العدد : ١٧٤١١ - الأحد ٢٣ نوفمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٢ جمادى الآخر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٤١١ - الأحد ٢٣ نوفمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٢ جمادى الآخر ١٤٤٧هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

الضحك وصفة طبية

بعض‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬تعجبهم‭ ‬مقالاتي‭ ‬يعايرونني‭ ‬بأنني‭ ‬أكتب‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الاضحاك،‭ ‬ولا‭ ‬يدركون‭ ‬أنهم‭ ‬بهذا‭ ‬يمدحونني‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يقصدون،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬فيما‭ ‬أكتب‭ ‬ما‭ ‬يحمل‭ ‬القارئ‭ ‬على‭ ‬الضحك‭ ‬والابتسام‭ ‬فهذه‭ ‬محمدة،‭ ‬فالضحك‭ ‬عملة‭ ‬صعبة‭ ‬وقليلة‭ ‬التداول،‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬يستغفر‭ ‬أهله‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يضحكوا،‭ ‬وقد‭ ‬كتبت‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬عن‭ ‬مستشفيات‭ ‬في‭ ‬الأرجنتين‭ ‬وأستراليا‭ ‬تأتي‭ ‬بأهل‭ ‬الفكاهة‭ ‬في‭ ‬غرف‭ ‬المرضى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ثبت‭ ‬أن‭ ‬الضحك‭ ‬يشفي‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬العلل‭ ‬أو‭ ‬يخفف‭ ‬وطأتها‭.‬

بيرني‭ ‬سيجل‭ ‬جراح‭ ‬أمريكي‭ ‬مرموق‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬السرطان،‭ ‬وله‭ ‬مؤلفات‭ ‬تخاطب‭ ‬أمثالي‭ ‬من‭ ‬العوام‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يفهمون‭ ‬المصطلحات‭ ‬الطبية،‭ ‬وكنت‭ ‬كلما‭ ‬تحدثت‭ ‬مع‭ ‬صديقي‭ ‬السعودي‭ ‬الراحل‭ ‬صالح‭ ‬العزاز‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬يتعالج‭ ‬في‭ ‬مستشفى‭ ‬امريكي،‭ ‬من‭ ‬ورم‭ ‬في‭ ‬الدماغ‭ ‬أذكر‭ ‬الدكتور‭ ‬سيجل،‭ ‬فقد‭ ‬ادهش‭ ‬العزاز‭ ‬الأطباء‭ ‬بثباته‭ ‬وتماسكه،‭ ‬ورفض‭ ‬الانهزام‭ ‬أمام‭ ‬المرض،‭ ‬فرغم‭ ‬انه‭ ‬خضع‭ ‬لثلاث‭ ‬جراحات‭ ‬كانت‭ ‬اثنتان‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬الخطورة،‭ ‬وخضع‭ ‬لعلاج‭ ‬كيميائي‭ ‬وإشعاعي،‭ ‬قال‭ ‬طبيبه‭: ‬إن‭ ‬فتى‭ ‬القصيم‭ ‬كان‭ ‬يتحلى‭ ‬بجلد‭ ‬نادر‭ ‬المثال،‭ ‬وإنه‭ ‬كان‭ ‬دائم‭ ‬الدعابة‭ ‬والمرح‭ ‬وإن‭ ‬ذلك‭ ‬ساعده‭ ‬على‭ ‬هزيمة‭ ‬المرض‭ ‬لفترة‭ ‬طويلة‭ ‬جدا،‭ ‬شارحا‭ ‬أن‭ ‬آخرين‭ ‬عانوا‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬تلك‭ ‬الأورام‭ ‬لم‭ ‬يصمدوا‭ ‬ولا‭ ‬عُشْر‭ (‬1/10‭) ‬المدة‭ ‬التي‭ ‬صمدها‭ ‬العزاز،‭ ‬وحتى‭ ‬عندما‭ ‬أدرك‭ ‬العزاز‭ ‬انه‭ ‬خسر‭ ‬معركته‭ ‬مع‭ ‬المرض‭ ‬تقبل‭ ‬ذلك‭ ‬بهدوء،‭ ‬وكان‭ ‬يداعبنا‭ ‬نحن‭ ‬كي‭ ‬يخفف‭ ‬علينا‭ ‬نحن‭ ‬محبيه‭ ‬حزن‭ ‬فراقه‭ ‬الوشيك،‭ ‬ويقول‭ ‬سيجل‭: ‬إن‭ ‬اهتمام‭ ‬المريض‭ ‬بعافيته‭ ‬الروحية‭ ‬والنفسية‭ ‬يسهم‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬قهر‭ ‬السرطان،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬يتعلق‭ ‬فقط‭ ‬بالاهتمام‭ ‬بالتغذية‭ ‬وتعاطي‭ ‬الأدوية‭ ‬بل‭ ‬بالتسلح‭ ‬بالتفاؤل‭ ‬وعدم‭ ‬فقدان‭ ‬الأمل،‭ ‬وتؤكد‭ ‬الاحصاءات‭ ‬أن‭ ‬السيدات‭ ‬اللواتي‭ ‬تم‭ ‬استئصال‭ ‬أثدائهن‭ ‬ويعبرن‭ ‬عن‭ ‬خوفهن‭ ‬وحزنهن‭ ‬بأصوات‭ ‬مسموعة‭ ‬تكون‭ ‬فرص‭ ‬شفائهن‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬اولئك‭ ‬اللواتي‭ ‬يكتمن‭ ‬مشاعرهن،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬الفضفضة‭ ‬تريح‭ ‬الأعصاب،‭ ‬فالتعبير‭ ‬عن‭ ‬الخوف‭ ‬ليس‭ ‬دائما‭ ‬دليل‭ ‬جزع،‭ ‬فما‭ ‬من‭ ‬إنسان‭ ‬سَوِيّ‭ ‬إلا‭ ‬ويجزع‭ ‬لوقوع‭ ‬مصيبة،‭ ‬ولكن‭ ‬أن‭ ‬‮«‬تقطَّع‭ ‬الحزن‭ ‬في‭ ‬مصارينك‮»‬‭ ‬كما‭ ‬نقول‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬عمن‭ ‬يخفي‭ ‬حاله‭ ‬وحالته،‭ ‬فذلك‭ ‬سوس‭ ‬ينخر‭ ‬فيك‭ ‬ويهد‭ ‬حيلك‭ ‬ويأكل‭ ‬عافيتك‭.‬

في‭ ‬مجلة‭ ‬متخصصة‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬الصحة‭ ‬والطب،‭ ‬قرأت‭ ‬خلاصة‭ ‬بحث‭ ‬جاء‭ ‬فيه‭ ‬ثبوت‭ ‬أن‭ ‬الضحك‭ ‬‮«‬من‭ ‬القلب‮»‬،‭ ‬يسهم‭ ‬في‭ ‬الشفاء‭ ‬من‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬العضوية،‭ ‬لأن‭ ‬ذلك‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬إفراز‭ ‬الاندورفين،‭ ‬وهو‭ ‬هرمون‭ ‬طبيعي‭ ‬يفرز‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬الفرح‭ ‬ويمنح‭ ‬الشخص‭ ‬نظرة‭ ‬إيجابية‭ ‬متفائلة‭!! ‬ومشكلتنا‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬الضحك‭ ‬أو‭ ‬الابتسام‭ ‬لا‭ ‬يمثل‭ ‬عنصرا‭ ‬ثابتا‭ ‬في‭ ‬حياتنا،‭ ‬أولا‭ ‬لأن‭ ‬الكثيرين‭ ‬منا‭ ‬يعتبرون‭ ‬العبوس‭ ‬والتجهم‭ ‬دليل‭ ‬جدية‭ ‬و«أهمية‮»‬،‭ ‬وثانيا‭ ‬لأنه‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬اليومية‭ ‬مبهجات‭ ‬كثيرة،‭ ‬ولأننا‭ ‬لا‭ ‬نتقن‭ ‬صناعة‭ ‬الفرح،‭ ‬ومعظم‭ ‬احتفالاتنا‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬‮«‬الأكل‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬تسنى‭ ‬لي‭ ‬حضور‭ ‬جلسات‭ ‬علاج‭ ‬بالموسيقى‭ ‬لمرضى‭ ‬نفسيين‭ ‬في‭ ‬مستشفى‭ ‬يحمل‭ ‬اسم‭ ‬عملاق‭ ‬الطب‭ ‬النفسي‭ ‬السوداني‭ ‬البروفسور‭ ‬التجاني‭ ‬الماحي‭ ‬المدير‭ ‬الإقليمي‭ ‬الأسبق‭ ‬لهيئة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬ام‭ ‬درمان،‭ ‬بإشراف‭ ‬المغني‭ ‬الراحل‭ ‬عبد‭ ‬العظيم‭ ‬عبدالله‭ ‬الشهير‭ ‬بـ«حركة‮»‬‭ ‬وكان‭ ‬خفيف‭ ‬الظل‭ ‬حلو‭ ‬اللسان،‭ ‬وأذكر‭ ‬انه‭ ‬كان‭ ‬يتوسط‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المرضى‭ ‬ويغني‭ ‬عندما‭ ‬اكتشف‭ ‬أن‭ ‬بعضهم‭ ‬نائم‭ ‬والبعض‭ ‬الآخر‭ ‬ساهم،‭ ‬فصاح‭ ‬فيهم‭ ‬بما‭ ‬معناه‭: ‬يا‭ ‬حيوانات‭ ‬هذه‭ ‬أغنية‭ ‬تحرك‭ ‬الصخر‭ ‬وأنتم‭ ‬لا‭ ‬تحسون‭ ‬بها،‭ ‬فانفجروا‭ ‬ضاحكين،‭ ‬وأوضح‭ ‬‮«‬حركة‮»‬‭ ‬أن‭ ‬الخبرة‭ ‬علمته‭ ‬أن‭ ‬المريض‭ ‬النفسي‭ ‬يرتاح‭ ‬كثيرا‭ ‬اذا‭ ‬ضحك‭ ‬من‭ ‬أعماقه‭ ‬فكان‭ ‬من‭ ‬ثم‭ ‬يضحكهم‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الصدمات‭ ‬فيقول‭ ‬لأحدهم‭ ‬مثلا‭: ‬أنت‭ ‬ما‭ ‬عندك‭ ‬مرض‭.. ‬أنت‭ ‬محتجز‭ ‬في‭ ‬المستشفى‭ ‬لأن‭ ‬شكلك‭ ‬غير‭ ‬سياحي‭! ‬فيضحك‭ ‬صاحبنا‭ ‬لأنه‭ ‬بالفعل‭ ‬قبيح‭ ‬التقاطيع،‭ ‬ولأن‭ ‬‮«‬حركة‮»‬‭ ‬برأه‭ ‬من‭ ‬المرض‭ ‬وأثبت‭ ‬دمامته،‭ ‬وسألت‭ ‬طبيبا‭ ‬نفسيا‭ ‬عن‭ ‬سر‭ ‬نجاح‭ ‬حركة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬المرضى،‭ ‬فقال‭: ‬لأنه‭ ‬يعطي‭ ‬المرضى‭ ‬الإحساس‭ ‬بأنه‭ ‬منهم‭ ‬وهم‭ ‬منه،‭ ‬فلا‭ ‬يتعالى‭ ‬عليهم‭ ‬ولا‭ ‬يفرض‭ ‬وصاية‭ ‬عليهم‭ ‬ويعاملهم‭ ‬بندية‭. ‬ومات‭ ‬حركة‭ ‬في‭ ‬عز‭ ‬شبابه‭ ‬ولكن‭ ‬الكثيرين‭ ‬ممن‭ ‬أضحكهم‭ ‬وأطربهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المستشفى‭ ‬يحفظون‭ ‬له‭ ‬الجميل‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬استردوا‭ ‬عافيتهم‭ ‬النفسية‭!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا