منذ توليه منصبه، أثارت دبلوماسية دونالد ترامب جدلًا واسعًا بسبب أسلوبه الشعبوي وغياب النهج المؤسسي، وتجدد الجدل مع لقائه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا في 15 أغسطس، الذي انتهى بلا نتائج تُذكر رغم الترويج له كاختراق دبلوماسي لإنهاء حرب أوكرانيا. وفي الوقت الذي حشد فيه الغرب دعمه لأوكرانيا باسم القانون الدولي، تتجلى ازدواجية المعايير في صمته إزاء المأساة المستمرة في غزة منذ نحو عامين.
قبيل اللقاء الذي جمع الرئيس الأمريكي ونظيره الروسي في ألاسكا، تصاعدت التوقعات بتحقيق اختراق دبلوماسي جاد لإنهاء الصراع الروسي الأوكراني المستمر منذ ثلاث سنوات ونصف. ووفقًا لجيك ترايلور من صحيفة «بوليتيكو»، فإن ترامب «يستمتع» بلعب دور «صانع السلام الرئيسي»، طامحًا لنيل جائزة نوبل للسلام.
لكن بحسب ما ذكرت ماجي هابرمان وتايلر بيجر من «نيويورك تايمز»، انتهى اللقاء من دون تحقيق تقدم يُذكر أو إعلان اتفاق، وهو ما أثار شكوكًا حول مستقبل جهود السلام، خاصة بعدما ألمح ترامب إلى انسحابه من أي مشاركة مباشرة، كما أوردت «الجارديان».
انتقد عدد من خبراء السياسة الخارجية تفاعلات ترامب الأخيرة مع بوتين، حيث وصف مايكل كيميج، بمعهد كينان بمركز ويلسون، اجتماعهما بأنه «مشهد خبيث»، بينما اعتبر ستيفن م. والت، بجامعة هارفارد، أن ترامب «يفتقد أدنى فكرة عن ماهية ممارسة الدبلوماسية».
ردود الفعل الأوروبية لم تتأخر، حيث سارعت الحكومات الأوروبية لتجديد دعمها العلني للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. غير أن ماثيو سافيل، بالمعهد الملكي للخدمات المتحدة، أشار إلى أن التساؤلات ما زالت قائمة حول طبيعة «الضمانات الأمنية» التي قد تقدم لكييف مقابل تسوية مع موسكو.
لكن هذا الحماس الأوروبي في دعم أوكرانيا لا يُقابل بحماس مماثل تجاه القضايا الأخرى، وخاصة ما يتعرض له الفلسطينيون تحت الاحتلال الإسرائيلي. في ظل تصاعد الانتهاكات بحق الفلسطينيين، بما في ذلك ما وصفته منظمات حقوقية وأممية بـ«الإبادة الجماعية» التي تنفذها حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة، فإن الحكومات الغربية تواصل تجاهل مسؤولياتها في وقف هذه الانتهاكات ومحاسبة مرتكبيها.
ورغم إعلان فرنسا وبريطانيا وكندا نيتهم الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2025، تساءلت سوزان م. أكرم، بجامعة بوسطن، عما إذا كانت هذه الالتزامات مجرد «وعود فارغة». كما رأى آرون ديفيد ميلر، مستشار وزارة الخارجية الأمريكية سابقًا، أن هذه التحركات مدفوعة «بالضمير»، لكنها لن تُحدث أي تغيير حقيقي في سياسة حكومة نتنياهو.
في هذا السياق، أشار نايجل جولد ديفيز بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، إلى أن تحقيق السلام «أبعد من أي وقت مضى»، خاصة في ظل تمسك موسكو بطموحاتها، وعدم استعداد واشنطن للضغط عليها.
رغم محاولات تبرير سافيل لقاء ألاسكا بأنه خطوة نحو «أقل النتائج ضررًا»، إلا أن رغم وعوده ترامب المتكررة بإنهاء حرب أوكرانيا «في غضون 24 ساعة» بعد عودته للبيت الأبيض، أدان والت ترامب بشدة، واصفًا إياه بأنه «مفاوض كارثي» و«أستاذ في فن التنازل»، منتقدًا افتقاده للاستعداد، وعدم توجيهه مرؤوسيه، وجهله بما يريده أو أين تقع خطوطه الحمراء، مضيفًا أنه يفتقر لأي استراتيجية ويعتمد على الارتجال.
من جانبه، أكد كيميج أن إدارة ترامب تفتقد خطة لإنهاء الحرب، وأعرب عن فزعه من تذبذب مواقف ترامب، وتغييره المستمر بين وقف إطلاق النار وتسوية شاملة، مع تهديدات بفك الارتباط.
حتى مستشارو ترامب لم يسلموا من الانتقادات، حيث وصف كريستيان كاريل، محرر «واشنطن بوست»، كبير المفاوضين ستيف ويتكوف بأنه «سيد الكوارث» و«وزير خارجية في الظل»، يمثل نهج ترامب غير المنضبط في العلاقات الدولية.
قيّم كير جايلز، بالمعهد الملكي للشؤون الدولية، أن استمرار «الخلافات» بين مفاوضي واشنطن وموسكو يُظهر أن ترامب لم يمنح بوتين كل ما أراده، خلافًا لما خشيه بعض المعلقين الغربيين، لكنه أشار إلى أن ترامب «أخفق في ترك انطباع لدى بوتين» في ألاسكا، مما دفع الأخير للتوجه نحو «الهدف الأضعف» زيلينسكي لتقديم تنازلات مقابل وقف إطلاق النار.
أما كيميج، فأوضح أن «عدم سذاجة القادة الأوروبيين بشأن ترامب» وتنصله من الالتزامات الأمنية الطويلة دفع بصناع سياسات الناتو نحو «صياغة أساس لأوروبا ما بعد أمريكا»، يشمل ضمانات أمنية لأوكرانيا، مثل نشر جنود بريطانيين وفرنسيين كرادع ضد الهجمات الروسية.
من جانبه، رأى والت أن المقترحات الأوروبية لا تُعد حلاً نهائيًا للحرب، مشيرًا إلى أن «الجذور الرئيسية» للصراع تكمن في غياب توافق جوهري في الدوافع بين روسيا والغرب، واختلاف تعريف كل طرف للتهديدات والمصالح الحيوية، مضيفًا أن «لا شيء كان أكثر ضررًا للموقف الغربي» من تجاهل النخبة الغربية لحقيقة أن التوسع المفتوح للناتو كان «خطأً استراتيجيًا».
أشار والت إلى أن قادة الاتحاد الأوروبي وأعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) «لا يزالون يُصرّون على أن النتيجة الوحيدة المقبولة هي استعادة أوكرانيا لكامل أراضيها التي فقدتها»، مضيفًا أن «توقع تحقيق هذا الهدف على طاولة المفاوضات دون تقديم حجج متماسكة ومقنعة حول كيفية حدوث هذه المعجزة هو أمر مبالغ فيه».
وقد قدّم القادة الغربيون دعمًا قويًا لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، مستندين إلى الدفاع عن القانون الدولي وحقوق الإنسان، ومعاقبة الكرملين بقيادة فلاديمير بوتين على انتهاكه لحق دولة مجاورة في تقرير مصيرها. غير أن هذا المبدأ لم يُطبق بنفس الحزم في صراعات أخرى، وعلى رأسها الهجوم الإسرائيلي المستمر منذ 23 شهرًا على قطاع غزة، حيث شاركت الحكومات الغربية الكبرى في تمويل وتسليح إسرائيل، إلى جانب توفير الحماية الدبلوماسية لها، ما حال دون مساءلتها عن الغزو البري والقصف الجوي، اللذين تسببا بكارثة إنسانية واسعة، وسط اتهامات بمحاولة إبادة جماعية للشعب الفلسطيني والاستيلاء الكامل على أراضيه.
وعلى النقيض من إدانتهم السريعة للغزو الروسي، وفرضهم عقوبات شاملة على موسكو، فضلاً عن دعمهم القوي للمساءلة الدولية ضد بوتين أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، لم تتخذ بريطانيا وفرنسا وألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي سوى خطوات محدودة تجاه الحكومة الإسرائيلية، بل وركزت تصريحاتهم العلنية غالبًا على ضمان أمن إسرائيل كأولوية مطلقة.
ومع تفاقم الكارثة الإنسانية في غزة، حيث يواجه مئات الآلاف المجاعة بسبب منع دخول شاحنات المساعدات، لجأت بعض الدول الأوروبية إلى عمليات إنزال جوي للإمدادات، وهي خطوة وصفها جان-غي فاتو، منسق الطوارئ في غزة لمنظمة «أطباء بلا حدود»، بأنها «عديمة الجدوى»، مشيرًا إلى أن 1% فقط من المساعدات تصل عبر هذا الأسلوب.
في سياق آخر، أعلنت كل من فرنسا وبريطانيا وكندا عن نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، عبر «إعلان نيويورك»، الذي وقعته 16 دولة والاتحاد الأوروبي، وأكد أن قيام دولة فلسطينية مستقلة يُعد «عنصرًا لا غنى عنه في الحل السياسي». غير أن هذا الاعتراف جاء مشروطًا، بخلاف الدعم المطلق المقدم لأوكرانيا.
فقد جعل رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر الاعتراف الفلسطيني مشروطًا بوقف إطلاق النار الإسرائيلي وسماحها بإدخال المساعدات، بينما شدد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على ضرورة «نزع سلاح» الدولة الفلسطينية، وهو ما كرره ستارمر بقوله إن «الهدف الأساسي» للحكومة البريطانية في المنطقة يظل «ضمان أمن وسلامة إسرائيل».
ووصف ستيفن كوك، الزميل البارز في مجلس العلاقات الخارجية، هذه الإعلانات بأنها «مجرد تمثيلية في الغالب»، مشيرًا إلى أن قادة لندن وباريس وأوتاوا «يشعرون بالحاجة لفعل شيء ما في ظل محدودية نفوذهم». وتساءل عن سبب عدم اعترافهم بفلسطين منذ اتفاق أوسلو 1993 أو خلال قمة كامب ديفيد عام 2000، معتبرًا أن «تلك اللحظات كانت أكثر ملاءمة من اللحظة الحالية».
كما أشارت أكرم إلى أن إعلان نيويورك «لا يُلزم الدول الموقعة عليه باتخاذ الإجراءات المنصوص عليها في قرارات محكمة العدل الدولية أو اتفاقية منع الإبادة الجماعية»، رغم توثيق جرائم إسرائيل في غزة. وعلّق ميلر قائلاً إنه «إذا كانت الحكومات الغربية جادة فعلًا في محاسبة إسرائيل على انتهاكات القانون الدولي، فعليها فرض عقوبات ثنائية، تمامًا كما فعلت مع روسيا». ومع ذلك، فإن العقوبات الحالية تقتصر على بعض الوزراء المتطرفين والمستوطنين غير الشرعيين في الضفة الغربية، دون أن تطال الحكومة الإسرائيلية ذاتها.
أما ألمانيا، التي تُعد من أبرز الداعمين الأوروبيين لأوكرانيا، فقد أشار جون كامبفنر، بالمعهد الملكي للشؤون الدولية، إلى أن برلين «غيرت لهجتها مؤخرًا تجاه إسرائيل من دون خطوات عملية». ورأى أن قرار وقف تصدير الأسلحة «لن يكون له تأثير فعلي»، في ظل تأكيد المستشار فريدريش ميرز أن «ألمانيا وقفت إلى جانب إسرائيل طيلة 80 عامًا، ولن يتغير ذلك»، حتى مع استمرار حكومة نتنياهو المتطرفة في ارتكاب جرائم حرب، منها الإبادة الجماعية. كما أعرب ميرز عن «صدمته» من المواقف الفرنسية والبريطانية بشأن الاعتراف بدولة فلسطينية، مؤكدًا أن ألمانيا «لن تحذو حذوها».
وفي الوقت الذي كشف فيه كيميج أن مفاوضات أوكرانيا أبرزت «محدودية قدرات ترامب كرجل دولة»، رأى فيليب جوردون من مؤسسة بروكينجز أن «الأمل الحقيقي الوحيد» لتحقيق السلام في غزة هو تدخل أمريكي، بينما لم تُظهر الحكومات الأوروبية استعدادًا فعليًا للانفصال عن سياسات واشنطن تجاه إسرائيل، رغم الكارثة الإنسانية المتفاقمة التي خلّفها ائتلاف نتنياهو. وبينما أدان والت لهاث ترامب وراء الاهتمام، وتسببه في تقويض سمعة واشنطن كفاعل دبلوماسي موثوق، أظهر فشل القادة الغربيين الآخرين افتقارهم للشجاعة السياسية والأخلاقية في مواجهة انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي وحقوق الإنسان.
تُبرز مفاوضات ألاسكا وفشل إنهاء حرب أوكرانيا محدودية دبلوماسية ترامب، التي وصفها محللون بالمرتجلة وعديمة الرؤية. وبينما يشدد الغرب على دعم أوكرانيا ومعاقبة روسيا باسم القانون الدولي، يقابله صمت ملحوظ تجاه مأساة غزة، ما يكشف عن ازدواجية المعايير ويقوّض مصداقية الخطاب الإنساني الغربي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك