أعترف أن الديمقراطية أفادتني قبل أن أفكر فيها كقيمة عامة. كنت أظنها شأنا عاما، لكنني وجدتها قريبة جدا من تفاصيل حياتي. في البيت، حين أستمع إلى ابنتي أو ابني أو زوجي، أكتشف أن القرار الذي أصل إليه وحدي ليس دائما الأفضل. ابنتي تكشف لي ما يغيب عني من زاوية تخصصها، وابني يضيء لي جانبا لم ألتفت إليه، وزوجي يضيف خبرته العملية. وأنا أيضا أمدّهم برأيي حين يسألونني عن مسائل تتعلق بالقانون بحكم تخصصي. من هذه الحوارات خرجت قرارات أوضح وأقوى، وربما أكثر دفئا لأنها وُلدت من مشاركة لا من انفراد.
هذه التجربة البسيطة أقنعتني أن الديمقراطية لا تبدأ في القاعات الكبرى ولا في صناديق الاقتراع وحدها، إنما في أبسط دوائرنا القريبة. حين نتبادل الرأي بصدق ونصغي لبعضنا، نكتشف أن المشاركة ليست تفصيلا هامشيا، بل حاجة تجعل القرارات أكثر وضوحا والحياة أكثر حميمية. إنها في حقيقتها أسلوب عيش، أن نصغي قبل أن نحكم، وأن نترك مكانا للرأي المختلف، حتى لو لم نقبله في النهاية.
في الخامس عشر من سبتمبر من كل عام يجري الاحتفال باليوم العالمي للديمقراطية. وهي مناسبة أراها فرصة لنتأمل معنى المشاركة، فالعالم رغم ما أُنجز من دساتير وقوانين ما زال يتعثر في أبسط ما تعنيه الديمقراطية: أن يملك الإنسان الحق في أن يُسمع صوته بلا خوف.
وللديمقراطية جذور بعيدة. في أثينا القديمة اجتمع الناس ليتداولوا شؤونهم العامة. التجربة كانت محدودة، لكنها كشفت حاجة الإنسان الدائمة، ألا يُدار شأنه من دونه. عبر القرون تعددت الأشكال، وتطورت القوانين، لكن الجوهر لم يتغير، صوت يبحث عن مكان في القرار.
غير أن هناك سوء فهم يتكرر حتى اليوم. كثيرون يختزلون الديمقراطية في أنها «حكم الأغلبية». هذا المعنى، على بساطته، قد يقود إلى تهميش الأقلية إذا لم تُصن حقوقها. فليست الغاية أن يفوز العدد الأكبر وحسب، بل أن تبقى مساحة للآخر المختلف. الديمقراطية الحقيقية هي التي تتيح للأغلبية أن تُقرر، وفي الوقت نفسه تضمن للأقلية أن يُسمع صوتها بلا تهميش. من دون هذا التوازن، تتحول الديمقراطية إلى شكل آخر من السلطوية، حتى لو جرت عبر صناديق التصويت.
في البحرين، تبدو هذه القيمة أكثر إلحاحا. مجتمع صغير بتنوع واسع، يجمع خلفيات مختلفة على أرض واحدة. لهذا لا تكفي الديمقراطية كإجراء انتخابي، بل ينبغي أن تمتد إلى المدرسة، حين يُترك مجال للسؤال، وإلى الجمعيات حين يُحترم صوت الأقلية، وإلى بيئات العمل حيث يُسمح حتى للشاب الصغير بأن يقترح تغييرًا.
وما زالت بعض العوائل في البحرين تحافظ على عادة فتح مجالسها للزوار. تُقدَّم القهوة وتدور الأحاديث، وتتنوع الآراء حول موضوعات شتى. قد يعلو النقاش أحيانا، لكن المجلس يظل قائما بروح المشاركة والإصغاء. مثل هذه المجالس لا تحمل اسم الديمقراطية، لكنها تعكس قيمها الإنسانية البسيطة؛ الإصغاء، التسامح، وقبول التنوع.
أما في القانون، فقد تعلمت قاعدة أساسية؛ لا عدالة بلا سماع الطرفين. المحكمة لا تصدر حكما قبل أن يُعرض ما لدى الجميع. والقاعدة نفسها تصلح في حياتنا اليومية، فإذا استمعنا إلى صوت واحد بقينا في نصف صورة، وإذا جمعنا الآراء اكتملت الرؤية، وأمكن أن نصنع قرارًا أقرب للإنصاف.
في جوهرها، تمنحنا الديمقراطية شيئا يتجاوز الآليات والإجراءات، إنها تبني الثقة. ليس بين الحاكم والمحكوم فحسب، بل بين الناس أنفسهم. حين أطمئن أن رأيي لن يُلغى لمجرد أنه مختلف، أقترب أكثر ممن حولي، وأجرؤ على المشاركة بلا خوف. هذه الثقة المتبادلة هي ما يحوّل المجتمع من أفراد متباعدين إلى نسيج واحد، يعرف كيف يختلف من دون أن يتفكك.
حين قررت الأمم المتحدة تخصيص يوم عالمي للديمقراطية، لم يكن الهدف إضافة مناسبة جديدة، لكنها من أجل لفت النظر إلى أن هذه القيمة، مهما بدت راسخة، تبقى بحاجة إلى حماية. فالخطر واحد في كل مكان: أن يعلو صوت واحد ويُقصى الباقون. لهذا يأتي هذا اليوم كوقفة للتذكير بأن الديمقراطية لا تُعطى مرة واحدة وتنتهي، بل تُبنى وتُصان كل يوم.
قد يرى البعض أن هذا طرح مثالي. لكن التغيير لا يحدث دفعة واحدة، بل بخطوات صغيرة: درس في المدرسة يشجع على الحوار، ونقاش عائلي لا يُغلق بسرعة، واجتماع عمل لا يُستهان فيه بالمقترح البسيط. هذه التراكمات هي التي تُكوّن ثقافة جديدة، وتجعل الاختلاف ممكنًا من دون خصومة.
الديمقراطية لا تقدّم حلولا سحرية، لكنها تمنحنا طريقة أهدأ للعيش مع اختلافاتنا. وتمنح كل إنسان شعورا بأنه حاضر وله مكان. في النهاية، الديمقراطية تعيش حين نجد في اختلافنا قوة، وفي تنوّعنا فرصة، وفي صوت كل واحد منا قيمة لا يُستغنى عنها.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك