في الرابع من سبتمبر 2025م، اعتمد مجلس جامعة الدول العربية – على مستوى وزراء الخارجية في دورته العادية الـ164 بمقر الجامعة في القاهرة – قراراً بعنوان «الرؤية المشتركة للأمن والتعاون في المنطقة»، وهو عبارة عن مبادرة مصرية – سعودية تضمنت سبعة بنود أساسية؛ هي: احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها ورفض أي تدخل خارجي أو تهديد بالضم؛ وتأكيد حل القضية الفلسطينية وفق مبادرة السلام العربية وحل الدولتين؛ وإيقاف بناء المستوطنات وحماية حقوق اللاجئين والمقدسات؛ والالتزام بالقانون الدولي وحل النزاعات بالطرق السلمية؛ وتعزيز التعاون العربي في الأمن البحري وأمن الطاقة والاستقرار الاقتصادي؛ ومواجهة تحديات المناخ؛ والالتزام بمعاهدة عدم الانتشار النووي وضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية وإنشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل.
وفي تقديري أن تلك المبادرة قد عكست ثلاثة أمور أساسية؛ أولها: دور الدول العربية المحورية تجاه مواجهة تهديدات الأمن الإقليمي، وهو ما يعبر عنه التنسيق المصري – السعودي، سواءً من خلال الزيارات المتبادلة رفيعة المستوى أو الاتفاقات في مجالات مختلفة، أكدت وبما لا يدع مجالاً للشك أن للأمن الإقليمي ركيزتين أساسيتين هما مصر والسعودية. وثانيها: إعادة تأكيد الدور الذي تنهض به جامعة الدول العربية كمنظمة للأمن الإقليمي، حيث تضمّن الفصل الثامن من ميثاق الأمم المتحدة نصوصاً تفصيلية لذلك الدور وأهدافه التي تتكامل مع أدوار المنظمة الأممية. وثالثها: علاقة السبب والنتيجة في تهديدات الأمن القومي العربي، فلم تعد تلك التهديدات منفصلة بل هي متصلة ومتشابكة ومتزامنة، وتجمعها معادلة التأثير والتأثّر وجميعها تعكس أمراً واحداً مفاده أنه لا أمن إقليمي دون الالتزام بمضامين ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، والتي تتضمن احترام سيادة الدول ورفض كل التهديدات التي تنتقص من هذه السيادة.
من ناحيةٍ ثانية، فإن إطلاق تلك المبادرة من كلٍّ من جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية يُعد استمراراً لحرص الدولتين على إيجاد حلولٍ إقليمية للتحديات التي تواجه الأمن القومي العربي، بدءًا بمبادرة السلام العربية في عام 2002م، والتي تبنّتها القمة العربية الرابعة عشرة في بيروت، ومضمونها إقامة دولة فلسطينية مستقلة مقابل علاقات عربية طبيعية مع إسرائيل، ومروراً بالمقترح المصري الداعي إلى تأسيس قوة عربية مشتركة في عام 2015م، والذي تبنته القمة العربية آنذاك، وانتهاءً بالرؤية المشتركة للأمن والتعاون في المنطقة المعلنة في سبتمبر 2025م.
وفي تصوري أن القيمة المضافة للمبادرة المصرية – السعودية الأخيرة تكمن في كونها تعيد تأكيد فكرة التضامن العربي قولاً وفعلاً، في ظل حالة الاضطراب الأمني الإقليمي غير المسبوقة، والتي لا تهدد الأمن القومي للدول العربية فحسب، بل عمل تنظيمات الأمن الإقليمي ذاتها من خلال عولمة حلول لتهديدات إقليمية. فمع خروج منظومة العلاقات الدولية الراهنة عن مسار القانون الدولي، سواءً في بعض القضايا السياسية أو الاقتصادية، فإن التساؤل المنطقي يكون: ما مصير منظومة الأمن الإقليمي؟ وبشكلٍ أكثر دقة: كيف يمكن لعوامل الجغرافيا والجوار والمصالح المشتركة أن تعيد تفعيل عمل تنظيمات الأمن الإقليمي مجدداً؟ من ناحيةٍ ثانية، فإن صدور تلك المبادرة في توقيتٍ تسعى فيه الدبلوماسية المصرية إلى حشد التأييد لدعم مرشحها لمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، وهو السيد نبيل فهمي وزير الخارجية المصري الأسبق، يؤكد توافق العديد من الدول على هذا الترشيح من ناحيةٍ ثالثة، وبالنظر إلى حالة الحراك الخليجي – المصري الذي سبق إطلاق تلك المبادرة، نجد تنسيقاً وتحركاً فاعلاً تتعدد مساراته، ومجمله هو تفعيل المحور الخليجي – المصري على المسارات السياسية والاقتصادية والأمنية، ومن ذلك زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للمملكة العربية السعودية في الحادي والعشرين من أغسطس 2025م، ولقائه بصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ولي عهد المملكة ورئيس مجلس الوزراء، وهي الزيارة التي اكتسبت زخماً إعلامياً كبيراً في وسائل إعلام الدولتين من حيث المضمون والتوقيت؛ فضلاً عن الزيارة التي قام بها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، لجمهورية مصر العربية في الخامس والعشرين من أغسطس 2025م، بالإضافة إلى زيارة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء في مملكة البحرين، لمصر على رأس وفدٍ رفيع المستوى في الثاني من سبتمبر الجاري، والتقى خلالها عددا من المسؤولين، في مقدمتهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والتي أسفرت عن توقيع 14 اتفاقية ومذكرة تفاهم في عديد من مجالات التعاون بين البلدين. تعكس تلك الزيارات، التي توازت معها زيارات بينية بين قادة عدد من دول الخليج العربي، حقيقةً مفادها أن ثمة تنسيقاً عالي المستوى حول مجمل قضايا الأمن الإقليمي، من خلال رؤيةٍ إقليميةٍ تعكس مخاوف ومصالح كل الدول العربية.
خلاصة القول إن المبادرات الطموحة تحتاج إلى أن تترجم إلى مواثيق شاملة تحدد مسارات وأهداف دول المنطقة، حيث سبق وأن أقر مجلس جامعة الدول العربية ما عُرف بـ «النظام الأساسي لمجلس السِّلْم والأمن العربي» في عام 2008م، ويتضمّن العديد من المبادئ المهمة التي يتقاطع بعضها مع مضامين المبادرة المصرية – السعودية الأخيرة، ولكن وفق المتغيرات الجديدة، خاصةً مستجدات الحرب في غزة وقضية الانتشار النووي، بما يتطلبه ذلك من ازدياد حاجة الدول العربية – اليوم وأكثر من أي وقتٍ مضى – إلى مفهوم استراتيجي شامل للأمن القومي العربي، ليضع كل تلك التصورات موضع التطبيق، لتبقى للأمن الإقليمي هويته وخصوصيته، مع ما نشهده من تهديدٍ غير مسبوقٍ لقواعد القانون الدولي ومبادئ الأمم المتحدة.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية في مركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك