بعض الجماعات والمنظمات البيئية الدولية مثل منظمة السلام الأخضر تتبنى أهدافاً بيئية نبيلة، وغاياتها سليمة وبناءة تتمثل في حماية البيئة وثرواتها الفطرية الحية وغير الحية، والكشف عن التهديدات التي تلحق بالبيئة والأضرار تنزل عليها من ممارسات الشركات والحكومات، كما تسعى في الوقت نفسه إلى رفع وتعميق الوعي البيئي العام لدى الشعوب بالقضايا البيئية المحلية، والإقليمية، والدولية، مثل قضايا التغير المناخي، والصيد السمكي الجائر وصيد الحيتان، والقضايا النووية، وهندسة الجينات، وغيرها من القضايا الحيوية المهمة.
ولكن في بعض الحالات نجد أن هذه المنظمة تنحرف فتُخطئ في الوسيلة المستخدمة لتحقيق هذه الأهداف، وتنجرف عن سياساتها السلمية في تحقيق مآربها البيئية، فتلجأ إلى العنف والقيام بأعمال استفزازية تُشكل نوعاً من زعزعة الأمن والاستقرار، أو تقوم بممارسات تخريبية للمرافق العامة والخاصة. وكأنهم في مثل هذه الحالات يطبقون المقولة بأن «الغاية تبرر الوسيلة»، أي أن الغاية والهدف النهائي أصبح عندهم يبرر استخدام أية وسيلة، وأية أداة لتحقيقه، حتى ولو كانت عنيفة، وغير ملائمة، وتتنافى مع الأخلاق والآداب العامة، ومبادئ وسياسات الدولة.
وهذا أُطلق عليه بسياسة التطرف البيئي، أو استراتيجية التشدد والتنطع في الأعمال والممارسات وتحقيق الأهداف والغايات البيئية. ومثل هذه السياسة المتطرفة والمتشددة تتنافى مع سياسة الإسلام، وتختلف مع المبادئ والقيم الإسلامية، ومنهجية ديننا الرباني الذي يقوم على سياسة الاعتدال والوسطية في كل شؤون المسلم، سواء أكانت شؤون الدين كالشعائر التعبدية والمعتقدات، أو شؤون الدنيا كالمعاملات والسلوكيات بجميع أنواعها. فالشعار الذي يرفعه المسلم في كل شؤون وأمور حياته هو الاعتدال والوسطية، والوسطية البيئية والاعتدال هو أحد أنواع هذه السياسية التي يتخلق بها المسلم.
وهذه السياسة البيئية المعتدلة هي التي توصل إليها الإنسان بعد تجارب وخبرات شاقة ومضنية وطويلة مع البيئة ومواردها الحية وغير الحية، ذهب ضحيتها الإنسان أولاً ثم الحياة الفطرية النباتية والحيوانية ثانياً، وأخيراً الموارد البيئية غير الحية كالماء والهواء والتربة، وأَطلقَ عليها الآن «التنمية المستدامة»، وهي في الحقيقة منهجية الإسلام في التعامل مع أمور الدنيا وشؤونها.
ففي السنوات الأولى من الثورة الصناعية الأولى ثم الثانية تبنى الإنسان قاعدة «الغاية تبرر الوسيلة»، فكان هدفه الرئيس هو النمو والإنتاج الكبير والسريع مهما كانت الوسيلة المستخدمة، ومهما كانت النتيجة وما يتمخض عنها من مفاسد عامة على الإنسان، وأضرار عقيمة على مكونات البيئة، وكانت الغاية الكبرى والعظمى للمجتمعات البشرية هي الازدهار والنمو الاقتصادي، وجني المال السريع ولو كان على حساب سلامة البيئة وأمنها وصحة الإنسان. ولذلك تطرف وغالى في ممارساته وأنشطته التنموية، وأَطْلقَ من دون ضوابط أو قيود جميع أنواع الملوثات إلى الهواء الجوي بأحجامٍ مهولة لم يسبق لها مثيل في التاريخ، وصرف خليطاً من كل أنواع السموم إلى المسطحات المائية السطحية والجوفية، وأنتج مخلفات صلبة وغير صلبة خطرة ومشعة بكميات غطت مساحات شاسعة من الأرض وداخل بطن الأرض. وهذا السلوك البيئي المتشدد والمتطرف كان له رد فعل مضاد وقوي، ومردودات شديدة أوقعت كوارث وضحايا بشرية، وأنزلت على كوكبنا ظواهر بيئية خطيرة شملت كل شبر من كوكبنا مثل المطر الحمضي والأسود، والتغير المناخي، وتدهور غاز الأوزون في طبقة الأوزون، والإثراء الغذائي، وظاهرة البحيرات الحمراء، وظاهرة الضباب الضوئي الكيميائي، والتدهور الشديد وعلى نطاق واسع للتنوع الإحيائي وانقراض الأحياء النباتية والحيوانية، إضافة إلى ظاهرة التلوث في أعالي السماء وفي الفضاء على ارتفاع آلاف الكيلومترات فوق سطح الأرض.
فمثل هذه الممارسات المتطرفة من الإنسان والتي أُطلقُ عليها الإرهاب البشري الشامل لكوكبنا كَونَّتْ ردة فعل طبيعية قوية، وممارسات أخرى متطرفة ومضادة أيضاً من بعض الأفراد والمنظمات البيئية المتشددة في أسلوب منعها لهذا الإرهاب والأدوات المستخدمة في إيقافها. ولذلك اضطر الإنسان عامة إلى مراجعة ممارساته وسلوكه وبرامجه التنموية المتطرفة والمعوقة، وتغيير منهجيته وسياساته، وتصحيح المسار المنحرف الذي مشى عليه عقوداً طويلة من الزمن ليسلك طريقاً معتدلاً ووسطياً، فلا إفراط ولا تفريط، ولا تشدد ولا تنطع ولا غلو، وإنما أخذ جميع احتياجات الإنسان والمجتمع في الاعتبار، وليس فقط الجانب التنموي والاقتصادي وتحقيق الثروة المالية الطائلة.
ولذلك تم طرح المنهج الوسطي، وتبني السياسة المعتدلة التي تأخذ في الاعتبار وتهتم بجميع أبعاد وجوانب التنمية، بحيث لا يؤثر أحدهما في الآخر، ولا يفسد أحدهما صحة الآخر، ولا يتعدى أحدهما على حدود الآخر، ولا يضر أحدهما الآخر، فيعيش الجميع في أمن وأمان وسلامة واستقرار، فتستديم العملية التنموية على المستوى القومي وعلى المستوى الدولي.
فكل عمل تنموي يقوم به الإنسان يجب أن يتصف بالاعتدال، أي يهدف إلى التنمية الاقتصادية دون أن يضحي بالجانب الاجتماعي والبيئي، فتكون تنمية اقتصادية، واجتماعية، وبيئية في وقت واحد، مما يعني ألا تطغى أهداف أحدهما على أهداف التنمية الاجتماعية والبيئية، فيكون هناك توافق وتكامل بين جميع هذه الأهداف. فأية عملية تنموية تُحقق الازدهار الاقتصادي دون تحقيق الازدهار الاجتماعي والبيئي فهي عملية متطرفة وغير مستدامة، وأية عملية تحقق التنمية البيئية دون تحقيق التنمية الاقتصادية فهي أيضاً متشددة وغير مستدامة. فالمعادلة التي يجب على الإنسان تحقيقها من الناحية العملية والواقعية صعبة جداً، ودقيقة للغاية، وتحتاج إلى فهمٍ عميق، ودراسات مستفيضة ومعمقة لجميع مكونات البيئة الحية وغير الحية، وإلى توازن رشيد بين جميع المتطلبات للتنمية المستدامة، كما تحتاج إلى بذل جهود كبيرة للتوفيق بين كل الجوانب وتخفيف أي ضرر قد ينجم عن البرنامج التنموي على أيٍ من أركان التنمية المستدامة.
وسأضرب لكم مثالاً في كيفية التوفيق والتوازن بين كل أركان التنمية المستدامة بحيث يخرج الجميع فائزاً من هذه العملية والمشروع التنموي بأقل قدرٍ ممكن من الخسائر والأضرار. فإذا أردنا إنشاء جسر بحري فهناك عدة تصاميم لإنشاء هذا الجسر، وأرخص هذه التصاميم من ناحية الكلفة المالية هو دفن المناطق البحرية، ولكن عملية الدفن فيها خسائر بيئية كبيرة من ناحية تدمير البيئات البحرية، وقتل كل الكائنات التي تعيش عليها. ولذلك من أجل تقليل الخسائر البيئية وتحقيق التنمية البيئية المستدامة، لا بد من اختيار التصاميم الأكثر كلفة من الناحية الاقتصادية على المدى القريب، ولكن الأقل ضرراً على المدى البعيد على البيئة من ناحية تجنب دفن البحر بقدر الإمكان. وهكذا يتم التوفيق والتوازن بين جميع متطلبات التنمية المستدامة، فكل ركن من التنمية المستدامة يجب أن يضحي قليلاً ويتنازل من أجل الركن الآخر، ويتصف بالمرونة، حتى يكون المشروع قد حقق الاعتدال والوسطية ودخل في باب التنمية المستدامة.
ومن أجل تقنين هذه العملية، صمم الإنسان عدة أدوات بيئية علمية وممنهجة لتحقيق الاعتدال والوسطية لكل مشروع تنموي، ويُطلق عليها «أدوات الإدارة البيئية»، منها أداة تقييم الأثر البيئي للمشاريع، والأدوات الاقتصادية البيئية، وأداة تقييم دورة الحياة.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك