خلال المرحلة الانتقالية الحرجة، في فترة ما بين عهدين من النظم العالمية، التي تتسم بـ«الفراغ في القيادة والحوكمة الدولية وبعدم الاستقرار وبالمنافسة والحسابات المجهولة، حيث يصبح كل شيء تقريباً ممكناً»، تواجه دول العالم الصغيرة والمتوسطة جميع أنواع الأخطار والتوقعات والتهديدات الوجودية... والسؤال الجوهري في هذه المرحلة هو: ما السبل والخيارات المطروحة في مواجهة هذا التحدي الوجودي للدول؟... سؤال يحمل أبعادا استراتيجية وتاريخية عميقة، والإجابة عنه تحتاج إلى تحليل دقيق يتجنب المخاطر، وينطلق من فهم أن سياسة القوة والعنف ليست عملية سريعة أو سهلة، أو حتى ممكنة، بل هي معركة وجودية طويلة الأمد تتطلب حكمة وصبراً واستراتيجية متعددة الأوجه، وهذا منطلقنا في محاولة تحديد بعض الرؤى للإجابة عن سؤال مواجهة تحديات المرحلة... ونترك الباب مفتوحاً أمام المفكرين للمزيد من الرؤى التي قد تدعم مواقف صانعي القرار في هذا الشأن الخطير.
جبهات المعركة الوجودية الشاملة
إن مواجهة تحديات المعركة الوجودية الشاملة المفروضة على بلداننا، منذ سقوط النظام الدولي، لا تعني بالضرورة المواجهة العسكرية المباشرة التي قد تكون غير متكافئة، بل هي تدور على عدة جبهات، أهمها الجبهة الداخلية: من خلال معركة الوحدة الوطنية والعدالة والتنمية؛ والجبهة الإقليمية: في معركة التضامن والتكامل الاقتصادي العربي؛ وعلى الجبهة الدولية: بالبعد الدبلوماسي والتعامل الذكي مع القانون الدولي والرأي العام العالمي والتحالفات والضمانات الدولية... أما جبهة الوعي فإنها تعد الركيزة الأولى التي تتعامل مع القوة الناعمة (الإعلام، الثقافة، التعليم، الفكر) في بناء ودعم كل الجبهات الأخرى، أي أن فشل جبهة الوعي ينعكس بالفشل على كل الجبهات.
وفي هذا يمكن الاستطراد حول أهم الأدوات الذكية المفعّلة في العلاقات الدولية، في الحرب والسلم، في المصالح والتحالفات، وفي الأخطار والتحديات.
التضامن العربي ضرورة وليس خيارا
بداية، وبتحليل الواقع العربي، بأبعاده الجيوسياسية والاقتصادية والتاريخية، في مواجهة تحديات المرحلة الانتقالية الحرجة التي تمر بها الدول العربية عموماً، وهي جميعها من الدول الصغيرة، تؤكد النتائج أنه لا يمكن لأية دولة منها منفردة النجاة من الصراع الاستقطابي الدولي، ومن المشاريع الإقليمية والدولية المعدة سلفاً للمنطقة، أخطرها مشروع «الشرق الأوسط الجديد» المعلن والجاري تنفيذه منذ بداية القرن الجديد (2003)؛ بمعنى أن التضامن العربي لم يعد خياراً بقدر ما هو ضرورة في هذه المرحلة، على أن يكون قائماً على المنطق الاستراتيجي، الذكي، وليس على الخطط المعدة والمحددة سلفاً، التي لم تجد نفعاً على مدار قرن من الزمان.
إن المنطق الاستراتيجي هنا يبدأ باعتماد استغلال ايجابيات عنصر التمايز (Differentiation) في مقومات الدول العربية، بكل أبعاده المركبة والمعقدة.
للتمايز بين الدول، بمركباته ومفاهيمه السلبية والإيجابية، دور رئيسي في العلاقات الدولية ورسم الخرائط الإقليمية والدولية، سياسياً واقتصاديا، ولاعتماده في خلق بيئة تضامنية عربية سليمة يلزم الاتفاق حول مفهوم هذا المصطلح، لتعظيم دوره واستثماره بمنطق الفكر المعاصر؛ إذ التمايز هنا هو ما يتحدد بالاختلافات الهيكلية والوظيفية بين الدول العربية من حيث القوة، الثروة، الاستقرار، السلوك، والتأثير على الساحة الدولية، وحسابات القوة الصلبة (القوة المادية)، المتمثلة في القوة العسكرية والاقتصادية والجغرافيا والسكان؛ والقوة الناعمة (القوة اللامادية) المتمثلة في النموذج السياسي والثقافي والدبلوماسي والنفوذ.
وبإيجاز شديد، لا يُعد تمايز الدول مجرد اختلاف في الثروة أو القوة أو النموذج السياسي، بل هو نظام معقد يحدد التفاوت في مكانة الدولة ودورها وخياراتها على مستوى العلاقات الدولية، وهذا التفاوت هو السمة الأساسية التي تشكل ديناميكيات السياسات الإقليمية والعالمية، من التعاون إلى الصراع.
الدبلوماسية والمستوى السياسي
الدبلوماسية العربية هي الأداة التكتيكية لتنفيذ استراتيجيات السياسات الخارجية العربية، للحفاظ على المصالح والأمن والاستقرار الإقليمي... ورغم ما تملكه الدبلوماسية العربية من إمكانيات كبيرة بفضل الموارد والثروات والموقع الجيواستراتيجي الحيوي للمنطقة، فإنها تواجه تحديات خطيرة أبرزها: استمرار العمل بالنمط الدبلوماسي التقليدي (دبلوماسية ما بعد الاستعمار)، والتدخلات الخارجية، التي تراهن على إضعاف الدبلوماسية العربية، وتقييد دورها، وشل قدراتها في المناورة على المستوى الدولي. إضافة إلى تحدي الفشل في توحيد المواقف، وصعوبة تحقيق إجماع عربي حقيقي على المستويين الإقليمي والدولي بسبب تعدد المصالح والانقسامات.
إن تحدي المرحلة الدولية الانتقالية يُلزم الدبلوماسية العربية بتحديث فكرها وأدواتها لمواكبة تطورات العصر، أولاً: ببناء جسور من المصالح المشتركة الفعلية بين الدول العربية، والتكيف مع متغيرات النظام الدولي؛ وثانياً: ببناء منظومة الدبلوماسية الرقمية، والدبلوماسية العامة؛ وثالثاً: بتفعيل الدبلوماسية الدولية المتعددة الأقطاب، وتعزيز العلاقات مع القوى الصاعدة (مثل الصين، روسيا، الهند ككيانات مستقلة عن السياسات الغربية) لخلق توازنات دولية، ومنع احتكار الغرب لعملية صنع القرار الدولي، ورفع التكاليف السياسية والاقتصادية لأي عمل أحادي الجانب، والمساهمة في إعادة تأهيل الحوكمة العالمية؛ رابعاً: بمأسسة دبلوماسية الدعم القانوني والقضائي لتنظيم عملية اللجوء إلى القضاء الدولي (محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية) كسلاح أخلاقي وقانوني يفضح الممارسات على الساحة الدولية.
الاقتصاد والتنمية.. وبناء القوة الذاتية
أثبتت سياسات القرن العشرين أن الثروات العربية لم تُستغَل يوماً كسلاح فاعل لبناء القوة الذاتية العربية، أو لتعزيز المصالح العربية، بقدر ما كانت هذه الثروات هدفاً للتدخلات الخارجية والصراعات الدولية على المنطقة؛ ما يدعو إلى إعادة التفكير في تعزيز التكامل الاقتصادي العربي واستثمار الثروات في تعزيز الأمن والاستقرار الداخلي، وبناء القوة العربية على الدولي، كشرط من شروط مواجهة التحديات المرحلة الانتقالية الدولية.
معركة الوعي على المستويين الثقافي والإعلامي
إنها المعركة التي تعتمد عليها كل جبهات المعارك الأخرى في المجتمع، بدءًا بمعركة التضامن والتكامل الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي العربي؛ وبفشل معركة الوعي نخسر معاركنا الأخرى، في مواجهة التحدي الوجودي الأخطر. وكأحد أهم أدوات المواجهة هناك ضرورة ملحة لبناء منظومة فكرية عربية جديدة قادرة على أولاً: تعزيز الهوية والوعي الثقافي في مواجهة أخطار الحروب الإعلامية بجميع أنواعها؛ وثانياً: تطوير إعلام قادر على نقل المعاناة والحقوق العربية إلى العالم بلغة عصرية مفهومة، وتبني خطاباً بديلاً مقنعاً يعتمد على الحقائق والقيم الإنسانية المشتركة في مواجهة الآلة الإعلامية الغربية المسيطرة.
تحدي البنية الداخلية
إن تحدي بناء بنية عربية داخلية سليمة وقوية في كل مجتمع عربي على حدة يعد البعد الرئيسي الذي يتداخل مع جميع الأدوات والسبل والخيارات التي طرحناها في مواجهة المرحلة الانتقالية الدولية الخطيرة، أهم عناصر هذا البعد هو مكافحة الفساد وتحقيق العدالة لخلق مجتمعات عربية متماسكة آمنة قوية وقادرة على تخطي المرحلة بسلام، حيث لا يمكن مواجهة عدو خارجي بمجتمعات ضعيفة ومتهالكة من الداخل.
وفي المحصلة
لا يأتي النجاح من خيار واحد، بل من استراتيجية مركبة تجمع بين كل هذه العناصر بصبر وإصرار؛ وإن القوة الحقيقية تكمن في تحقيق الاستقلال الحقيقي وبناء الذات من الداخل، والتوحد مع الحلفاء في الخارج، واستخدام كل الأدوات المتاحة من سياسية واقتصادية وقانونية وثقافية لرفع كلفة سياسات القوة والعنف وجعلها غير مجدية لأصحابها.
sr@sameerarajab.net
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك