في تطور لافت، اعترفت عدة دول غربية، من بينها بريطانيا وفرنسا، بدولة فلسطينية مستقلة، في خطوة وُصفت بأنها رمزية ومتأخرة، تأتي بعد نحو عامين من القصف العشوائي والدمار واسع النطاق الذي خلّف سكان غزة في مواجهة مجاعة جماعية. بهذا القرار، تنضم هذه الدول إلى نحو ثلاثة أرباع حكومات العالم التي سبق أن اعترفت بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
وقد لاقت هذه الخطوة ترحيبًا حذرًا من خبراء ومراقبين، من بينهم الدكتورة جولي نورمان من جامعة لندن كوليدج، التي وصفت الاعتراف بأنه «مهم» ويشكل «التزامًا أخلاقيًّا قويًا» تجاه فلسطين، خاصة في ظل الظروف العصيبة التي تمر بها غزة والضفة الغربية. ووفقًا للصحفي باتريك وينتور من صحيفة الجارديان، فإن «زمرة» من حلفاء إسرائيل بدأت بالفعل تنضم إلى هذه الاعترافات أو تخطط للقيام بذلك قريبًا.
في المقابل، ونظرًا لرفض إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانضمام لهذا الإجماع الدولي المتزايد، يُتوقع أن يأتي رد فعل الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة بقيادة بنيامين نتنياهو عبر تصعيد في بناء المستوطنات غير القانونية، بل وربما السعي نحو الضم الكامل للأراضي الفلسطينية، لا سيما في الضفة الغربية. وقد تعالت المطالبات العلنية بهذا الاتجاه من قبل وزراء إسرائيليين بارزين، من بينهم إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وهما من أقرب حلفاء نتنياهو وأكثرهم تطرفًا.
جاء ذلك على الرغم من التحذيرات الدولية، مثل تصريح وزيرة الخارجية البريطانية إيفات كوبر، التي دعت إلى «منع إسرائيل من ضم المزيد من الأراضي الفلسطينية». ويرى وينتور أن ضم إسرائيل للضفة الغربية بالكامل قد يؤدي إلى «مزيد من العزلة السياسية»، وربما فرض «عقوبات تجارية» من الاتحاد الأوروبي، أو حتى «تعليق عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة». ومع ذلك، فإن سلوك إسرائيل خلال العامين الماضيين، فضلًا عن عقود من الاحتلال غير القانوني، يعكس تجاهلًا تامًا للتعاون الدولي والمؤسسات الأممية.
من جهة أخرى، وفي يوليو 2025، ومع تفاقم أزمة المجاعة في غزة وتحذيرات المنظمات الإنسانية والأمم المتحدة من خطورتها، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اعتراف حكومته بدولة فلسطينية، مؤكدًا على «الالتزام التاريخي لفرنسا بسلام عادل ودائم في الشرق الأوسط». وقد انضم إليه لاحقًا السير كير ستارمر، رئيس الوزراء البريطاني، ونظيراه الكندي مارك كارني، والأسترالي أنتوني ألبانيز، الذين أرجأوا الاعتراف حتى موعد انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، ظاهريًا لمنح حكومة نتنياهو فرصة لإنهاء حربها على غزة ومنع الاعتراف الغربي بفلسطين.
وعلى الرغم من التخوفات من تراجع هذه الدول عن التزاماتها لاحقًا، إلا أن الاعتراف قد تم بالفعل من قبل بريطانيا، فرنسا، أستراليا، كندا، وبعض الدول الأوروبية الأخرى، مثل البرتغال وبلجيكا ومالطا وأندورا ولوكسمبورغ وموناكو، وذلك أواخر سبتمبر 2025.
وقد جاءت تصريحات قادة هذه الدول داعمة للحق الفلسطيني؛ إذ قال ستارمر إن «أمل حل الدولتين يتلاشى ولا يمكننا ترك هذا النور يخبو»، بينما عرض كارني «شراكة بلاده في بناء وعد بمستقبل سلمي»، وأكد ألبانيز دعم بلاده لـ«تطلعات الشعب الفلسطيني الطويلة الأمد نحو دولة خاصة به».
وفي هذا السياق، وصف الصحفي مارك لاندلر من نيويورك تايمز الاعترافات بأنها «عمل رمزي لدعم تقرير المصير الفلسطيني»، لكنه أشار إلى أن إمكانية قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة أصبحت «أكثر مراوغة مما كانت عليه منذ عقود». وأضافت الدكتورة نورمان أن الاعتراف «يفتح الباب لتغييرات في السياسة»، ويسهم في وضع أفضل لفلسطين في أي مفاوضات مستقبلية.
أما وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، هاميش فالكونر، فقد أكد أن «الوقت المناسب الآن» للاعتراف، مشيرًا إلى أن حل الدولتين بات مهددًا أكثر من أي وقت مضى. ومع ذلك، يبقى التساؤل قائمًا: لماذا انتظرت هذه الحكومات الغربية نحو عامين بعد بدء حرب الإبادة الجماعية في غزة لاتخاذ هذه الخطوة؟ ولماذا تم ربطها بردود فعل إسرائيل بدلًا من كونها اعترافًا بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني كما ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة؟
يشير لاندلر إلى أن هذه الاعترافات قد تُسهم في «زيادة الضغط على إسرائيل لتخفيف الأزمة الإنسانية في غزة»، كما أنها تضع بعض الحلفاء في مواجهة سياسية مع إدارة ترامب، التي من المتوقع أن تعارض ذلك بشدة. وتبقى ردود فعل حكومتي نتنياهو وترامب في الفترة المقبلة حاسمة في تقرير مصير ملايين الفلسطينيين.
وبالفعل، جاءت تصريحات نتنياهو رافضة تمامًا لفكرة الدولة الفلسطينية، مؤكدًا أنها «لن تحدث»، بينما صرح وزير ماليته المتطرف بتسلئيل سموتريتش أن «الأيام التي كانت فيها المملكة المتحدة ودول أخرى تحدد مستقبلنا قد ولت». ويتوقع مراقبون غربيون أن تواصل حكومة نتنياهو توسيع الاستيطان غير القانوني في الضفة الغربية، وتتجه نحو ضم الأراضي الفلسطينية بالكامل، لترسيخ سيطرة عسكرية كاملة على الضفة.
في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي، ووجود أكثر من 160 مستوطنة غير شرعية يسكنها أكثر من 700 ألف مستوطن في أراضٍ يعترف بها المجتمع الدولي، بما في ذلك بريطانيا وفرنسا، كجزء من دولة فلسطينية مستقلة، حذّرت الحكومة الإسرائيلية من أنها سترد على موجة الاعترافات الدولية المتزايدة بفلسطين عبر ضم كامل للمنطقة «ج» من الضفة الغربية، التي تمثل 60% من مساحتها، إلى جانب الاستيلاء على وادي الأردن.
ووفقًا لصحيفة فاينانشيال تايمز، تُخطط إسرائيل لتكثيف الاستيلاء على الأراضي وتفكيك السلطة الفلسطينية، استجابة لدعوات إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي، ونير بركات، وزير الاقتصاد، بـ«تفكيك كامل للسلطة». وأفاد الصحفي جوليان بورغر، نقلًا عن باتريك وينتور، بأن حكومة بنيامين نتنياهو تسعى لـ«إفلاس» السلطة عبر احتجاز مليارات الدولارات المستحقة لها.
رغم تحرك دول مثل فرنسا، السعودية، النرويج، وإسبانيا لحشد دعم مالي لمنع انهيار السلطة، تؤكد الصحفية الأمريكية جيسيكا بوكسباوم أن الحل ليس ماليًا، بل سياسيا، بإنهاء الاحتلال وفرض السيادة الفلسطينية الكاملة. إلا أن هذا يبدو مستبعدًا، طالما أن الولايات المتحدة، بحسب وينتور، مستمرة في تزويد إسرائيل بكل الوسائل لتفادي المساءلة الدولية.
وترى د. نورمان أن الاعترافات المتزايدة من بريطانيا، فرنسا، أستراليا، وكندا تعكس اتساع الدعم العالمي لتقرير المصير الفلسطيني، لكنها تبرز أيضًا عزلة متزايدة لواشنطن، التي تبقى الداعم الأساسي لإسرائيل. وزارة الخارجية الأمريكية في عهد ترامب رفضت الاعترافات ووصفتها بأنها مجرد «أداء رمزي»، فيما وصف السفير الأمريكي في إسرائيل مايك هاكابي، مسيحي إنجيلي، إسرائيل بأنها «الشريك الحقيقي الوحيد» لأمريكا، مضيفًا: «لن نملي على إسرائيل ما يمكنها أو لا يمكنها فعله».
هذا المشهد يطرح تساؤلات حول رد فعل الغرب على أي تحرك إسرائيلي لضم كامل. وتساءل دانييل ليفي، رئيس مشروع الولايات المتحدة/الشرق الأوسط، عما إذا كانت حكومة كير ستارمر تعتقد أن الاعتراف سيمنحها «هدوءًا سياسيًا مؤقتًا»، محذرًا من أن سلوك نتنياهو «الصارخ، العدواني، والإجرامي» يجعل هذا مستبعدًا.
الاتحاد الأوروبي، وهو أكبر شريك تجاري لإسرائيل، 32% من تجارتها في 2024، بقيمة 35.8 مليار جنيه إسترليني، أعلن في سبتمبر 2025 نيته تعليق اتفاقية الشراكة، ما قد يحرم المنتجات الإسرائيلية من الامتيازات الأوروبية. لكن تمرير عقوبات يواجه عوائق، أبرزها معارضة دول مثل ألمانيا، إيطاليا، ودول البلطيق. وبحسب راشيل هاجان وبول آدامز، بي بي سي، فالعقوبات المستهدفة تحتاج إلى إجماع كامل داخل الاتحاد، مما يجعلها غير مرجّحة.
رغم إدانة ستارمر للوضع في غزة، واصفًا إياه بـ«الذي لا يُطاق»، تُظهر الأدلة تورط حكومته في دعم عسكري مباشر لإسرائيل. فقد استمعت محكمة مستقلة أسسها النائب جيريمي كوربين في سبتمبر إلى شهادات عن مشاركة استخباراتية بريطانية في غارات على غزة، واستمرار منح تراخيص تصدير الأسلحة المستخدمة في طائرات إف-35. كما أن وزير التجارة بيتر كايل – نائب رئيس مجموعة أصدقاء إسرائيل – يشرف على تراخيص التصدير، بينما لم تُصدر وزيرة الخارجية إيفات كوبر أي تصريح حول صادرات الأسلحة منذ توليها المنصب.
في الختام، يرى دانييل ليفي أن الاعتراف الدبلوماسي، رغم رمزيته، لا يُغيّر من واقع الفلسطينيين تحت الاحتلال، طالما أن الحكومات الغربية، وعلى رأسها بريطانيا، تواصل تسليح إسرائيل ودعمها سياسيًّا، مما يسمح باستمرار حملة نتنياهو العسكرية دون أي عُزلة دولية حقيقية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك