بينما تواصل آلة الحرب الإسرائيلية حصد أرواح آلاف المدنيين الفلسطينيين في غزة، يتصاعد الحراك الدبلوماسي داخل أروقة السياسة الغربية باتجاه اعتراف متزايد بالدولة الفلسطينية. هذا التحول، وإن جاء متأخرًا، يعكس حالة من التململ داخل بعض العواصم الغربية إزاء استمرار الانتهاكات الإسرائيلية وغياب الأفق السياسي. لكن بين الإرادة المعلنة والواقع العملي، تقف جملة من العوائق السياسية، أبرزها التهديدات الأمريكية والإسرائيلية ومحاولات تقويض هذا الزخم في مهدِه.
في محاولة متأخرة لإنهاء الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ 23 شهرًا، وما خلّفته من دمار شامل وجرائم إبادة جماعية في غزة، أعلنت عدة دول غربية كبرى نيتها الاعتراف رسميًّا بدولة فلسطينية مستقلة خلال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، المقررة بين 9 و23 سبتمبر 2025 في نيويورك. فبعد تعهدات من الحكومة الفرنسية برئاسة إيمانويل ماكرون، انضمت بلجيكا إلى كل من المملكة المتحدة وكندا وأستراليا في الإعلان العلني دعمها لحق الفلسطينيين في تقرير المصير، على خطى 147 دولة عضوًا في الأمم المتحدة تعترف بالفعل بدولة فلسطين.
إلى جانب الدول العشر الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي اعترفت بالدولة الفلسطينية سابقًا –إسبانيا، إيرلندا، السويد، بولندا، المجر، سلوفاكيا، سلوفينيا، رومانيا، بلغاريا، قبرص–أعلنت دول مثل البرتغال وفنلندا وأيسلندا ونيوزيلندا دعمها لما بات يُعرف بـ«نداء نيويورك» الداعي لتطبيق حل الدولتين، ما يعزز احتمالات اعتراف أوسع في الأسابيع المقبلة.
هذا الزخم دفع شخصيات مثل ريتشارد هاس، الرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية، إلى التأكيد أن حل الدولتين «لم يُدفن بعد». لكن حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة، بدعم قوي من الإدارة الجمهورية بقيادة دونالد ترامب، كثفت جهودها لعرقلة هذه التحركات، بينما وسّعت واشنطن من عرقلة حضور الوفد الفلسطيني بمنع وإلغاء تأشيرات الدخول، في خرق واضح لاتفاقية مقر الأمم المتحدة.
ورغم إعلان ماكرون في أبريل ثم يوليو 2025 عزمه الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فإن تراجعه عن التنفيذ الفوري أعاد التساؤلات حول مدى استعداد الدول الغربية لمواجهة الضغوط الأمريكية والإسرائيلية، خصوصًا أن بعض الاعترافات، مثل البريطانية والفرنسية، جاءت مشروطة.
نبهت صحيفة التليجراف إلى أن الخلافات حول الاعتراف قد تؤدي إلى مواجهة بين أبرز أعضاء الأمم المتحدة، فيما أشار غافن بتلر من بي بي سي إلى أن العلاقات بين الحكومات الغربية وإسرائيل «تمضي في طريقها المعتاد» رغم اتهام إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية.
كان ماكرون أول زعيم غربي يربط الاعتراف بفلسطين بتصعيد الضم الإسرائيلي لغزة، معتبرًا ذلك تحديًا للوضع الراهن، بحسب جان لوب سمعان، الزميل في المجلس الأطلسي. أما في بريطانيا، فقد جاء قرار رئيس الوزراء كير ستارمر استجابة لضغوط داخلية من حزب العمال والرأي العام، حيث أيد نحو 45% من البريطانيين الخطوة مقابل 14% فقط معارضين، بحسب استطلاع حديث.
أعلنتا كندا وأستراليا بدورهما دعمًا مشابهًا، إذ وصف رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز حل الدولتين بأنه «أفضل أمل للإنسانية لكسر دائرة العنف». وفي أوائل سبتمبر، أعلنت بلجيكا نيتها إقامة علاقات دبلوماسية مع فلسطين، وأوضح وزير خارجيتها، ماكسيم بريفو، أن قرار بلاده يأتي ردًا على «الطموحات التوسعية» و«برنامج الاستعمار» الذي يقوده ائتلاف نتنياهو، متعهدًا بفرض عقوبات على مسؤولين إسرائيليين ومستوطنين عنيفين، إلى جانب حظر واردات المستوطنات غير القانونية.
أما الدول التي يُحتمل أن تنضم لاحقًا، فقد أعلنت فرنسا والسعودية قمة في 22 سبتمبر تهدف إلى «حشد أوسع دعم دولي ممكن» للدولة الفلسطينية، في حين أبدت نيوزيلندا والبرتغال اهتمامًا بالاعتراف الرسمي، عبر تصريحات ومداولات حكومية داخلية.
في المقابل، واصلت إدارة ترامب دعمها المطلق لإسرائيل، وقللت من أهمية التحركات الفرنسية، حيث سخر ترامب من ماكرون قائلًا: إن «حديثه لا يهم»، ملوحًا بفرض عقوبات تجارية على كندا في حال مضت قدمًا في الاعتراف الرسمي.
فيما يتعلق بالجمعية العامة للأمم المتحدة نفسها، فقد تجلّت سَفاهة واشنطن في فرضها لأي عائق ممكن أمام القرارات الدولية المناهضة لها، وذلك من خلال رفض البيت الأبيض إصدار تأشيرات دخول لما يقرب من 80 مسؤولًا فلسطينيا، كان من المقرر أن يسافروا إلى نيويورك، بمن فيهم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. وفي انتهاك واضح لالتزامات الولايات المتحدة بموجب اتفاقية مقر الأمم المتحدة، أشارت صحيفة نيويورك تايمز إلى أن الحكومة الأمريكية سبق وأن أصدرت تأشيرات لممثلي دول «تُفرض عليها عقوبات شديدة». ولم يُخفِ وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو النيات الحقيقية لحكومته، حيث اعترف صراحة بأن هذا الحظر يهدف إلى إحباط الاعتراف العالمي المتزايد بما وصفه بـ«الدولة الفلسطينية المفترضة».
كما طالبت وزارة الخارجية الأمريكية المسؤولين الفلسطينيين بإنهاء ما وصفته بـ «محاولاتهم لتجاوز المفاوضات عبر حملات الحرب القانونية الدولية» – في إشارة إلى التحقيقات الجارية من قبل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية بشأن سلسلة جرائم الحرب الإسرائيلية المرتكبة ضد المدنيين في غزة. ورغم أن الولايات المتحدة تُعدّ أبرز الحكومات الساعية إلى عرقلة الاعتراف الأوسع بالدولة الفلسطينية، إلا أنه من الضروري أيضًا إثارة مسألة إحجام بعض الدول الأخرى عن الانضمام إلى هذا الزخم المتنامي، رغم مشاركتها في الإدانة العامة لانتهاكات إسرائيل في غزة والأراضي المحتلة.
من بين هذه الدول، رفضت الحكومة الألمانية، برئاسة فريدريش ميرز، الاعتراف، رغم أن استطلاعًا حديثًا أظهر أن أكثر من نصف المواطنين الألمان يؤيدون الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وفي الحالة الإيطالية، رفضت رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني الاعتراف، بحجة أن «الاعتراف بشيء غير موجود على الورق قد يوحي وكأن المشكلة قد حُلّت، بينما الواقع ليس كذلك».
وعلى الرغم من أن فرنسا والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا وبلجيكا قد أعلنت نياتها بشكل علني تجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينية –ومن المحتمل أن تنضم إليها دول أخرى– إلا أن هناك شكوكًا ما زالت قائمة حول ما إذا كان هذا الزخم سيستمر، أم أن الضغوط المتزايدة من قبل إسرائيل والولايات المتحدة، بالإضافة إلى نقاط الضعف الأخلاقية المنتشرة، ستؤدي في نهاية المطاف إلى إعاقة هذا القبول المتأخر جدًا لحق الفلسطينيين في تقرير المصير.
فعلى سبيل المثال، فيما يتعلق بالاعتراف الفرنسي، صرّح الرئيس ماكرون في البداية بأن هذا الاعتراف سيتم خلال مؤتمر مشترك مع المملكة العربية السعودية مقرر عقده في يونيو، إلا أن باريس تراجعت عن هذا الالتزام عندما رفضت حكومة ستارمر وآخرون المشاركة في ذلك الوقت. وعندما شنّت إسرائيل هجمات على مواقع نووية وعسكرية إيرانية في 13 يونيو، تم تأجيل القمة بذريعة «أسباب لوجستية وأمنية»، حسب وصف الزعيم الفرنسي.
الواقع أن جميع هذه الحكومات الغربية التي فرضت شروطًا معينة على الفلسطينيين مقابل الاعتراف، إنما تحتفظ لنفسها بوسيلة للتراجع عن أي التزام فعلي. وكما أوضحت مكتبة مجلس العموم البريطاني، فإن اعتراف المملكة المتحدة بالدولة الفلسطينية مشروط بعدة عوامل، منها عدم وفاء إسرائيل بمتطلبات بريطانية تتعلق بإحراز «تقدم كافٍ» نحو «تحسين الوضع الإنساني في غزة»، وتحقيق وقف إطلاق النار، بالإضافة إلى التزام حكومة نتنياهو بـ «سلام مستدام طويل الأمد». هذا الاعتراف مشروط أيضًا بقيام حماس بإطلاق سراح الرهائن المتبقين، ونزع سلاحها، وعدم لعب أي دور في دولة فلسطينية مستقبلية – وهي نفس المطالب التي وضعتها الحكومتان الكندية والبلجيكية.
وفي هذا السياق، فإن إعلان ستارمر أن حكومته «ستُجري تقييمًا» بشأن ما إذا كانت إسرائيل وحماس قد التزمتا بهذه الخطوات، يُظهر بوضوح أن هذه الحكومات الغربية لا تزال تحتفظ لنفسها بخط رجعة عن أي التزام معلن.
وعليه، من المهم للغاية تأكيد أن نفس هذه الحكومات التي أدانت جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة، ما زالت تتعاون بشكل وثيق مع ائتلاف نتنياهو المتطرف. ففي حالة المملكة المتحدة، من المقرر أن يستقبل مجلس وزراء ستارمر الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في لندن بعد وقت قصير من بدء أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث من المؤكد أنه سيتعرض للضغط للتراجع عن أي اعتراف بالدولة الفلسطينية. وفي السياق ذاته، أشار بتلر إلى أن الحكومة الأسترالية نالت مؤخرًا إشادة من حكومة نتنياهو بطرد السفير الإيراني من كانبيرا. أما في حالة بلجيكا، فقد ادعى بريفو أن تأخير بلاده في الاعتراف بفلسطين يعود إلى «الصدمة التي أصابت الشعب الإسرائيلي» بسبب هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023، متجاهلًا بذلك الموت والدمار غير المسبوقين اللذين تعرض لهما المدنيون الفلسطينيون خلال الأشهر الـ 23 التالية لذلك الهجوم.
وفي ظل تقرير صادر عن شبكة سي إن إن، يشير إلى أن أي اعتراف غربي محقق بالدولة الفلسطينية خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة قد يُسرّع من خطوات إسرائيل لضم الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، فقد ادعى ماكرون أن «أي هجوم أو محاولة ضم أو تهجير قسري للسكان لن تُعيق الزخم» الذي «تشكّل» في الأشهر الأخيرة. ومع ذلك، يجب أن تبقى مسألة اعتراف المزيد من الدول الغربية بحق الفلسطينيين في تقرير المصير مرتبطة دائمًا بكيفية إفادة هذا الاعتراف لملايين المدنيين على الأرض، الذين ما زالوا يعانون بشدة من العنف العشوائي والجوع.
وفي الوقت الذي أعربت فيه الممثلة العليا للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، عن الإحباط الذي يشعر به العديد من وزراء الاتحاد من عجزهم عن «فعل المزيد» لإنهاء الحرب في غزة، فإن الحكومات ذاتها التي تدّعي نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية في وقت لاحق من سبتمبر، لتقديم «خارطة طريق للسلام» في الشرق الأوسط، تظل في الواقع هي نفسها تلك التي تواصل تقديم الدعم الاقتصادي والعسكري والدبلوماسي لإسرائيل، وتوفر لها الحماية من المساءلة الدولية أمام هيئات مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية.
وفي ظل هذا المشهد المعقّد، يبقى الاعتراف الغربي المرتقب بالدولة الفلسطينية محاطًا بالتردد، مشروطًا بمعادلات سياسية وأمنية متشابكة، تتجاوز في كثير من الأحيان المبادئ المعلنة حول العدالة وحقوق الإنسان.
ومع أن هذا الاعتراف قد يشكّل خطوة رمزية مهمة على طريق إنهاء الاحتلال، إلا أن قيمته الحقيقية ستقاس بمدى قدرته على الترجمة إلى دعم فعلي لحقوق الفلسطينيين، وإنهاء معاناتهم الطويلة. فدون كسر هيمنة الدعم غير المشروط لإسرائيل، ومحاسبة المتورطين في جرائم الحرب، سيظل الاعتراف بالدولة الفلسطينية مجرّد ورقة ضغط مؤقتة، لا تعكس التزامًا حقيقيًا بالسلام العادل والشامل في الشرق الأوسط.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك