العدد : ١٧٣٤٦ - الجمعة ١٩ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٧ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٤٦ - الجمعة ١٩ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٧ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

غزة تمتحن العالم في اليوم الدولي للسلام

بقلم: نبيلة رحب

الجمعة ١٩ سبتمبر ٢٠٢٥ - 02:00

صورة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬غزة‭ ‬تقلب‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يقال‭ ‬عن‭ ‬السلام؛‭ ‬طفل‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يسد‭ ‬جوعه‭ ‬أمامه‭ ‬ولا‭ ‬يملك‭ ‬أن‭ ‬يمد‭ ‬يده‭ ‬إليه‭. ‬لحظة‭ ‬كهذه‭ ‬تُسقط‭ ‬اللغة‭ ‬كلها،‭ ‬وتبين‭ ‬أن‭ ‬الشعارات‭ ‬مهما‭ ‬ارتفعت‭ ‬لن‭ ‬تملأ‭ ‬رغيف‭ ‬خبز‭ ‬واحد‭. ‬فالجوع‭ ‬لا‭ ‬يسكت‭ ‬بالبيانات،‭ ‬بل‭ ‬يفضح‭ ‬هوان‭ ‬العالم‭ ‬كل‭ ‬يوم‭.‬

في‭ ‬ذلك‭ ‬المكان‭ ‬المكدَّس‭ ‬بالآلام‭ ‬لا‭ ‬يواجه‭ ‬الناس‭ ‬الجوع‭ ‬وحده،‭ ‬فهم‭ ‬أيضا‭ ‬أمام‭ ‬عدو‭ ‬بنى‭ ‬وجوده‭ ‬على‭ ‬أساطير‭ ‬حولها‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬حقائق‮»‬‭ ‬بالقوة‭. ‬عدو‭ ‬يَعِد‭ ‬بالسلام‭ ‬في‭ ‬العلن‭ ‬ويخطط‭ ‬لنقيضه‭ ‬في‭ ‬الخفاء‭. ‬وخطورته‭ ‬لا‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬السلاح‭ ‬وحده،‭ ‬إنما‭ ‬في‭ ‬الزيف‭ ‬الذي‭ ‬يحتمي‭ ‬به‭ ‬ليؤُشرعن‭ ‬ممارسات‭ ‬يفتقدها‭ ‬الضمير‭ ‬والأخلاق‭.‬

ذلك‭ ‬المشهد‭ ‬ليس‭ ‬معزولا،‭ ‬فالعالم‭ ‬كله‭ ‬معني‭ ‬بالسؤال‭: ‬أي‭ ‬معنى‭ ‬يبقى‭ ‬للسلام‭ ‬بينما‭ ‬ملايين‭ ‬البشر‭ ‬يفتقدون‭ ‬الأمان‭ ‬في‭ ‬طعامهم‭ ‬وصحتهم‭ ‬أو‭ ‬بيوتهم؟‭ ‬ما‭ ‬جدوى‭ ‬الاحتفال‭ ‬بيوم‭ ‬دولي‭ ‬للسلام‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الخوف‭ ‬والجوع‭ ‬يملآن‭ ‬حياة‭ ‬الناس‭ ‬هناك‭.‬

السلام‭ ‬الحقيقي‭ ‬يُختبر‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحياة‭. ‬في‭ ‬أن‭ ‬تجلس‭ ‬الأسرة‭ ‬حول‭ ‬مائدة‭ ‬تكفي‭ ‬الجميع‭. ‬في‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬الطالب‭ ‬من‭ ‬مدرسته‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬يجد‭ ‬فيه‭ ‬طعاما‭. ‬في‭ ‬أن‭ ‬يشعر‭ ‬العامل‭ ‬أن‭ ‬جهده‭ ‬لن‭ ‬يضيع‭. ‬غياب‭ ‬هذه‭ ‬اللحظات‭ ‬البسيطة‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬هشاشة‭ ‬أي‭ ‬استقرار‭ ‬يتم‭ ‬الحديث‭ ‬عنه‭.‬

ولعل‭ ‬أبلغ‭ ‬ما‭ ‬قيل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬الشريف‭: ‬‮«‬المسلم‭ ‬من‭ ‬سلم‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬لسانه‭ ‬ويده‮»‬‭. ‬فالسلام‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬هنا؛‭ ‬من‭ ‬كلمة‭ ‬لا‭ ‬تجرح،‭ ‬ومن‭ ‬تصرف‭ ‬لا‭ ‬يؤذي‭. ‬حين‭ ‬يشعر‭ ‬من‭ ‬حولك‭ ‬أنهم‭ ‬في‭ ‬أمان‭ ‬معك،‭ ‬يتحول‭ ‬هذا‭ ‬الشعور‭ ‬الفردي‭ ‬إلى‭ ‬طمأنينة‭ ‬عامة‭ ‬تحفظ‭ ‬المجتمع‭ ‬كله‭.‬

عبر‭ ‬التاريخ‭ ‬كان‭ ‬السلام‭ ‬غاية‭ ‬يسعى‭ ‬إليها‭ ‬الأنبياء‭ ‬والحكماء‭. ‬ومن‭ ‬رسالة‭ ‬المسيح‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬دعوته‭ ‬إلى‭ ‬السلام‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬ودعا‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ (‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭) ‬إلى‭ ‬السلام،‭ ‬وكانت‭ ‬دعوته‭ ‬واقعا‭ ‬معاشا‭ ‬في‭ ‬حياته‭. ‬وأوضح‭ ‬الأمثلة‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬وثيقة‭ ‬المدينة،‭ ‬وهي‭ ‬اتفاق‭ ‬عقده‭ ‬النبي‭ ‬الأعظم‭ (‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭) ‬مع‭ ‬سكان‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬مسلمين‭ ‬ويهود‭ ‬وطوائف‭ ‬أخرى،‭ ‬لتنظيم‭ ‬العلاقة‭ ‬بينهم‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬الحقوق‭ ‬والواجبات‭ ‬المشتركة‭.‬

تلك‭ ‬الوثيقة‭ ‬أرست‭ ‬قاعدة‭ ‬الطمأنينة،‭ ‬وجعلت‭ ‬العيش‭ ‬ممكنا‭ ‬في‭ ‬جو‭ ‬من‭ ‬الثقة‭ ‬والوئام‭. ‬هذه‭ ‬ليست‭ ‬أقوالا‭ ‬شعرية،‭ ‬لكن‭ ‬إدراك‭ ‬أن‭ ‬السلام‭ ‬حاجة‭ ‬أساسية‭ ‬لا‭ ‬تستقيم‭ ‬الحياة‭ ‬من‭ ‬دونه‭. ‬وحين‭ ‬يغيب‭ ‬السلام،‭ ‬ينهار‭ ‬معه‭ ‬ما‭ ‬تعتمد‭ ‬عليه‭ ‬المجتمعات‭ ‬من‭ ‬استقرار‭ ‬وأمان‭.‬

لهذا‭ ‬يرتبط‭ ‬السلام‭ ‬مباشرة‭ ‬بالتنمية‭. ‬فالزراعة‭ ‬لا‭ ‬تزدهر‭ ‬وسط‭ ‬الخوف،‭ ‬والتعليم‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬بيئة‭ ‬مطمئنة،‭ ‬والاستثمار‭ ‬لا‭ ‬يقصد‭ ‬أرضا‭ ‬مضطربة‭. ‬وأي‭ ‬خلل‭ ‬في‭ ‬أساس‭ ‬السلام‭ ‬ينعكس‭ ‬فورًا‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬الناس‭ ‬ويقوض‭ ‬فرص‭ ‬التقدم‭.‬

ولا‭ ‬معنى‭ ‬للسلام‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يسنده‭ ‬العدل‭. ‬فالقانون‭ ‬المنصف‭ ‬هو‭ ‬الضمان‭ ‬الأول‭ ‬لطمأنينة‭ ‬المجتمع‭. ‬وهنا‭ ‬تبرز‭ ‬أهمية‭ ‬التشريعات‭ ‬التي‭ ‬تثبّت‭ ‬مبادئ‭ ‬السلم‭ ‬الأهلي‭ ‬وتحمي‭ ‬الحقوق‭ ‬من‭ ‬التعدي‭.‬

فالمجتمع‭ ‬لا‭ ‬يكتفي‭ ‬بالقيم‭ ‬الأخلاقية‭ ‬وحدها‭. ‬يحتاج‭ ‬كذلك‭ ‬إلى‭ ‬إطار‭ ‬قانوني‭ ‬يحدد‭ ‬الحقوق‭ ‬والواجبات،‭ ‬ويضع‭ ‬حدودًا‭ ‬تمنع‭ ‬تغوّل‭ ‬طرف‭ ‬على‭ ‬آخر‭.‬

في‭ ‬البحرين،‭ ‬وُجدت‭ ‬تشريعات‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬تترجم‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬إلى‭ ‬واقع؛‭ ‬منها‭ ‬قانون‭ ‬الحماية‭ ‬من‭ ‬العنف‭ ‬الأسري‭ ‬الذي‭ ‬يصون‭ ‬استقرار‭ ‬البيوت،‭ ‬وقانون‭ ‬العقوبات‭ ‬البديلة‭ ‬الذي‭ ‬يفتح‭ ‬باب‭ ‬الإصلاح‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬الاقتصار‭ ‬على‭ ‬العقاب،‭ ‬وقانون‭ ‬الأسرة‭ ‬الذي‭ ‬يوفر‭ ‬مرجعية‭ ‬واضحة‭ ‬للعلاقات‭ ‬داخل‭ ‬البيت‭. ‬وحين‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬القوانين‭ ‬نافذة‭ ‬وعادلة،‭ ‬يتحول‭ ‬السلام‭ ‬من‭ ‬إطار‭ ‬ضعيف‭ ‬إلى‭ ‬تجربة‭ ‬يطمئن‭ ‬الناس‭ ‬إليها‭. ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬ضعفت‭ ‬أو‭ ‬غابت،‭ ‬فإن‭ ‬الطمأنينة‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تتبخر‭.‬

لذلك‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬وبفضل‭ ‬الله،‭ ‬نحيا‭ ‬السلام‭ ‬كواقع‭ ‬يومي،‭ ‬ولا‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬أحدا‭ ‬ينكر‭ ‬ذلك‭. ‬حيث‭ ‬نراه‭ ‬في‭ ‬بيئاتنا‭ ‬العائلية‭ ‬المطمئنة،‭ ‬وفي‭ ‬المجالس‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬المختلفين‭ ‬على‭ ‬المودة،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬الثقة‭ ‬التي‭ ‬تسمح‭ ‬للناس‭ ‬أن‭ ‬يعيشوا‭ ‬اختلافاتهم‭ ‬بلا‭ ‬خوف‭. ‬هذه‭ ‬النعمة‭ ‬تعطي‭ ‬لليوم‭ ‬الدولي‭ ‬للسلام‭ ‬معنى‭ ‬أعمق؛‭ ‬فبينما‭ ‬يفتقده‭ ‬كثيرون،‭ ‬نحن‭ ‬نعيشه‭ ‬واقعا،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يضاعف‭ ‬مسؤوليتنا‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬نحافظ‭ ‬عليه‭ ‬ونقويه‭.‬

واقعنا‭ ‬المستقر‭ ‬اليوم‭ ‬ليس‭ ‬وليد‭ ‬الصدفة،‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬حقيقته‭ ‬ثمرة‭ ‬وعي‭ ‬جماعي‭ ‬وتعاون‭ ‬مؤسساتي‭. ‬وحين‭ ‬نحرص‭ ‬على‭ ‬تعزيز‭ ‬ثقافة‭ ‬الحوار،‭ ‬واحترام‭ ‬القانون،‭ ‬ودعم‭ ‬مبادرات‭ ‬التعايش،‭ ‬فإننا‭ ‬نرسخ‭ ‬الأساس‭ ‬الذي‭ ‬يحفظ‭ ‬هذه‭ ‬النعمة‭ ‬للأجيال‭ ‬القادمة‭.‬

زماننا‭ ‬الذي‭ ‬تعبر‭ ‬فيه‭ ‬الكلمات‭ ‬القارات‭ ‬خلال‭ ‬لحظات،‭ ‬يصبح‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬السلام‭ ‬مسؤولية‭ ‬مضاعفة‭. ‬فالشائعة‭ ‬التي‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬هاتف‭ ‬واحد‭ ‬قد‭ ‬تربك‭ ‬مجتمعا‭ ‬بأكمله،‭ ‬بينما‭ ‬الكلمة‭ ‬الصادقة‭ ‬قادرة‭ ‬أن‭ ‬تعيد‭ ‬الطمأنينة‭. ‬وهنا‭ ‬يظهر‭ ‬دور‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مسؤولا‭ ‬عما‭ ‬ينشره‭ ‬ويتداوله‭.‬

والأمان‭ ‬الذي‭ ‬ننعم‭ ‬به‭ ‬هو‭ ‬أغلى‭ ‬ما‭ ‬نملك،‭ ‬نرجو‭ ‬أن‭ ‬يزداد‭ ‬ثباتا‭ ‬ليظل‭ ‬الدرع‭ ‬الذي‭ ‬يصوننا‭ ‬ويضيء‭ ‬طريق‭ ‬أبنائنا‭.‬

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا