رنّ هاتفي. وظهر لي على الشاشة اسم «سوق البحرين الحرة». للحظة انتابني الشك. ربما ربحت جائزة فعلًا. خصوصًا أنني أحب التسوق في السوق الحرة. وكنت قد اشتريت قبل سفرتي الأخيرة تذكرة سحب على سيارة، كان صوته مقنعا وهو يزف الخبر. لكن مع مرور دقيقة واحدة بدأ الكلام يختلف: طلبات غريبة، نبرة غير مريحة. عندها فقط عرفت أنني أمام محتال يتقن لعبته.
هذه الحيلة ليست غريبة. رسائل الفوز تصل الناس باستمرار. مكالمات تعرض أرباحًا. روابط تختبئ وراء إعلانات أو تحديثات مصرفية. الوجوه مختلفة، لكن الغرض واحد؛ وهو استغلال لحظة غفلة أو طمع في بعض الأحوال أو حسن نية.
الفرق اليوم أن الأمر صار أخطر. فلم يعد يقتصر على رسالة أو اتصال. فقد ظهرت تقنيات تستطيع أن تفبرك صوت قريب لك وكأنك تسمعه فعلًا؛ يطلب المساعدة أو المال، نبرته مألوفة ولهجته صحيحة. ومع ذلك هو ليس هو. برنامج صاغ صوته وأرسله لك. وهنا لا يتعلق الأمر بالمال وحده، إنما بالثقة نفسها. وهذا أصعب بكثير.
الاحتيال لا يفرّق بين أحد. من حولنا نسمع قصصًا عن كبار في السن وقعوا ضحايا لمكالمات بدت رسمية. وشباب كذلك، وحتى طلبة جامعيون، جرى خداعهم بأساليب رقمية ما كان أحد يتصورها في السابق.
الخسارة هنا ليست مالًا فقط؛ هي صدمة نفسية تجعل الشخص يعيد التفكير في كل ما حوله، ويشك في أبسط تعاملاته.
أمام هذا الواقع، يطرح سؤالا: هل يكفي الوعي؟ الحقيقة أن الوعي، مهما كان مهمًا، قد يقف عاجزا أمام حيل صُمّمت لتخدع حتى الحواس. بالله عليكم، كيف نفرّق بين صوت حقيقي وآخر مزيّف؟ أو بين رقم رسمي وآخر مبرمج لكنه يبدو موثوقًا؟
حتى إننا بدأنا أحيانًا نشك في المكالمات الحقيقية. وهذا ما حصل معي أكثر من مرة، وهي مفارقة تكشف عمق المشكلة. الخوف لم يعد من المحتال وحده، إنما في اهتزاز ثقتنا في كل ما حولنا أيضًا.
من الواضح أن البحرين قطعت خطوات لافتة في مواجهة هذه الآفة. وحققت مراكز متقدمة عالميًا في مجال الأمن السيبراني، كما أطلقت استراتيجية وطنية، وأنشأت مركزًا متخصصًا لحماية الأفراد والقطاعات. ومؤخرًا جاء التمرين الوطني للأمن السيبراني (Cyber Shield 2025) ليعكس هذا التوجه على أرض الواقع، عبر تدريب عملي يختبر الجاهزية ويعزز التنسيق في مواجهة التهديدات الرقمية.
ويبرز هذا الاهتمام، متابعة سمو الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة جانبًا من التمرين، في تأكيد واضح أن الملف يحظى بمتابعة مباشرة، وأن المواجهة تُدار برؤية عملية تتجاوز حدود التصريحات.
ومع ذلك، يبقى الاحتيال الرقمي خصمًا متغير الوجوه، يبتكر كل يوم طرقًا جديدة. ولهذا تظل الحاجة قائمة إلى وسائل إضافية تُكمل ما هو موجود، وتمنح الناس ثقة أكبر في مواجهة أساليب لا تتوقف عن التطور.
وفي حياتنا اليومية نرى أمثلة قريبة. فبعض البنوك في البحرين ترسل رسائل قصيرة تحذّر عملاءها من مشاركة بياناتهم. وجهات رسمية تنشر بشكل متكرر تنبيهات في الصحف ومواقع التواصل حول أساليب الاحتيال الجديدة. هذه الخطوات قد تبدو بسيطة، لكنها تصنع فرقا عندما تصل في اللحظة التي يحتاج فيها الشخص إلى حماية نفسه.
الاحتيال لا يسرق المال فقط؛ إنه يهزّ ما هو أعمق. يربك ثقتك في صوت تعرفه منذ سنوات، ويجعلك تشك في مكالمة عادية كان يفترض أن تمنحك طمأنينة. وعندما تسمع أن صديقًا خُدع، أو قريبًا صدّق تسجيلًا مفبركًا، تفهم أن القضية تتجاوز الحسابات البنكية وتمسّ إحساس الإنسان بالأمان ذاته.
التجربة لا تنتهي عند خسارة المال. كثيرون يخرجون منها بجرح نفسي كبير يلازمهم في تفاصيل حياتهم اليومية. إحدى قريباتي تعرّضت للاحتيال وسُحب ما في حسابها خلال مكالمة لم تشك فيها للحظة. منذ ذلك اليوم دخلت في دوامة من القلق والاضطراب النفسي، وما زالت بعد عامين تتلقى العلاج. لم يكن ما حدث خسارة مالية محضة، إنما بداية لمعاناة طويلة أثقلت حياتها.
صحيح أننا لا نستطيع إيقاف كل محاولة احتيال. لكنها لا تنجح بالسهولة نفسها إذا كنا مستعدين.
الاستعداد يعني أن نعرف أن الخدعة قد تأتي في صورة جائزة، أو في رسالة، أو حتى في صوت يطلب العون. وأن ندرك أن المواجهة لا تقوم على فرد واحد، بل على شبكة كاملة: مجتمع يتشارك الخبرة، قانون يردع، وتقنية تكشف.
مثلما نتأكد كل ليلة أن أبواب بيوتنا مغلقة جيدًا، نحتاج أن نفعل الأمر نفسه مع حياتنا الرقمية. قد لا نستطيع أن نغلق كل الأبواب. لكن يمكن أن نغلق ما نستطيع. حتى نصعّب الطريق على المحتال، ولو قليلًا.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك