في خضم تصاعد العدوان الإسرائيلي وتوسع نطاق استهدافه لدول المنطقة، تأتي تحركات الدبلوماسية الأمريكية لتؤكد انحيازًا صارخًا، يضع التحالفات السياسية فوق مبادئ القانون الدولي، ويقوّض أي أفق للسلام العادل في الشرق الأوسط.
هاجمت حكومة بنيامين نتنياهو الإسرائيلية المتطرفة العديد من دول الشرق الأوسط، من اليمن إلى إيران بالتزامن مع حملتها من جرائم الحرب بحق الشعب الفلسطيني، والتي تشمل التجويع والتطهير العرقي والإبادة الجماعية، مُقوّضةً بذلك أمن واستقرار المنطقة بأسرها.
واستهدفت إسرائيل قطر في 9 سبتمبر 2025 لاغتيال كبار قادة حماس في الدوحة، فيما كانوا يتفاوضون على وقف إطلاق النار بحرب غزة التي استمرت 23 شهرًا. وتناول جيسون إتش كامبل، بمعهد الشرق الأوسط، كيف ستكون تداعيات هذا الهجوم الإسرائيلي «غير المسبوق» ضد دولة خليجية عربية؛ «عميقة» على «المشهد الجيوسياسي» العالمي، كما أكد د. بوركو أوزجيليك، بالمعهد الملكي للخدمات المتحدة، أرجحية أن «يفسد» هذا الهجوم «الفرصة الضئيلة المتبقية» لإنهاء حرب الدمار الإسرائيلية بشكل دبلوماسي.
وفي الأيام التالية، ووسط إدانة عالمية لم تكن مفاجئة في أشدها عن الدول العربية والتي ترى في الولايات المتحدة شريكًا أمنيًا رئيسيًا، أفاد ماثيو لي وسامي مجدي، من وكالة أسوشيتد برس كيف استقبل نتنياهو، ماركو روبيو، وزير الخارجية الأمريكي، ووقفا «جنبًا إلى جنب، مُقللين من شأن الضجة»، وأكد روبيو «دعم حكومته الثابت» لحرب إسرائيل ضد غزة.
وبدا روبيو غير مكترث لمخاوف الحكومات العربية، زاعمًا أن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب «يركز على الوضع الآن، وما سيحدث لاحقًا»؛ بدلاً من المساءلة عن انتهاك إسرائيل للقانون الدولي، ورفض التدخل للحيلولة دون تمادي إسرائيل بشنها المزيد من الهجمات العنيفة في جميع أنحاء المنطقة ضد مسؤولي حماس، ووصفت وكالة بلومبرج، إعلان روبيو اللاحق بعزمه التوجه إلى قطر بداع «إظهار الدعم» للدولة الخليجية العربية؛ على كونه مجرد وعود كلامية من قبل الحكومة الأمريكية التي تواصل التصرف بطريقة توآزر وتشجع جرائم الحرب الإسرائيلية.
في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على الدوحة، كتب إميل حكيم، بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، ما يمثله ذلك «من دليل بيّن على إيثار نتنياهو القوة على الدبلوماسية»، وتخلي حكومته المتطرفة «عن الرهائن الإسرائيليين لصالح الهدف الوهمي المتمثل في تدمير حماس كُليًّا».
وانضمت إليهم إدارة ترامب في هذا، حيث وصفت سالي لوكوود، من شبكة سكاي نيوز زيارة روبيو، بأنها «زيارة تضامن» وسط تزايد الإدانات الدولية لإسرائيل، بينما أفاد جوليان بورجر، من صحيفة «الغارديان» كيف تمثل الهدف الأساسي للزيارة في «الحد من الأضرار الدبلوماسية» الناجمة عن هجوم إسرائيل واستمرار تدميرها الشامل لغزة.
وبالنسبة إلى دول الخليج العربي، أثار حكيم، كيف أنهم «واجهوا للمرة الثانية في ثلاثة أشهر» بعد استهداف قصف صارخي إيراني لقاعدة العُديد في يونيو الماضي؛ «العواقب المادية» لحرب إسرائيل «التي استمرت عامين والتي أساءت إدارتها بالكامل»، والتي «تستشري آثارها» في جميع أرجاء المنطقة، وأضاف أن «الأهم من ذلك، أن الولايات المتحدة تبدو غير راغبة في فعل الكثير» حيال ذلك.
في الواقع، بينما كتب بورجر أن جزءًا من «مهمة» روبيو في إسرائيل، كان «نقل استياء دونالد ترامب» من الهجوم على قطر، أشار إريك مارتن، من وكالة بلومبرغ إلى امتناع وزير الخارجية في النهاية عن «انتقاد إسرائيل» بأي شكل من الأشكال، وبدلًا من ذلك ألقى باللوم على حماس في تصعيد العنف الإسرائيلي على غزة وبجميع أنحاء المنطقة.
على الرغم من استضافة قطر أكبر قاعدة عسكرية أمريكية بالمنطقة، واختيارها كحليف رئيسي من خارج حلف الناتو في عام 2022، إلا أن تعرض شريكها القديم للهجوم لم يعني شيئًا لإدارة ترامب، والتي نفى روبيو ذلك بقوله «ما حدث قد حدث، وأصر على أن عدوان إسرائيل السافر «لن يغير طبيعة علاقتنا».
وخلال المؤتمر الصحفي الذي جمعه بنتنياهو في 15 سبتمبر، أكد وزير الخارجية على عدم اكتراث بلاده بالتزاماتها الأمنية تجاه شركائها الإقليميين؛ من خلال الادعاء بأن «كل دولة» (في الواقع إسرائيل فقط) لها الحق في «الدفاع عن نفسها خارج حدودها»، وأن مسؤولي حماس ليسوا في مأمن من الهجمات الإسرائيلية «أينما وجدوا»، بما في تلك الدول التي تمتلك علاقات قوية مع واشنطن.
وفي هذا الصدد، أثار حكيم كيف يتملك «تركيا ومصر القلق» بشأن هجمات إسرائيلية مُحتملة ضدهما، وأنهما «أبلغتا الحكومة الأمريكية بمخاوفهما» بشأن ذلك؛ بيد أن رد إدارة ترامب على استهداف الطيران الإسرائيلي لقطر قد أكد كيف تحظى طموحات إسرائيل بالأسبقية لدى صانع السياسة الأمريكي، وبغض النظر عن العواقب الأوسع نطاقًا على شركائها الآخرين.
وبعد أن تجاهل روبيو غضب دول الشرق الأوسط جراء تصعيد إسرائيل للعدوان الخارجي، علق أيضًا عند حديثه إلى جانب نتنياهو قائلاً: «نحن بحاجة إلى المضي قدمًا، ومعرفة ما سيأتي لاحقًا» فيما يتعلق بغزة، وهو موقف ردد فيه وزير خارجية ترامب الخطاب الإسرائيلي من خلال التركيز بالكامل على استسلام حماس. وبعد أن زعم أن الرئيس الأمريكي يود «هزيمة حماس ... وإنهاء الحرب»، و«عودة جميع الرهائن الـ 48 إلى ديارهم ... ويريد كل ذلك دفعة واحدة»، أصر روبيو على أن مصير السكان المدنيين في غزة يقع على عاتق حماس، التي ذكر أن «بوسعهم الاستسلام الليلة، إذا أرادوا».
أشارت تصريحات وزير الخارجية الأمريكي عن «عملية عسكرية موجزة» للقضاء على ما تبقى من حماس، إلى دعم ضمني لتصعيد إسرائيل ضد غزة، والذي شمل مؤخرًا استهداف الأبراج السكنية، آخرها برج الغفري المكوّن من 16 طابقًا في غزة.
واعتبر دانيال بايمن، من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أن نتنياهو «تخلّى عن المفاوضات» لصالح «توسيع ساحة المعركة» في المنطقة. في المقابل، دعا ماركو روبيو قطر إلى «دور بنّاء» في جهود وقف إطلاق النار، ما يعكس نهج الإدارة الأمريكية في تحميل جميع الأطراف –باستثناء إسرائيل– مسؤولية استمرار الحرب، رغم أن حكومة نتنياهو اليمينية هي العقبة الرئيسية أمام التهدئة.
أكدت زيارة روبيو أيضًا موقف واشنطن المتشدد، إذ أعرب عن دعمه الضمني لتوسيع المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية. وأكدت الخارجية الأمريكية قبل الزيارة أن هدفها هو تعزيز «الاعتراف بالقدس كعاصمة أبدية لإسرائيل»، في وقتٍ تستعد فيه عدة دول غربية للاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال الدورة الـ80 للجمعية العامة للأمم المتحدة.
رفض روبيو إدانة المستوطنات، وصرّح بأن اعتراف فرنسا والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا بالدولة الفلسطينية «لن يكون له أي تأثير»، مؤكدًا موقفه أن «لن تكون هناك دولة فلسطينية»، ما يدل على تبنّي السياسة الإسرائيلية من قبل إدارة ترامب.
وأشار بورجر إلى أن جدول زيارة وزير الخارجية صُمم لتأكيد «الآثار التوراتية»، في إطار دعم إسرائيل للسيطرة على كامل القدس. وقام روبيو بزيارة «مدينة داوود» الواقعة في حي سلوان بالقدس الشرقية، حيث يسيطر المستوطنون على أراضٍ فلسطينية. وبرر الزيارة بأنها لموقع أثري مهم، إلا أن تأييد المسؤولين الأمريكيين لهذا الاستيلاء غير القانوني أصبح جزءًا من السياسة الخارجية الأمريكية، مما يقوّض فرص تحقيق حل الدولتين.
أبرزت زيارة روبيو في منتصف سبتمبر أن واشنطن هي الداعم الأبرز لحملة نتنياهو ضد الفلسطينيين. وفي الوقت نفسه، تواصل حكومات غربية أخرى التعاون مع إسرائيل رغم انتقاداتها العلنية. فالمملكة المتحدة، بقيادة كير ستارمر، استقبلت الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في لندن بعد الهجمات على قطر، متجاهلة دعوات من نواب بمجلس العموم لمقاطعته، وواصفًا تلك الدعوات بأنها مجرد «سياسات طلابية».
ورغم الإدانة البريطانية المتأخرة لانتهاكات غزة، إلا أن حكومة ستارمر بدت مكتفية بوعد هرتسوغ بإرسال «بعثة لتقصي الحقائق» لـ«دراسة الوضع في غزة على المستوى الإنساني»، بل دُعي أيضًا إلى إلقاء كلمة في معهد تشاتام هاوس، الذي وصف زيارته بأنها جزء من «تعزيز الحوار».
كرّر وزير الخارجية البريطاني، ديفيد لامي، نية بلاده الاعتراف بفلسطين لاحقًا في سبتمبر، إلا أن مدى التزام الدول الغربية بذلك لا يزال موضع شك، خاصة تحت الضغط الأمريكي والإسرائيلي.
وفيما اجتمع وزراء الخارجية العرب في الدوحة وانعقدت القمة العربية الإسلامية الطارئة للرد على التصعيد الإسرائيلي، أظهرت زيارة روبيو «وحدة أمريكية مع إسرائيل»، وفق لورا كيلي من صحيفة «ذا هيل»، مشيرة إلى استمرار الدعم الأمريكي لتوسيع الحرب، رغم تقارير عن توتر بين ترامب ونتنياهو بعد غارات قطر.
ومع مرافقة روبيو لترامب في زيارته بريطانيا، أشار بورجر إلى أن «الاعتراف بفلسطين» سيكون نقطة خلاف أمريكية - بريطانية، لكن ترحيب حكومة ستارمر بهرتسوغ يؤكد استمرار التعاون مع حكومة إسرائيلية متهمة بجرائم حرب.
وفي النهاية، قالت لوكوود إن «أي أمل في إنقاذ الوضع الإنساني في غزة قد تلاشى»، فيما تساءل حكيم عما إذا كان على دول الخليج إعادة النظر في اعتمادها على واشنطن إذا كانت عاجزة عن كبح جماح إسرائيل.
مع غياب المساءلة الدولية، وارتباط المواقف الغربية بحسابات المصالح لا العدالة، تتجه المنطقة نحو مزيد من التأزم، فيما يبقى الشعب الفلسطيني وحلفاء السلام في مواجهة مفتوحة مع سياسة أمر واقع تُفرض بالقوة والدعم السياسي اللامحدود.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك