حين يشعر الناس أن المكان لهم يتغير كل شيء.. يمشون بطمأنينة ويبتسمون من دون تكلف ويتحركون في مساحة يعرفونها منذ زمن. لا يسألون أين يبدأ المشهد أو أين ينتهي لأنهم جزء منه.. هذا الإحساس هو أول ما يلمسه الزائر في ليالي المحرق وهوى المنامة. إحساس بسيط وعميق في الوقت نفسه يقول إن المدينة فُتحت لأهلها.
في هذه الليالي كان الشعور بالانتماء هو ما يقود التجربة. بدا الفضاء مألوفا والوجوه مطمئنة والحركة منسابة بشكل طبيعي.. هنا يبدأ المعنى الحقيقي من اللحظة التي يدرك فيها الزائر أن الفضاء صمم ليعاش ويحس وأنه جزء من الصورة من دون حاجة إلى تفسير.. يترك المكان للذاكرة أن تعمل وللإحساس أن يقود الخطوة فيتحول الحضور إلى مشاركة وتصبح الزيارة تجربة شخصية يشعر فيها الإنسان أن المدينة تعرفه كما يعرفها.
ومن هذا الإحساس بالانتماء يبدأ الأثر الأعمق. أثر لا يتوقف عند اللحظة وإنما يمتد ليغرس الهوية الوطنية كتجربة حية يشعر بها الناس. يرتبط الطفل بالمكان من خلال الفرح والأمان ويرى المراهق التاريخ قريباً منه وقابلاً للحياة كجزء من صورته عن ذاته .. ويجد كبير السن ذاكرته حاضرة ومحترمة ومتفاعلة مع الحاضر. بهذا التلاقي الهادئ بين الأجيال تتشكل ذاكرة جمعية تنمو بشكل طبيعي وتستقر في الوجدان من دون شعارات.
ولم تكن هذه الليالي مجرد فعالية ضمن موسم أعياد البحرين، وإنما امتداد لمعنى يضع الإنسان في قلب التجربة ويربطه بمكانه من دون تكلّف. هكذا تحول الحضور إلى علاقة تتشكل بهدوء وتبقى في الذاكرة.
وتظهر قوة هذه التجربة في بساطة الانطباعات التي تركتها. إحساس بالمكان قبل تفاصيله وراحة في الحركة وتنظيم واضح لا يربك ومشهد يجمع أعماراً مختلفة في مساحة واحدة. المحرق بدت قريبة وحقيقية والمنامة منحت إيقاعاً متزناً يسمح بالتأمل دون مبالغة في الوصف. في هذا الوعي الهادئ ظهر النجاح كما يجب أن يظهر.
وفي كل موقع كانت لكل مدينة نبرتها الخاصة دون حاجة إلى تكرار الصفات.
المحرق حضرت بروحها الاجتماعية الواضحة حيث الناس جزء من المشهد والفرجان امتداد طبيعي للحياة اليومية. أما المنامة فجاء حضورها مكملاً للصورة يوازن المشهد العام ويمنحه استقراراً يسمح للزائر أن يكون جزءاً من المكان على مهل.
هذا الاختلاف لم يصنع تناقضاً وإنما رسم توازنا متكامال. مدينتان بنبضين مختلفين اجتمعتا في صورة واحدة تعكس حقيقة البحرين. وطن يعرف كيف يجمع دون أن يذيب الفروق وكيف يصنع وحدة من تنوع متناسق.
ومن هنا تتضح قيمة ليالي المحرق وهوى المنامة كنموذج يمكن البناء عليه في استدامة الأعياد الوطنية. فالاحتفال هنا لا يختزل في أيام محدودة، بل يتحول إلى علاقة مستمرة مع المكان. وتؤكد حركة الزوار والرغبة في العودة أن التجربة خوطبت للجميع وأن التخطيط راعى الإنسان قبل الصورة.
وهذا التكامل هو ما نحتاج أن يكون قاعدة في العمل الحكومي والعمل المؤسسي عموماً وفي الخدمات المقدمة للمجتمع بنفس المنهجية ونفس الفكر ونفس الوعي الذي يحافظ على الهوية ويضيف قيمة حقيقية للمواطن. فما ينجح في هذا السياق يمكن أن ينجح في مسارات أخرى حين ينظر إلى الإنسان كشريك في التجربة لا مجرد متلق لها.
وهنا تكتمل الرسالة. الهوية لا تصان بالخوف عليها ولا بتجميدها في الماضي ولا بتكرارها بصيغ مستهلكة. الهوية تحفظ حين يكون المكان صادقا وحين يشعر الناس أنها تخصهم وحين يجدون فيها مساحة طبيعية للانتماء.
{ مهتمة بالحوكمة وتطوير الأداء المؤسسي

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك