. إني وليت عليكم ولست بخيركم.. إن أحسنت ًفأعينوني وإن أسأت فقوموني.. ألا إن الضعيف فيكم قوي عندي، حتى آخذ الحق له. ألا إن القوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه.. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت، فلا طاعة لي عليكم..».
لقد أثبت رضي الله عنه عندما بلغه نبأ وفاة الرسول (صلى الله عليه سلم)، واختلاف المسلمين حول ذلك الخبر العظيم، والخطر الجليل فاستحضر رضي الله عنه الآية الكريمة قوله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزي الله الشاكرين) آل عمران / 144..
لقد تنبه رضي الله عنه إلى حقيقة هذه الآية الجليلة واستحضر دلالاتها في وقت غابت هذه الآية، وحجبت دلالتها عن كثير من الصحابة (رضوان الله تعالى عنهم) حتى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وكان يقول: كأني أسمعها لأول مرة، وهذه أمارة من أمارات كفاءة سيدنا أبي بكر (رضي الله عنه للخلافة، ووعيه السياسي في وقت فقد كثير من المسلمين صوابهم أو كادوا يفعلون، وليس هذا فحسب، بل لقد أثبت رضي الله عنه قدرته على تصريف أمور السلطة، وتصحيح مسار العقيدة عند بعض المسلمين حين قال: من كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله ، فإن الله حي لا يموت، هذه حقيقة استلهمها رضي الله تعالى عنه من القرآن الكريم، ولقد كشفت أحداث السقيفة، وما تلاها في الزمان والمكان والأحداث قدرته رضوان الله تعالى عنه على إدارة الأزمات، وأعظمها أزمة غياب الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن المشهد الأخير في حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وظهور خليفته من بعده بهذا الوعي السياسي، وهذه القدرات السياسية على غير مثال سابق، وكأنه اكتسبها من إحدى الجامعات السياسية أو واحدة من الكليات العسكرية، فهو قد عقد مع المسلمين عقدًا اجتماعيًا لم يسبقه إليه أحد ، لقد أظهر نضجًا سياسيًا حين حارب المرتدين الذين حاولوا أن يجعلوا فراغًا سياسيًا يقضي على الدولة الوليدة وهي في مهدها، والعجيب. أن كل ذلك تحقق. دون سابق تجربة سياسية أو ديمقراطية، وبهذه القدرات التي لم يتوقعها كثير من المسلمين في سيدنا أبي بكر الصِدِّيق (رضي الله عنه).
وكان من الممكن أن يعرفوها في عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، ولكن هكذا الأحداث تظهر ما في الرجال ما كان خافيًا أو مستترًا.. وهكذا كان حال سيدنا أبي بكر (رضوان الله تعالى عنه) وقضية الخلافة التي حاول ألا يتقلدها، ولكن المسلمين وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب، وحسنًا فعلوا، ورضي الله تعالى عن الإمام علي بن أبي طالب الذي دافع عن الخلافة في عهد الصديق ضد شانئيه قائلًا لهم، وذلك حين طعنوا في شرعية خلافته قال لهم: «لقد رضيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لديننا أفلا نرضاه؟!»، وقال لخصومه السياسيين: «لقد بايعني من بايع أبا بكر وعمر»، فاستدل رضي الله عنه على صحة خلافته بخلافة الخليفتين من قبله أبي بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهم جميعًا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك