الأمة العربية بحاجة إلى تحولات فكرية كبيرة وقيمية لكي تخرج من حالة التراجع العلمي والتكنولوجي والإنتاجي وتواكب العصر وتبني قدراتها الإنتاجية وإمكاناتها العلمية التي ستمكنها من التصالح مع شعوبها والدفاع عن نفسها وتوفير حياة كريمة لمجتمعاتها والخروج من عباءة الغرب. بالإضافة إلى التحولات الفكرية والقيمية فإنها كذلك بحاجة إلى كثير من رؤوس الأموال. من هذا المنطلق فإن دول الخليج لديها القدر الكبير من رؤوس الاموال التي يمكن أن توظفها في تنمية القدرات العلمية والتكنولوجية العربية وإنتاج المعرفة وارتياد مجال التصنيع في مختلف الدول العربية والخليجية. وإذا كانت هناك حاجة إلى جذب رؤوس أموال أجنبية، وفق تقرير (المنتدى الاقتصادي العالمي)، فهذا لا يعني أن رؤوس الأموال العربية غائبة، فدول الخليج لديها القدرة الاستثمارية من خلال الصناديق السيادية أو من القطاع الخاص الخليجي.
يؤكد ذلك ما نشره المنتدى الاقتصادي العالمي (2025)، الذي يقول إن دول الخليج تتجه نحو تحول اقتصادي ونقلة اقتصادية مدفوعة بخمسة أعمدة جعلتها مركزا مهما لرؤوس الأموال الأجنبية. العمود الأول التنظيم المتقدم، فهي تقدم أطراً تنظيمية مرنة تستجيب لاحتياجات الاستثمار المتغيرة، مثلا أدخلت البحرين تراخيص جديدة من المصرف المركزي لتوسيع نطاق عمليات مكاتب الاستثمارات العائلية، مما يسمح لها بإدارة مجموعة واسعة من الأصول بما في ذلك الصناديق الخاصة والأسهم الخاصة. غير أن هناك محاذير برزت جراء استغلال بعض الأجانب هذه التسهيلات في جذب رؤوس أموال صغيرة جدا يكتسب بها صفة المستثمر ويستفيد من الامتيازات التي تقدمها الدولة دون أن يسهم بشكل فعلي في الاقتصاد المحلي. لذلك على الجهات المسؤولة أن تقدم إجابات مدروسة على عديد من التساؤلات حول الاستثمار الأجنبي مثل:
1. ما الاستفادة والنتائج من وجود الأثرياء في الخليج؟
2. كيف يؤثر وجودهم في النمو الاقتصادي وعلى التنوع والتقدم التكنولوجي؟
3. هل لديهم الاستعداد لنقل التكنولوجيا والخبرة إلى الخليج؟
4. على المدى البعيد كيف يؤثر وجودهم في التصنيع وعلى التقدم العلمي والتكنولوجي؟
5. ما السلبيات الاجتماعية والأمنية من وجود الأجانب بشكل عام والأثرياء منهم بصفة خاصة؟
6. ما القطاعات الأكثر استفادة من وجود الأثرياء في الخليج؟
7. هل تعم الفائدة على المجتمعات الخليجية أم فقط الدولة المضيفة؟
8. هل تستفيد الدول من هذه الفوائد بشكل تلقائي أم أنها تحتاج إلى وضع سياسات معينة لتحقيق الاستفادة الاقتصادية والمجتمعية؟
9. ما السياسات التي على الدولة المضيفة وضعها لتحقيق الاستفادة الاقتصادية القصوى من هذه الاستثمارات؟
إذا ما تمت الإجابة عن التساؤلات والتحقق من جدوى النتائج فإن هناك خصائص يراها المنتدى الاقتصادي العالمي تؤثر في قرار المستثمر تتلخص في: أولا: التنظيم المتقدم- حيث تسعى دول مجلس التعاون الخليجي إلى تقديم أطر تنظيمية مرنة تستجيب لاحتياجات الاستثمار المتغيرة.
ثانيا: الضرائب الفعالة من حيث التكلفة: تقدم دول مجلس التعاون الخليجي سياسات ضريبية واضحة وصديقة للمستثمرين، مما يجعلها بدائل جذابة للمراكز المالية التقليدية. على سبيل المثال، كثير من دول الخليج لا تفرض ضرائب على الدخل الشخصي وتقدم بيئة أعمال بتكاليف تشغيل منخفضة. هذه السياسة الضريبية لها حسناتها، ولكنها لا تخلو من سلبيات على الميزانية العامة وقدرة الدولة على تنمية المجتمع وتحقيق التوزيع المتكافئ للإيرادات والمكاسب من ازدهار النشاط الاقتصادي. من السلبيات المحتملة تقليل الإيرادات الحكومية على المستوى القصير والمتوسط، هذا قد يؤثر في قدرة الحكومة على تمويل البرامج وتنمية المجتمع والمشاريع التنموية. هذا بدوره يرفع الفوارق في الدخل بين طبقات المجتمع، زيادة دخل الطبقة الغنية وتقليل دخل الطبقة الفقيرة وكذلك تقليل الإنفاق على البنى التحتية والخدمات العامة. كما أن استفادة الشركات الكبيرة من هذا التخفيض في الضرائب أكبر بكثير من استفادة الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تتأثر بشكل أكبر ما لم توضع سياسة داعمة وحامية لها.
ثالثا: البنية التحتية المالية القوية والابتكار: تتميز دول مجلس التعاون الخليجي بدمج الأنظمة المالية الناضجة مع نهج يقوده الابتكار. على سبيل المثال، تستضيف البحرين أكثر من 350 كيانًا ماليًا، مما يجعلها تتمتع بأعلى تركيز في المنطقة. رابعا: الخصوصية والحماية: تعد الخصوصية والسرية أمرًا بالغ الأهمية للمكاتب العائلية، وتوفر دول مجلس التعاون الخليجي أطرًا قانونية قوية لحماية البيانات.
خامسا: الحوافز الحياتية والإقامة: تسعى دول مجلس التعاون الخليجي إلى جذب واستبقاء المواهب العالمية والاستثمارات طويلة الأجل من خلال برامج التأشيرات الذهبية.
لا يخلو الأمر من وجود تحديات كبيرة تواجه دول المنطقة في طريقها التنموي وكسر حاجز الاستقلال المعرفي والعلمي والتكنولوجي. من أهم التحديات الاستمرار في التنوع الاقتصادي وتقليل الاعتماد على النفط في تمويل الميزانيات، وتحويل إيرادات النفط إلى استثمارات في خلق الثروة مثل تحسين جودة التعليم والتدريب والبحث العلمي والتصنيع وتنمية القدرات البشرية، بهذا يمكنها مواكبة العصر والدفع نحو تكوين مهارات الابتكار. يلاحظ أن هناك تركيزا خليجيا قد لا يكون متكافئا في مجالات مثل السياحة والمضاربات العقارية، هذه جوانب مهمة، ولكن لا ينبغي أن تطغى على الاهتمام بالجانب الإنتاجي. فكثير من هذه الاستثمارات قصيرة الأجل، بما فيها الاستثمارات المالية، تأثيرها في الاقتصاد قد يكون وقتيا وغير مستدام. من التحديات أيضا العمل على جعل التشريعات والقوانين أكثر شفافية وعدالة لتعزيز جاذبية الدول الخليجية مع العمل على تعزيز الاستقرار السياسي والأمني من خلال سياسات مالية توزيعية تحقق مزيدا من العدالة الاجتماعية مع الانفتاح على القيم الديمقراطية والحريات الفكرية والأكاديمية والبحثية.
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك