تسير المملكة العربية السعودية، ضمن نهج خليجي أوسع، نحو إعادة تشكيل ملامح قطاع الطاقة عبر الاستثمار المكثف في الغاز الطبيعي والطاقة المتجددة، سعيًا إلى تقليل الاعتماد على النفط وتماشياً مع التحولات العالمية نحو مصادر طاقة نظيفة منخفضة الانبعاثات. هذا التوجه يُعد استجابة مباشرة للتحديات البيئية والاقتصادية العالمية، ويهدف إلى تعزيز استقرار الاقتصاد الوطني وضمان أمن الطاقة في المستقبل.
بدأت دول الخليج العربي في اتباع نهج استراتيجي يهدف إلى تبني التقنيات الحديثة وتنفيذ إصلاحات في البنية التحتية، وذلك استجابة للتحديات والفرص الجديدة المرتبطة بالتحول نحو الطاقة النظيفة. يأتي هذا التوجه بالتوازي مع الجهود العالمية المستمرة لتقليل الاعتماد على النفط، في إطار التحول العالمي نحو مصادر طاقة أنظف وأقل إصدارًا للانبعاثات الكربونية الضارة بالغلاف الجوي.
وفي سياق هذا التوجه، تستثمر المملكة العربية السعودية بشكل كبير في مشاريع الغاز الطبيعي والطاقة المتجددة. ووفقًا لما كتبته كيت دوريان، الزميلة غير المقيمة في معهد دول الخليج العربية، فإن الرياض تسعى إلى «الاستغناء التام عن استخدام النفط في توليد الطاقة بحلول نهاية هذا العقد»، وذلك مراعاةً لالتزاماتها طويلة الأجل في خفض الانبعاثات، بالإضافة إلى التعامل مع التقلبات المستمرة في سوق النفط العالمية.
وعلى مستوى أوسع في منطقة الشرق الأوسط، أشارت شركة «ريستاد إنرجي» التي تتخذ من أوسلو مقرًا لها، إلى أن المنطقة ستتفوق على آسيا في عام 2025 لتصبح ثاني أكبر منتج للغاز الطبيعي عالميًا، بعد أمريكا الشمالية. كما أوضحت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أن «ما يقرب من خمس تجارة الغاز الطبيعي المسال العالمية تمر عبر مضيق هرمز»، ما يعزز من أهمية دول مجلس التعاون الخليجي كمصدر رئيسي لهذا المورد الحيوي.
وفيما يخص الوضع الراهن لسوق الطاقة العالمي وسوق النفط الخام، وصفت إيرينا سلاف، الكاتبة في موقع «أويل برايس»، حالة التقلب المستمر في الأسعار بأنه «الوضع الطبيعي الجديد» في عام 2025، في ظل الاضطرابات الاقتصادية والجيوسياسية المتواصلة. وقد بلغ سعر برميل خام برنت في 21 سبتمبر 2025 حوالي 67 دولارًا.
وبما أن صادرات النفط تُشكل نحو 70% من إجمالي عائدات التصدير للمملكة العربية السعودية، فقد أشارت دوريان إلى أن السعودية «حساسة بشكل خاص لتقلب أسعار النفط». وقد ظهر ذلك بوضوح عندما تراجعت أسعار النفط إلى أقل من 60 دولارًا للبرميل نتيجة إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ما سماه «زيادات التعريفات الجمركية العالمية» في «يوم التحرير»، مما أدى إلى انخفاض عائدات صادرات السعودية إلى أدنى مستوى لها خلال أربع سنوات، مسجلة 15.8 مليار دولار فقط.
وعلى الرغم من شعور نسبي بالارتياح نتيجة اتفاق دول «أوبك+» على زيادة حصص إنتاجها الشهرية بواقع 555 ألف برميل في أغسطس وسبتمبر 2025، وبواقع 137 ألف برميل إضافي في أكتوبر – حيث ستصل حصة السعودية إلى أكثر من 10 ملايين برميل يوميًا خلال أكتوبر – إلا أن السوق لا يزال يواجه عدة مخاطر قصيرة الأجل، من بينها: احتمالية تصاعد الصراع بين إسرائيل وإيران في الشرق الأوسط، وزيادة الهجمات بالطائرات المسيرة على البنية التحتية النفطية الروسية، بالإضافة إلى تهديد ترامب بفرض عقوبات أمريكية أكثر صرامة على روسيا، في حال لم توقف الدول الأعضاء في الناتو مشترياتها من النفط الروسي. ووفقًا لترامب، فإن استمرار هذه المشتريات «يُضعف بشكل كبير الموقف التفاوضي» لحلف الناتو من أجل التوصل إلى حل دبلوماسي ينهي الحرب المستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات ونصف في أوكرانيا.
أما على صعيد سوق الغاز الطبيعي العالمي، فقد حذرت وكالة الطاقة الدولية من أن «التوترات الجيوسياسية» المتواصلة تسهم في زيادة «تقلب الأسعار». وفي أحدث تقاريرها العامة، أشارت الوكالة إلى أن «الطلب العالمي على الغاز قد ازداد بوتيرة أبطأ بكثير في النصف الأول من عام 2025، بعد نمو قوي في عام 2024»، مرجعة ذلك إلى «حالة عدم اليقين الاقتصادي الكلي، وضيق أساسيات العرض، وارتفاع الأسعار نسبيًا».
وفي جانب الإمدادات، أوضحت وكالة الطاقة الدولية أن «نمو إمدادات الغاز الطبيعي المسال العالمية من المتوقع أن يتسارع في عام 2026، ليصل إلى أسرع وتيرة له» منذ ما قبل جائحة كوفيد-19 في عام 2020، مدفوعًا بشكل أساسي بزيادة الإنتاج في الولايات المتحدة وكندا وقطر. كما نوهت الوكالة إلى أن «السوق الأوروبية يُتوقع أن تصل إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق» في عام 2025، مدفوعة بـ«ارتفاع الطلب المحلي، وتراجع إمدادات الغاز عبر الأنابيب القادمة من روسيا».
بعد أن ارتفع بنسبة تُقدَّر بـ2 بالمئة في عام 2024، توقّعت وكالة الطاقة الدولية في بداية عام 2025 أن يرتفع إنتاج السعودية من الغاز الطبيعي بنسبة 4 بالمئة خلال العام، ويُعزى ذلك أساساً إلى بدء تشغيل مشاريع رئيسية مخطط لها مثل المرحلة الأولى من حقل الجافورة ومجمع تناجيب. ويُعتقد أن الحقل الأول يحتوي على 229 تريليون قدم مكعب من الغاز الخام وما يعادل 75 مليار برميل من المكثفات، في حين سيسهم المشروع الثاني بإضافة 27 مليار متر مكعب إلى الإنتاج السنوي للبلاد.
ومع ذلك، في النصف الأول من عام 2025، ارتفع إنتاج السعودية من الغاز الطبيعي فعلياً بنسبة 6 بالمئة مقارنة بعام 2024 – حيث ارتفع إلى متوسط 11.86 مليار قدم مكعب يومياً مقارنة بـ11.09 مليار قدم مكعب يومياً، ومن المتوقع أن يرتفع الإنتاج أكثر حتى مع تخفيف تخفيضات إنتاج النفط الخام من قبل أوبك+.
ومع ارتفاع مستويات الإنتاج، وثّقت دوريان كيف أن المملكة «على المسار الصحيح لتلبية الطلب المتزايد على الغاز لتوليد الكهرباء»، وكذلك «إنهاء ممارسة حرق النفط لتوليد الطاقة»، وهي الممارسة التي تُقدّر بيانات مبادرة البيانات المشتركة للمنظمات بأنها تحرق في المتوسط مليون برميل من النفط يومياً. وبما أن الغاز يُشكّل حالياً نحو 50 بالمئة من إنتاج الطاقة في المملكة، فقد أشارت دوريان – وهو أيضاً زميل في معهد الطاقة بلندن – إلى أن توفره المتزايد «سيساعد على استبدال السوائل النفطية في محطات الطاقة التي تخدم العاصمة الرياض»، وكذلك تلك التي تدعم «المراكز الصناعية في ينبع ورابغ.»
علاوة على ذلك، ومع تأكيد أرامكو سابقاً هدفها بزيادة قدرة إنتاج الغاز بنسبة 60 بالمئة بحلول نهاية العقد الحالي، فقد أشار دوريان إلى أن قطاع الطاقة في المملكة يمكن أن يتكوَّن بحلول عام 2030 من «مزيج 50:50 من الطاقة المتجددة والغاز».
كما أن التوجه المتزايد نحو مصادر الطاقة البديلة في منطقة الخليج العربي حاضر أيضاً في المملكة، حيث أضافت دوريان أن السعودية قد «كثّفت مؤخراً من جهودها في مجال الطاقة المتجددة». فعلى سبيل المثال، في يوليو 2025، أبرمت الحكومة اتفاقيات شراء طاقة تُنتج 15 غيغاواط من الكهرباء، ما سيساعد على مضاعفة قدرة البلاد من الطاقة المتجددة إلى نحو 20 غيغاواط العام المقبل. يُضاف إلى ذلك أن الشركة السعودية للكهرباء تخطط لإضافة 48 غيغاواط من تخزين الطاقة بالبطاريات إلى أنظمتها بحلول عام 2030، وهو ما سيكون أكبر نشر من نوعه في منطقة الخليج العربي.
ومن جهتها، تناولت وسائل الإعلام الغربية، مثل صحيفة وول ستريت جورنال، أيضاً توجه السعودية نحو توليد الطاقة الشمسية، مشيرة إلى أنها «تبني بعضاً من أكبر مزارع الطاقة الشمسية في العالم»، مما يجعل من البلاد «واحدة من أسرع الأسواق نمواً للطاقة الشمسية انطلاقاً من نقطة شبه صفرية».
وعند تقييم منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط بشكل عام، يجب الإشارة إلى أن شركة ريستاد إنرجي قد سجلت زيادة بنسبة 15 بالمئة في إنتاج الغاز الطبيعي في المنطقة منذ عام 2020، وأشارت إلى «تطورات كبيرة» ليس فقط في السعودية، بل أيضاً في قطر وعُمان والإمارات العربية المتحدة، كأسباب لاستمرار هذا التسارع.
وفي تقاريرها، قدّرت وكالة الطاقة الدولية أن الشرق الأوسط قد أضاف أكثر من 20 مليار متر مكعب من طاقة إنتاج الغاز الطبيعي منذ عام 2023، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 3.3 بالمئة على مستوى المنطقة.
وبشأن هذه الزيادة، أشار مرينال بهاردواج، كبير المحللين لأبحاث الاستكشاف والإنتاج في ريستاد، إلى أن «نحو نصف» هذه الكمية ستُستخدم «لتلبية الطلب المحلي المتزايد» في المنطقة، في حين سيكون «الباقي متاحًا للتصدير»، ومع توقيع المزيد من عقود الغاز طويلة الأجل وزيادة حجم الصادرات، فإن «الشرق الأوسط في طريقه ليصبح مركزًا رئيسيًا للطاقة للدول التي تبحث عن مصادر مستقرة وموثوقة للغاز الطبيعي».
وفي كتاباته حول كون الرياض رائدة إقليميًا في تطبيق استخدام الغاز الطبيعي كبديل لاستخدام النفط في توليد الكهرباء، خلصت دوريان إلى أنه، مع استمرار الحكومة السعودية وشركاتها الحكومية – وخاصة أرامكو – في استراتيجياتها الاستثمارية و«تحديدها لأطر سياسية واضحة وأهداف محددة»، فإن المملكة «تسير بخطى ثابتة نحو تحقيق أهدافها» بجعل إنتاج الغاز الطبيعي يسهم بشكل أكبر في توليد الطاقة الوطنية، مما سيؤدي أيضًا إلى «القضاء على حرق النفط وتحويل شبكة الكهرباء لتعمل على الغاز والطاقة النظيفة مع وجود احتياطي كافٍ للحفاظ على استقرار الشبكة».
ويجب أيضاً تسليط الضوء على أنه، حتى في ظل استمرار حالة عدم اليقين في سوق النفط العالمية وتأثيرها في كبار المصدرين مثل دول مجلس التعاون الخليجي، فقد واصل الاقتصاد السعودي نموه بمعدل عالمي رائد، حيث نما بنسبة 3.9 بالمئة في الربع الثاني من عام 2025 مقارنةً بالعام السابق، كما ارتفع الإنتاج الصناعي بنسبة 7.9 بالمئة، مدفوعاً بانتعاش إنتاج التصنيع.
إن تسارع وتيرة إنتاج الغاز والطاقة المتجددة في السعودية يعكس تحولًا استراتيجيًا عميقًا في سياسات الطاقة الوطنية، ويؤكد جدية المملكة في تحقيق أهدافها المناخية والتنموية. وبينما يزداد الطلب المحلي والدولي على الطاقة النظيفة، تمضي السعودية بثقة نحو تنويع مصادر الطاقة وتعزيز مكانتها كمركز إقليمي للطاقة المستدامة، رغم تقلبات السوق العالمية وتحديات الجغرافيا السياسية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك