أكبر معضلة يوجهها علماء البيئة، وأكثرها تعقيدا وصعوبة هي كيفية إقناع المسؤول وصاحب القرار على أن تدهور مكونات البيئة الحية وغير الحية له تأثيرات كبيرة في حياة الإنسان والحياة الفطرية بشقيها النباتي والحيواني، وعلى استدامة جودة الحياة الكريمة والصحية التي يعيش فيها الإنسان.
فصاحب القرار لا يأخذ في الاعتبار عند اتخاذ أي قرار لاعتماد البدء في المشروع التنموي إلا الجانب الاقتصادي الإيجابي البحت، من حيث الأرباح التي يجنيها مباشرة وبعد فترة قصيرة من الزمن لهذا المشروع، وبما يُطلق عليه بالجدوى الاقتصادية للمشروع، أي الفوائد الاقتصادية الفورية من القيام به.
فالمشكلة إذن تكمن في كيفية إقناع متخذ القرار بأن تدهور وفساد البيئة له تداعيات اقتصادية أيضاً، ولكنها انعكاسات سلبية وليست إيجابية، أي أنها تعد كُلفة إضافية للمشروع يجب اتخاذها في الاعتبار، فتُعد خسائر اقتصادية تنجم عن القيام بالمشروع ويجب تضمينها وإدخالها في الحسابات المالية، حيث إنها قد تفوق وتتعدى الأرباح المتوقعة.
فما هي الأدوات والوسائل التي يمكن تبنيها واستخدامها لتغيير توجهات ومرئيات وسياسة المسؤول، وإقناعه بأن الخسائر الاقتصادية المالية المباشرة وغير المباشرة التي تنتج عن تلوث الهواء، والماء، والتربة، أو تدمير بيئة بحرية متنوعة ومنتجة بسبب إنشاء المشروع أكبر وأعلى من الفوائد والأرباح المالية التي سيحصل عليها عند القيام به.
وبعبارة أخرى كيف يمكن تحويل، على سبيل المثال، القضاء على الشعاب المرجانية بسبب الحفر والدفان إلى مبلغٍ مالي نقدي ومحسوس؟ وكيف يمكن تحويل تلوث ماء البحر بالأتربة التي تنتج من عمليات الحفر والدفان إلى قيمة سوقية، وكلفة مالية يمكن حسابها وتقديمها كخسائر اقتصادية نقدية للمشروع يُقدرها متخذ القرار ويأخذها في الحسبان؟
ومن أجل الإجابة عن كل هذه الأسئلة، قام الباحثون بتصميم واعتماد علم متخصص جداً يجيب عن هذه الأسئلة، وهو «الاقتصاد البيئي». وهذا العلم الحديث نسبياً يُعد فرعاً متخصصاً من علم قديم وأوسع وهو علم «الاقتصاد»، ويحاول إيجاد العلاقة بين الاقتصاد والبيئة، وربطهما مع بعض بقيمة مالية نقدية، وإجراء تحليل وتقييم للمؤثرات الخارجية السلبية والضارة لأي مشروع تنموي، وكلفتها على هذا المشروع، مثل تلوث الهواء الجوي ومردوداته السلبية على صحة العمال والصحة العامة، أو تلوث المسطحات المائية، أو تدمير البيئات البحرية وتأثيره في الثروة الفطرية البحرية من أسماك وغيرها، أو إنتاج المخلفات الصلبة والسائلة والكلفة المالية الناجمة عن معالجتها والتخلص الآمن منها.
فهذا العلم الفرعي المتخصص ينْبئ عن فلسفة أن البيئة برمتها، والموارد والثروات البيئية ليست سلعاً مجانية لا قيمة لها مالياً، فيتعامل الإنسان معها وكأنها غير موجودة، ولا فائدة منها للإنسان والنظام البيئي العام، فيُسمح له بتدميرها واستنزافها من الناحيتين النوعية والكمية. فهي إذن حسب علم الاقتصاد البيئي سلع اقتصادية كغيرها من السلع التي يتداولها الإنسان في الأسواق، ويتعامل معها بشكلٍ يومي، فتُباع وتشتري بمبلغ نقدي محدد ومعروف. فإذا تدهورت جودة الهواء بدخول الملوثات إليها نتيجة لإقامة أي مشروع تنموي صناعي أو غير ذلك، فهذا يعني خسائر ناجمة عن المشروع، وكلفة إضافية للمشروع، وتُقدر هذه التكاليف والخسائر بمبالغ مالية محددة حسب نوع وكمية الملوثات التي ولجت في جسمها. كذلك إذا أدخلنا ملوثات كيميائية، أو حيوية كالبكتيريا والفطريات والفيروسات، أو فيزيائية كالضوضاء والأصوات المرتفعة، أو الأضواء العالية الساطعة في المسطحات المائية، أو المياه الجوفية نتيجة للقيام بمشروع تنموي، فإننا بذلك قد سقطنا في خسائر اقتصادية تقدر بمبلغ مالي معين. وهذا ينطبق على تدمير الموائل والبيئات البحرية، من شعاب مرجانية، وفشوت، وحشائش بحرية، وبيئات المد والجزر وغيرها من المواقع البحرية المنتجة. فكل بيئة صغيرة أو كبيرة عبارة عن سلعة اقتصادية تتغير قيمتها المالية حسب أهمية، وتنوع، وثراء هذه البيئة، ونوعية الأحياء التي تعيش فيها، ولذلك فتدميرها نوعياً أو كمياً يعني خسائر اقتصادية نقدية مباشرة.
فالاقتصاد البيئي باختصار يهتم بالقضايا البيئية والمظاهر البيئية التي تنجم عنها كالمطر الحمضي، والمد الأحمر، والتغير المناخي وسخونة الأرض، ويصب اهتمامه على ثلاثة مواضيع رئيسة. الأول: هو تحديد الآثار الاقتصادية السلبية، والكلفة المالية المترتبة على التدهور البيئي من الناحيتين الكمية والنوعية، والثاني: معرفة وتحديد أسباب ومصادر التدهور البيئي كماً ونوعاً. وأما الموضوع الثالث: الذي يلج فيه علم الاقتصاد البيئي فهو استخدام أدوات الإدارة البيئية، وبالتحديد الأدوات الاقتصادية التي من شأنها منع، أو خفض وقوع الفساد البيئي للمشروع التنموي، مثل أداة الملوث يدفع، أي أن الذي يلوث مكونات البيئة، سواء من الأفراد أو الشركات الخاصة والعامة فعليه تحمل كلفة التدهور الذي نزل على هذه المكونات والحياة الفطرية التي تضررت منها. كذلك من الأدوات الاقتصادية هي فرض الضرائب البيئية على الجهة المسببة لفساد عناصر البيئة الحية وغير الحية، إضافة إلى أداة الدعم والإعفاءات الضريبية لكل من يحمي البيئة ويحافظ على مواردها وثرواتها ويمنع تدهورها كمياً ونوعياً.
وعلاوة على ما سبق من أهمية بالغة لإدخال هذا العلم الحديث في شؤوننا اليومية المتعلقة بالمشاريع والسياسات العامة، فإنه يعتبر أداة فاعلة وقوية تصب في تحقيق سياسة أكثر شمولية وافقت وأجمعت عليها دول العالم في قمة الأرض في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية عام 1992، وهي تحقيق التنمية المستدامة في كل القطاعات ومجالات الحياة.
فهذا العلم الحديث يدعم بشكلٍ مباشر تحقيق التنمية المستدامة على مستوى المجتمعات والدول، وعلى مستوى كوكبنا برمته، وبالتحديد يعمل على مواجهة تحديات تحقيق 17 هدفاً عالمياً مشتركاً تم اعتمادها عام 2015 كجزء لا يتجزأ من جدول الأعمال العالمي لعام 2030.
ومن أجل مواكبة التطورات الدولية في مجال الإدارة البيئية المستدامة، ومن أجل أن تكون البحرين رائدة في السير جنباً إلى جنب مع قطار التنمية الدولي وجهود حماية البيئة، فلا بد من تبني الأدوات الدولية التي تحقق هذا الهدف، ومن أهمها الاقتصاد البيئي الذي يُدخل ويضم العوامل البيئية الخارجية كتلوث الهواء وتدمير البيئات البرية والبحرية كسلع ذات قيمة مالية سوقية، فتكون جزءا رئيسا في حسابات الجدوى الاقتصادية لأي مشروع نقوم به في المستقبل.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك