مع بداية كل عام دراسي جديد في وطننا العربي، تتجدد الأسئلة حول إشكالية التعليم في المنطقة العربية، وتدور معظم تلك الأسئلة حول مدى إسهام التعليم في تطور البلدان العربية وتقدمها علميا، وتقنيا، واقتصاديا، ومقارنتها مع الدول التي ظهرت في نفس الفترة أي مرحلة ما بعد الاستقلال.
في سردية الإجابات عن تلك الأسئلة، برز في الساحة الفكرية اتجاهان؛ الأول يرى أن تأثير التعليم في المجتمعات العربية كان –ولا يزال- ضعيفا، ويذهب هذا الاتجاه إلى القول أن التعليم في الوطن العربي لا يزال بعيداً عن تحقيق طموحات الدول العربية وشعوبها، ويؤكد أنه منذ استقلال الدول العربية في خمسينيات القرن الماضي وربما قبل هذه الفترة بقليل وحتى الآن لم نلمس إلا تغييراً ضئيلاً على المجتمعات العربية في مجالي العلم والتكنولوجيا أسوة بما حصل لعمالقة آسيا مثلاً (سنغافورة، كوريا الجنوبية، تايوان، الصين) التي جعلت التعليم محور اهتمامها، ومرتكزاً لتطورها وتقدمها؛ فقطفت ثمار عنايتها بالتعليم؛ فباتت من الدول التي يشار إليها بالبنان في تطورها العلمي والتقني، والاقتصادي الذي انعكس مباشرة على حياة الأفراد من حيث رفاهيتهم، ومستوى جودة حياتهم. ويسهب هذا الفريق في توصيف تأثير التعليم فيقول: «إننا لم نسمع أو نقرأ عن أي دولة عربية حققت إنجازات علمية أو تقنية على مستوى العالم، وإن وجدت فهي قليلة جداً مقارنة بالدول التي لها سجل حافل بالإنجازات العلمية وبراءات الاختراع».
كما يذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى القول: «إن ما يصدق على العلم والتقنية ينسحب على الاقتصاد أيضاً؛ إذ لم تتمكن الدول العربية من تحقيق مستويات عالية في النمو الاقتصادي حيث إن نموها الاقتصادي لا يزال بطيئاً، ويواجه مشكلات عدة في مقدمتها مشكلة البطالة. ويعزو بعض الباحثين السبب وراء تلك المعضلات إلى عدم قدرة النظم التعليمية في الوطن العربي على إحداث تغييرات ملموسة في المجتمعات العربية تفضي إلى قيام ثورة علمية وتكنولوجية تعم أرجاء الوطن العربي».
أما الفريق الثاني، فإنه على عكس الفريق الأول يرى أن التعليم في الوطن العربي منذ انطلاقه بصورة نظامية، قد أسهم بشكل كبير في تطوير المجتمعات العربية، بدليل تحسن معدلات الصحة العامة، والفقر، والوعي الاجتماعي، والسياسي في تلك المجتمعات. ويشير هذا الفريق إلى أن التغيرات التي طرأت على المجتمعات الخليجية كان بسبب انتشار التعليم في هذه المجتمعات؛ حيث استطاعت هذه الدول في فترة وجيزة أن تحقق قفزات نوعية في مختلف المجالات بفضل تبنيها أنظمة تعليمية متطورة، ومناهج عصرية، وإدخال أساليب ووسائل تعليمية، وتقنيات متطورة في نظمها التعليمية أسهمت بشكل إيجابي في رفع مستوى كفاءة التعليم مما كان له أكبر الأثر في إحداث تغييرات اجتماعية واقتصادية ملموسة.
في تقديري، أن الفريقين على حق فيما ذهبا إليه، ولكن جانبهما الصواب إذا ما أجرينا مقارنة بين البلدان العربية و (عمالقة آسيا). وقد اخترنا هذه الدول لسبب أنها ظهرت في الفترة نفسها التي بدأت تتشكل فيها الدولة الوطنية في الوطن العربي.
إن دول آسيا لها تجارب في التعليم أبهرت دول العالم، وأن هذه التجارب أسهمت بصورة واضحة في إحداث قفزات نوعية في تقدم تلك الدول وتطورها علمياً وتكنولوجياً. إذ إنها استطاعت تحقيق مراكز متقدمة في عدد من المؤشرات العالمية ومن بينها التعليم وهو الذي أعطاها القوة والتميز والتمكن بحيث جعل منها دولاً منافسة للدول الكبرى بل لا نبالغ إذا قلنا أنها تتفوق عليها.
إن المتمعن في تجارب هذه الدول سيخرج بنتيجة مفادها، إن هذه الدول لا تخطط للحاضر فحسب، وإنما تفكر في المستقبل ليكون لهم دور فيه؛ فالصين على سبيل المثال تسعى وبصمت لأن تكون القوة الكبرى الرئيسية في العالم، وتقودها أحلامها إلى أن تكون بديلا للولايات المتحدة الأمريكية في قيادة العالم، وهو حلم مشروع خاصة أن الأخيرة بدأت بوادر الشيخوخة تظهر عليها، وهذا أمر ليس ببعيد وفق نظرية ابن خلدون الذي يرى أن صعود الحضارات وانهيارها تشبه حياة الإنسان حيث إن حياة الدول والشعوب تمر بفترات ومراحل قلما تختلف، حيث تنتقل من طور البداوة إلى حياة البذخ والترف ورقة العيش، لتصل في نهاية المطاف إلى سن الشيخوخة والهرم ثم الفناء، مما يضعف قوتها ويستدعي ظهور حضارة جديدة لتحل محلها.
إن كل المؤشرات تدل على أن مستقبل العالم سيكون بيد «التنين الصيني» والسر في ذلك بات معروفاً وهو تقدم الصين في جميع المجالات، وهو ما يمكنها من امتلاك القوة التي ستجعلها تهيمن على العالم، وتقف على قمة هرم النظام الدولي الجديد.
وإذا كانت دول آسيا وعلى رأسها الصين، قد استطاعت أن تنفض عنها غبار التخلف والاستعمار وتشق طريقها بقوة نحو التقدم والازدهار في المجالات كافة من خلال تبنيها لمنظومة تعليمية متطورة تنتج الإبداع والابتكار والعلم والأخير هو الرافعة الأساسية الحاسمة التي تصنع نهضة الأمم وتقدمها.
فإن المطلوب اليوم من المسؤولين العرب، أن يحذو حذو نظرائهم في دول آسيا الذين استطاعوا إخراج بلدانهم من دوائر التخلف إلى دوائر التقدم، وهذا لن يكون بالتمني أو التغني بدور العلم ، وبأهمية التعليم ودوره في تطوير المجتمعات، وإنما بالعزيمة والعمل على ترجمة الإيمان بالعلم على أرض الواقع من خلال إيجاد منظومات تعليمية قادرة على إنتاج مخرجات تعليمية مبدعة، ومبتكرة في شتى العلوم ؛ إذ ليس هناك سبيل لإنقاذ البلدان العربية من الضعف والهوان وقلة الحيلة، وتكالب الأمم عليها إلا من خلال العلم؛ لأنه الطريق إلى التقدم وهو أساس القوة.
ولما كان التعليم هو (الماستركى) الذي نستطيع به فتح كل بوابات التطور والتقدم، وهو أكسير الحياة لبلداننا العربية، فعلى الدول العربية أن تسلك طريقه، لكن ليس كل تعليم يفضي إلى التقدم العلمي والتقني. فالتعليم المقصود هنا هو التعليم المتميز الذي يبني الإنسان المفكر، المبتكر، المبدع، المنتج، الواعي، المثقف، الفنان، الشخص الذي يفكر بعقله لا بعاطفته، أما التعليم البغبغائي فهو تعليم لا يسمن ولا يغني من جوع، وهو يكون فيه الطالب مجرد جهاز «ريكوردر» يردد المعلومات التي تلقاها من المعلم في حجرات الدراسة من دون فهم أو إدراك أو وعي أو توظيفها في مواقف جديدة في الحياة.
للأسف، إن التعليم البغبغائي، هو السائد اليوم في أغلب بلداننا العربية، والذي نتج عنه غياب هذه الدول من خارطة العالم المتقدم علمياً وتقنياً، وأودى بها إلى مراكز متأخرة في تصنيف قائمة دول العالم بمؤشر جودة التعليم، يحدث هذا بالرغم من مرور أماد طويلة على استقلالها.
الخلاصة، إن البلدان العربية لن يكون لها موقع على خارطة العالم المتقدم إلا إذا تطورت علمياً؛ لأن العلم هو القوة التي تصنع التقدم، وهذا لن يتأتى إلا من خلال وجود منظومات تعليمية قادرة على إفراز مخرجات تعليمية مبدعة ومبتكرة صانعة للعلم في مختلف التخصصات العلمية والهندسة التطبيقية وتكنولوجيا المعلومات.
إن من يملك ناصية العلم يتسيد العالم، وأما من يردد الشعارات والأناشيد، فسيكون مصيره خارج التاريخ والجغرافيا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك