في التاسع من سبتمبر 2025م، أعلنت الحكومة الأسترالية استثمار 11 مليار دولار أمريكي لشراء أسطول من الغواصات المسيّرة «الدرونز» تحت الماء، من خلال التعاقد مع إحدى الشركات الوطنية لتسليم وصيانة وتطوير تلك الغواصات خلال السنوات الخمس المقبلة، والتي وُصِفَت بأنها «مركبات بحرية ذاتية القيادة فائقة الحجم»، تم تصميمها لعمليات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع والهجوم على مسافات بعيدة وبشكل خفي، لذلك أُطلق عليها مسمى «الشبح». وواقع الأمر هو أن أستراليا قد بدأت بتطوير تلك الغواصات منذ عام 2022م واستثمرت فيها حوالي 140 مليار دولار، وباختصار فقد استرعى انتباهي أمران؛ الأول: الإنتاج الكامل لتلك الغواصات المسيرة داخل أستراليا، بما يعني توطين تلك الصناعات؛ والثاني: توظيف الذكاء الاصطناعي بشكل كبير في تلك الصناعات البحرية الواعدة. ومع أن تلك الأخبار ليست بالجديدة للمتابعين، خاصةً مع ازدياد جهود دول العالم في توظيف الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري عموما وفي الأمن البحري على نحوٍ خاص، فلا شك أن هناك تنافسا دوليا محموما في ذلك المجال، بل صار معياراً مهماً لتصنيف قوة الدول، بعيداً عن شراء كميات كبيرة من الأسلحة التقليدية، بما قد يفوق السلاح النووي ذاته. فعلى الرغم من تفوق الترسانة النووية لدى روسيا على مثيلتها الأمريكية، قال الرئيس فلاديمير بوتين: «من يسيطر على الذكاء الاصطناعي فسوف يسيطر على العالم».
ومع التسليم بتلك التطورات التي تمثل فرصاً مهمة للأمن البحري، في ظل تعقيد البيئة البحرية واختلافها بشكل جذري عن البيئة البرية، لكونها مساحات شاسعة ومن الصعب التحكم فيها، بالإضافة إلى استمرار أهمية البحار كمصادر للثروات الطبيعية، والأهمية المحورية للممرات المائية الثمانية في العالم كشرايين للتجارة الدولية – ومن أبرزها مضيقا هرمز وباب المندب بالنسبة إلى دول الخليج العربي والعالم؛ توجد تحديات في الوقت ذاته، وفي مقدمتها عدم اقتصار توظيف تلك التكنولوجيا على الدول، بل أضحت متاحة للجماعات دون الدول أيضاً. ففي فبراير 2024م، أعلنت القيادة المركزية الأمريكية إحباط هجوم للحوثيين بغواصات مسيرة بدائية تحت الماء، في هجوم هو الأول من نوعه باستخدام هذا السلاح، وكان ذلك مؤشراً بالغ الخطورة على دور التكنولوجيا في تهديد الأمن البحري، رغم وجود تقنية ذلك السلاح منذ عام 2016م، حيث تمكن العلماء من تطويره آنذاك في جامعة روتجرز في ولاية نيوجيرسي الأمريكية.
وتأسيساً على ما سبق، فإن التساؤل المهم هو: ما دلالات ذلك بالنسبة إلى الأمن البحري في الخليج العربي؟ لا شك أن بعض دول الخليج العربي قطعت شوطاً مهماً في التصنيع العسكري عموماً، وتوظيف التقنيات الحديثة في المجال البحري على وجه الخصوص. فهناك دول لديها سفنٌ ذكية، وأخرى توظف الذكاء الاصطناعي لمراقبة سواحلها، إلا أن توطين تلك الصناعات أضحى ضرورة استراتيجية لثلاثة أسباب؛ أولها: إن دول الخليج العربي دولٌ بحرية تطل على أهم ممرين مائيين دوليين هما مضيقا هرمز وباب المندب، ويقع المضيقان ضمن دائرة صراعات إقليمية مزمنة، في الوقت الذي تضاعف فيه اعتماد تلك الدول على التجارة البحرية. وثانيها: ارتباط مسألة توظيف الذكاء الاصطناعي في الأمن البحري بموضوع توطين الصناعات العسكرية عموماً، وهو ما نجحت فيه المملكة العربية السعودية، فحتى عام 2024م، بلغت نسبة التوطين 193%. وثالثها: سعي الجماعات دون الدول إلى توظيف البحار في الصراعات الإقليمية، والأمثلة على ذلك كثيرة. التكنولوجيا الحديثة ضرورة لمواجهة تهديدات الأمن البحري، بيد أنها في الوقت ذاته تفرض تحديات أمام الدول، خاصةً تلك التي لديها سواحل بحرية ممتدة، لكنها في الوقت ذاته تثير ثلاثة تساؤلات مهمة؛ الأول: إذا لم تتفق دول العالم على قواعد دولية، أو بالأحرى تتوصل إلى اتفاقية ملزمة لتقنين استخدام التكنولوجيا في المجال العسكري، فماذا عن الأمن البحري؟ وماذا عن مساحات البحار الشاسعة ووجود خلافات حول الحدود البحرية بين دول كثيرة، وعدم التزام بعضها باتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982م؟ والثاني: الجدل حول العلاقة السببية: هل الأمن البحري يهدد الأمن الإقليمي، أم أن الأخير هو السبب الرئيسي لتهديد الأمن البحري؟ والثالث: ما مدى كفاية الآليات التي تم تأسيسها لمواجهة تهديدات الأمن البحري ومن بينها التحالفات العسكرية؟ ومجمل القول هو إنه، في ظل تلك التكنولوجيا، ربما تحتاج الإسهامات الفكرية التي تجمعها «نظرية سيادة القوة البحرية» – والتي قد تتيح تفسير موازين القوى العالمية– إلى مراجعة نسبية، فمن يسيطر على التكنولوجيا البحرية يسيطر على البحار، لنكون أمام مشهد عالمي بالغ التعقيد كان سبباً في إصدار الدول الكبرى لاستراتيجيات منفصلة للأمن البحري، فضلاً عن تشكيل تحالفات وتحالفات مضادة، من بينها تحالف «أوكوس» بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا في سبتمبر 2021م، والذي تضمن الاتفاق بين الدول الثلاث على تبادل المعلومات والمعرفة في مجالات الأمن والدفاع والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية
والدولية في مركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك