العدد : ١٧٣٥٨ - الأربعاء ٠١ أكتوبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٩ ربيع الآخر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٥٨ - الأربعاء ٠١ أكتوبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٩ ربيع الآخر ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

جوهر الديمقراطية أن نحياها في كل شؤوننا

بقلم: نبيلة رجب

الخميس ٢٥ سبتمبر ٢٠٢٥ - 02:00

أعترف‭ ‬أن‭ ‬الديمقراطية‭ ‬أفادتني‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أفكر‭ ‬فيها‭ ‬كقيمة‭ ‬عامة‭. ‬كنت‭ ‬أظنها‭ ‬شأنا‭ ‬عاما،‭ ‬لكنني‭ ‬وجدتها‭ ‬قريبة‭ ‬جدا‭ ‬من‭ ‬تفاصيل‭ ‬حياتي‭. ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬حين‭ ‬أستمع‭ ‬إلى‭ ‬ابنتي‭ ‬أو‭ ‬ابني‭ ‬أو‭ ‬زوجي،‭ ‬أكتشف‭ ‬أن‭ ‬القرار‭ ‬الذي‭ ‬أصل‭ ‬إليه‭ ‬وحدي‭ ‬ليس‭ ‬دائما‭ ‬الأفضل‭. ‬ابنتي‭ ‬تكشف‭ ‬لي‭ ‬ما‭ ‬يغيب‭ ‬عني‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬تخصصها،‭ ‬وابني‭ ‬يضيء‭ ‬لي‭ ‬جانبا‭ ‬لم‭ ‬ألتفت‭ ‬إليه،‭ ‬وزوجي‭ ‬يضيف‭ ‬خبرته‭ ‬العملية‭. ‬وأنا‭ ‬أيضا‭ ‬أمدّهم‭ ‬برأيي‭ ‬حين‭ ‬يسألونني‭ ‬عن‭ ‬مسائل‭ ‬تتعلق‭ ‬بالقانون‭ ‬بحكم‭ ‬تخصصي‭. ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الحوارات‭ ‬خرجت‭ ‬قرارات‭ ‬أوضح‭ ‬وأقوى،‭ ‬وربما‭ ‬أكثر‭ ‬دفئا‭ ‬لأنها‭ ‬وُلدت‭ ‬من‭ ‬مشاركة‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬انفراد‭.‬

هذه‭ ‬التجربة‭ ‬البسيطة‭ ‬أقنعتني‭ ‬أن‭ ‬الديمقراطية‭ ‬لا‭ ‬تبدأ‭ ‬في‭ ‬القاعات‭ ‬الكبرى‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬صناديق‭ ‬الاقتراع‭ ‬وحدها،‭ ‬إنما‭ ‬في‭ ‬أبسط‭ ‬دوائرنا‭ ‬القريبة‭. ‬حين‭ ‬نتبادل‭ ‬الرأي‭ ‬بصدق‭ ‬ونصغي‭ ‬لبعضنا،‭ ‬نكتشف‭ ‬أن‭ ‬المشاركة‭ ‬ليست‭ ‬تفصيلا‭ ‬هامشيا،‭ ‬بل‭ ‬حاجة‭ ‬تجعل‭ ‬القرارات‭ ‬أكثر‭ ‬وضوحا‭ ‬والحياة‭ ‬أكثر‭ ‬حميمية‭. ‬إنها‭ ‬في‭ ‬حقيقتها‭ ‬أسلوب‭ ‬عيش،‭ ‬أن‭ ‬نصغي‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نحكم،‭ ‬وأن‭ ‬نترك‭ ‬مكانا‭ ‬للرأي‭ ‬المختلف،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬نقبله‭ ‬في‭ ‬النهاية‭.‬

في‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬سبتمبر‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬يجري‭ ‬الاحتفال‭ ‬باليوم‭ ‬العالمي‭ ‬للديمقراطية‭.  ‬وهي‭ ‬مناسبة‭ ‬أراها‭ ‬فرصة‭ ‬لنتأمل‭ ‬معنى‭ ‬المشاركة،‭ ‬فالعالم‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬أُنجز‭ ‬من‭ ‬دساتير‭ ‬وقوانين‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬يتعثر‭ ‬في‭ ‬أبسط‭ ‬ما‭ ‬تعنيه‭ ‬الديمقراطية‭: ‬أن‭ ‬يملك‭ ‬الإنسان‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يُسمع‭ ‬صوته‭ ‬بلا‭ ‬خوف‭.‬

وللديمقراطية‭ ‬جذور‭ ‬بعيدة‭. ‬في‭ ‬أثينا‭ ‬القديمة‭ ‬اجتمع‭ ‬الناس‭ ‬ليتداولوا‭ ‬شؤونهم‭ ‬العامة‭. ‬التجربة‭ ‬كانت‭ ‬محدودة،‭ ‬لكنها‭ ‬كشفت‭ ‬حاجة‭ ‬الإنسان‭ ‬الدائمة،‭ ‬ألا‭ ‬يُدار‭ ‬شأنه‭ ‬من‭ ‬دونه‭. ‬عبر‭ ‬القرون‭ ‬تعددت‭ ‬الأشكال،‭ ‬وتطورت‭ ‬القوانين،‭ ‬لكن‭ ‬الجوهر‭ ‬لم‭ ‬يتغير،‭ ‬صوت‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬القرار‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬سوء‭ ‬فهم‭ ‬يتكرر‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭. ‬كثيرون‭ ‬يختزلون‭ ‬الديمقراطية‭ ‬في‭ ‬أنها‭ ‬‮«‬حكم‭ ‬الأغلبية‮»‬‭. ‬هذا‭ ‬المعنى،‭ ‬على‭ ‬بساطته،‭ ‬قد‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬تهميش‭ ‬الأقلية‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تُصن‭ ‬حقوقها‭. ‬فليست‭ ‬الغاية‭ ‬أن‭ ‬يفوز‭ ‬العدد‭ ‬الأكبر‭ ‬وحسب،‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬تبقى‭ ‬مساحة‭ ‬للآخر‭ ‬المختلف‭. ‬الديمقراطية‭ ‬الحقيقية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تتيح‭ ‬للأغلبية‭ ‬أن‭ ‬تُقرر،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬تضمن‭ ‬للأقلية‭ ‬أن‭ ‬يُسمع‭ ‬صوتها‭ ‬بلا‭ ‬تهميش‭. ‬من‭ ‬دون‭ ‬هذا‭ ‬التوازن،‭ ‬تتحول‭ ‬الديمقراطية‭ ‬إلى‭ ‬شكل‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬السلطوية،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬جرت‭ ‬عبر‭ ‬صناديق‭ ‬التصويت‭.‬

في‭ ‬البحرين،‭ ‬تبدو‭ ‬هذه‭ ‬القيمة‭ ‬أكثر‭ ‬إلحاحا‭. ‬مجتمع‭ ‬صغير‭ ‬بتنوع‭ ‬واسع،‭ ‬يجمع‭ ‬خلفيات‭ ‬مختلفة‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬واحدة‭. ‬لهذا‭ ‬لا‭ ‬تكفي‭ ‬الديمقراطية‭ ‬كإجراء‭ ‬انتخابي،‭ ‬بل‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تمتد‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة،‭ ‬حين‭ ‬يُترك‭ ‬مجال‭ ‬للسؤال،‭ ‬وإلى‭ ‬الجمعيات‭ ‬حين‭ ‬يُحترم‭ ‬صوت‭ ‬الأقلية،‭ ‬وإلى‭ ‬بيئات‭ ‬العمل‭ ‬حيث‭ ‬يُسمح‭ ‬حتى‭ ‬للشاب‭ ‬الصغير‭ ‬بأن‭ ‬يقترح‭ ‬تغييرًا‭.‬

وما‭ ‬زالت‭ ‬بعض‭ ‬العوائل‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬تحافظ‭ ‬على‭ ‬عادة‭ ‬فتح‭ ‬مجالسها‭ ‬للزوار‭. ‬تُقدَّم‭ ‬القهوة‭ ‬وتدور‭ ‬الأحاديث،‭ ‬وتتنوع‭ ‬الآراء‭ ‬حول‭ ‬موضوعات‭ ‬شتى‭. ‬قد‭ ‬يعلو‭ ‬النقاش‭ ‬أحيانا،‭ ‬لكن‭ ‬المجلس‭ ‬يظل‭ ‬قائما‭ ‬بروح‭ ‬المشاركة‭ ‬والإصغاء‭. ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المجالس‭ ‬لا‭ ‬تحمل‭ ‬اسم‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬لكنها‭ ‬تعكس‭ ‬قيمها‭ ‬الإنسانية‭ ‬البسيطة؛‭ ‬الإصغاء،‭ ‬التسامح،‭ ‬وقبول‭ ‬التنوع‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬القانون،‭ ‬فقد‭ ‬تعلمت‭ ‬قاعدة‭ ‬أساسية؛‭ ‬لا‭ ‬عدالة‭ ‬بلا‭ ‬سماع‭ ‬الطرفين‭. ‬المحكمة‭ ‬لا‭ ‬تصدر‭ ‬حكما‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يُعرض‭ ‬ما‭ ‬لدى‭ ‬الجميع‭. ‬والقاعدة‭ ‬نفسها‭ ‬تصلح‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬اليومية،‭ ‬فإذا‭ ‬استمعنا‭ ‬إلى‭ ‬صوت‭ ‬واحد‭ ‬بقينا‭ ‬في‭ ‬نصف‭ ‬صورة،‭ ‬وإذا‭ ‬جمعنا‭ ‬الآراء‭ ‬اكتملت‭ ‬الرؤية،‭ ‬وأمكن‭ ‬أن‭ ‬نصنع‭ ‬قرارًا‭ ‬أقرب‭ ‬للإنصاف‭.‬

في‭ ‬جوهرها،‭ ‬تمنحنا‭ ‬الديمقراطية‭ ‬شيئا‭ ‬يتجاوز‭ ‬الآليات‭ ‬والإجراءات،‭ ‬إنها‭ ‬تبني‭ ‬الثقة‭. ‬ليس‭ ‬بين‭ ‬الحاكم‭ ‬والمحكوم‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬أنفسهم‭. ‬حين‭ ‬أطمئن‭ ‬أن‭ ‬رأيي‭ ‬لن‭ ‬يُلغى‭ ‬لمجرد‭ ‬أنه‭ ‬مختلف،‭ ‬أقترب‭ ‬أكثر‭ ‬ممن‭ ‬حولي،‭ ‬وأجرؤ‭ ‬على‭ ‬المشاركة‭ ‬بلا‭ ‬خوف‭. ‬هذه‭ ‬الثقة‭ ‬المتبادلة‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يحوّل‭ ‬المجتمع‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬متباعدين‭ ‬إلى‭ ‬نسيج‭ ‬واحد،‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬يختلف‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتفكك‭.‬

حين‭ ‬قررت‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬تخصيص‭ ‬يوم‭ ‬عالمي‭ ‬للديمقراطية،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الهدف‭ ‬إضافة‭ ‬مناسبة‭ ‬جديدة،‭ ‬لكنها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬لفت‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬القيمة،‭ ‬مهما‭ ‬بدت‭ ‬راسخة،‭ ‬تبقى‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬حماية‭. ‬فالخطر‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭: ‬أن‭ ‬يعلو‭ ‬صوت‭ ‬واحد‭ ‬ويُقصى‭ ‬الباقون‭. ‬لهذا‭ ‬يأتي‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬كوقفة‭ ‬للتذكير‭ ‬بأن‭ ‬الديمقراطية‭ ‬لا‭ ‬تُعطى‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬وتنتهي،‭ ‬بل‭ ‬تُبنى‭ ‬وتُصان‭ ‬كل‭ ‬يوم‭.‬

قد‭ ‬يرى‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬طرح‭ ‬مثالي‭. ‬لكن‭ ‬التغيير‭ ‬لا‭ ‬يحدث‭ ‬دفعة‭ ‬واحدة،‭ ‬بل‭ ‬بخطوات‭ ‬صغيرة‭: ‬درس‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬يشجع‭ ‬على‭ ‬الحوار،‭ ‬ونقاش‭ ‬عائلي‭ ‬لا‭ ‬يُغلق‭ ‬بسرعة،‭ ‬واجتماع‭ ‬عمل‭ ‬لا‭ ‬يُستهان‭ ‬فيه‭ ‬بالمقترح‭ ‬البسيط‭. ‬هذه‭ ‬التراكمات‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تُكوّن‭ ‬ثقافة‭ ‬جديدة،‭ ‬وتجعل‭ ‬الاختلاف‭ ‬ممكنًا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬خصومة‭.‬

الديمقراطية‭ ‬لا‭ ‬تقدّم‭ ‬حلولا‭ ‬سحرية،‭ ‬لكنها‭ ‬تمنحنا‭ ‬طريقة‭ ‬أهدأ‭ ‬للعيش‭ ‬مع‭ ‬اختلافاتنا‭. ‬وتمنح‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬شعورا‭ ‬بأنه‭ ‬حاضر‭ ‬وله‭ ‬مكان‭. ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬الديمقراطية‭ ‬تعيش‭ ‬حين‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬اختلافنا‭ ‬قوة،‭ ‬وفي‭ ‬تنوّعنا‭ ‬فرصة،‭ ‬وفي‭ ‬صوت‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منا‭ ‬قيمة‭ ‬لا‭ ‬يُستغنى‭ ‬عنها‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا