صورة واحدة من غزة تقلب كل ما يقال عن السلام؛ طفل ينظر إلى ما يسد جوعه أمامه ولا يملك أن يمد يده إليه. لحظة كهذه تُسقط اللغة كلها، وتبين أن الشعارات مهما ارتفعت لن تملأ رغيف خبز واحد. فالجوع لا يسكت بالبيانات، بل يفضح هوان العالم كل يوم.
في ذلك المكان المكدَّس بالآلام لا يواجه الناس الجوع وحده، فهم أيضا أمام عدو بنى وجوده على أساطير حولها إلى «حقائق» بالقوة. عدو يَعِد بالسلام في العلن ويخطط لنقيضه في الخفاء. وخطورته لا تكمن في السلاح وحده، إنما في الزيف الذي يحتمي به ليؤُشرعن ممارسات يفتقدها الضمير والأخلاق.
ذلك المشهد ليس معزولا، فالعالم كله معني بالسؤال: أي معنى يبقى للسلام بينما ملايين البشر يفتقدون الأمان في طعامهم وصحتهم أو بيوتهم؟ ما جدوى الاحتفال بيوم دولي للسلام إذا كان الخوف والجوع يملآن حياة الناس هناك.
السلام الحقيقي يُختبر في تفاصيل الحياة. في أن تجلس الأسرة حول مائدة تكفي الجميع. في أن يعود الطالب من مدرسته إلى بيت يجد فيه طعاما. في أن يشعر العامل أن جهده لن يضيع. غياب هذه اللحظات البسيطة يكشف عن هشاشة أي استقرار يتم الحديث عنه.
ولعل أبلغ ما قيل في هذا المعنى ما ورد في الحديث الشريف: «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده». فالسلام يبدأ من هنا؛ من كلمة لا تجرح، ومن تصرف لا يؤذي. حين يشعر من حولك أنهم في أمان معك، يتحول هذا الشعور الفردي إلى طمأنينة عامة تحفظ المجتمع كله.
عبر التاريخ كان السلام غاية يسعى إليها الأنبياء والحكماء. ومن رسالة المسيح عليه السلام دعوته إلى السلام على الأرض، ودعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى السلام، وكانت دعوته واقعا معاشا في حياته. وأوضح الأمثلة على ذلك وثيقة المدينة، وهي اتفاق عقده النبي الأعظم (صلى الله عليه وسلم) مع سكان المدينة من مسلمين ويهود وطوائف أخرى، لتنظيم العلاقة بينهم على أساس الحقوق والواجبات المشتركة.
تلك الوثيقة أرست قاعدة الطمأنينة، وجعلت العيش ممكنا في جو من الثقة والوئام. هذه ليست أقوالا شعرية، لكن إدراك أن السلام حاجة أساسية لا تستقيم الحياة من دونه. وحين يغيب السلام، ينهار معه ما تعتمد عليه المجتمعات من استقرار وأمان.
لهذا يرتبط السلام مباشرة بالتنمية. فالزراعة لا تزدهر وسط الخوف، والتعليم يحتاج إلى بيئة مطمئنة، والاستثمار لا يقصد أرضا مضطربة. وأي خلل في أساس السلام ينعكس فورًا على حياة الناس ويقوض فرص التقدم.
ولا معنى للسلام إذا لم يسنده العدل. فالقانون المنصف هو الضمان الأول لطمأنينة المجتمع. وهنا تبرز أهمية التشريعات التي تثبّت مبادئ السلم الأهلي وتحمي الحقوق من التعدي.
فالمجتمع لا يكتفي بالقيم الأخلاقية وحدها. يحتاج كذلك إلى إطار قانوني يحدد الحقوق والواجبات، ويضع حدودًا تمنع تغوّل طرف على آخر.
في البحرين، وُجدت تشريعات حاولت أن تترجم هذا المعنى إلى واقع؛ منها قانون الحماية من العنف الأسري الذي يصون استقرار البيوت، وقانون العقوبات البديلة الذي يفتح باب الإصلاح بدلا من الاقتصار على العقاب، وقانون الأسرة الذي يوفر مرجعية واضحة للعلاقات داخل البيت. وحين تكون هذه القوانين نافذة وعادلة، يتحول السلام من إطار ضعيف إلى تجربة يطمئن الناس إليها. أما إذا ضعفت أو غابت، فإن الطمأنينة سرعان ما تتبخر.
لذلك نحن في البحرين، وبفضل الله، نحيا السلام كواقع يومي، ولا أظن أن أحدا ينكر ذلك. حيث نراه في بيئاتنا العائلية المطمئنة، وفي المجالس التي تجمع المختلفين على المودة، كما في الثقة التي تسمح للناس أن يعيشوا اختلافاتهم بلا خوف. هذه النعمة تعطي لليوم الدولي للسلام معنى أعمق؛ فبينما يفتقده كثيرون، نحن نعيشه واقعا، وهذا ما يضاعف مسؤوليتنا في أن نحافظ عليه ونقويه.
واقعنا المستقر اليوم ليس وليد الصدفة، فهو في حقيقته ثمرة وعي جماعي وتعاون مؤسساتي. وحين نحرص على تعزيز ثقافة الحوار، واحترام القانون، ودعم مبادرات التعايش، فإننا نرسخ الأساس الذي يحفظ هذه النعمة للأجيال القادمة.
زماننا الذي تعبر فيه الكلمات القارات خلال لحظات، يصبح الحفاظ على السلام مسؤولية مضاعفة. فالشائعة التي تنطلق من هاتف واحد قد تربك مجتمعا بأكمله، بينما الكلمة الصادقة قادرة أن تعيد الطمأنينة. وهنا يظهر دور كل فرد في أن يكون مسؤولا عما ينشره ويتداوله.
والأمان الذي ننعم به هو أغلى ما نملك، نرجو أن يزداد ثباتا ليظل الدرع الذي يصوننا ويضيء طريق أبنائنا.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك