يُعد التقدم الاجتماعي من المفاهيم الأساسية التي تعكس مدى تطور المجتمع ورفاهيته. تم وضع مؤشر في 2011 لقياس أداء الدول من منظور اجتماعي وبيئي باستقلالية عن المؤشرات الاقتصادية. يقيِّم هذا المؤشر التقدم الاجتماعي من خلال متابعة مجموعة من المعايير تؤثر بشكل مباشر في جودة حياة الأفراد والمجتمع. يتكون المؤشر من ثلاثة عناصر، الأول: «احتياجات المواطنين الأساسية»، وتشمل التغذية، الرعاية الصحية، الصرف الصحي، السكن، والسلامة الشخصية؛ العنصر الثاني: «قواعد وأسس الرفاه»، تشمل الوصول إلى المعرفة والمعلومة، الصحة والرفاه، جودة البيئة، الحقوق الشخصية؛ والعنصر الثالث: «الفرص»، وتركز على الحقوق الشخصية، حرية الاختيار، التسامح، والوصول إلى التعليم المتقدم والحرية الأكاديمية. هذه العناصر ومشتقاتها أمور حيوية للحراك الاجتماعي وتطوير الأفراد. وكل من هذه التفرعات تنقسم إلى مؤشرات يصل مجموعها 57 مؤشرا.
صدر تقرير 2025 تحت شعار «محاربة الفقر وعدم المساواة؛ وتقوية الحماية الاجتماعية». احتلت المراكز الأولى أربع دول أوروبية صغيرة وهي بالترتيب التالي: النرويج، الدنمارك، فنلندا، وسويسرا. حصلت الدول العربية على مراتب متوسطة في هذا المؤشر، مع تقدم حققته دول الخليج وعلى رأسها البحرين. يطالب التقرير بتوافق على سياسات جديدة ترتكز على المساواة، والأمن الاقتصادي، والتكاتف المجتمعي. هذه عوامل مهمة لتحقيق العناصر الضرورية للتنمية المستدامة منها تعزيز الثقة المجتمعية بمعالجة الصراعات الداخلية المختلفة. أبرز مؤشر 2025 جمودا في التقدم الاجتماعي على مستوى العالم للسنة الثانية على التوالي، بينما شهد ثلثا دول العالم تراجعا في مستوى الرفاه الاجتماعي، في حين سجل مؤشر الحاجات الضرورية للإنسان (وهي القاعدة للرفاه الاجتماعي والفرص) تقدما طفيفا على مستوى العالم، وهو الاقل منذ أول تقرير في 2011.
يوضح التقرير أن من منغصات التقدم المجتمعي هو أن الحياة، لنسبة كبيرة من السكان أسوأ مما كانت عليه قبل 50 سنة وذلك لسببين، الأول: طريقة توزيع مكاسب التقدم والثروات الناتجة، مما وسع الفجوة بين الفقراء والأغنياء؛ ثانيا: نسبة كبيرة من الناس تشعر بفقدان الأمان الاقتصادي والأمني وتكاد تقع في الفقر نتيجة للصراعات وضعف التنمية والعدالة الاجتماعية. كذلك من القضايا المهمة التي يطرحها التقرير تأثير السياسة المالية التي تحدد وجود ضرائب تصاعدية على الأغنياء لمكافحة الفقر وعدم المساواة لتحقيق عدالة اجتماعية وتعزيز الثقة المجتمعية؛ وقد أوضح التقرير أن هناك دعما كبيرا وواسعا لفرض ضرائب على الأغنياء لدعم الفقراء، بما في ذلك دعم من أغنياء العالم أنفسهم، حيث صوتوا لصالح هذه السياسة. غير أن في دول أخرى وجد أن مستوى الفقر المدقع كان أعلى بعد الضرائب مما كان قبل الضرائب، مما يدل على عدم عدالة الضرائب وسوء توزيع الإيرادات (ص87 من التقرير). كما يوضح التقرير أن دولا أخرى متدنية الدخل وتعاني من تكاليف الدين العام تجد صعوبة في تضييق معدلات العجز، مما يؤثر في قدرتها على تحقيق مستوى مرتفع من العدالة الاجتماعية (ص86). يرى التقرير أن الجهود الدولية في «تحسين مستوى التعليم والصحة والبنى التحتية» لن يكون له تأثير كبير ما لم يصاحبه انتقال سلس للشباب من التعليم إلى العمل بتوفير فرص وظيفية مجدية من خلال الاستثمار الموجه لهذه الغاية (ص82)، بالإضافة إلى الاستثمار في توفير السكن المناسب والخدمات العامة الفعالة.
يتضمن المؤشر منظاراً اجتماعياً يمعن النظر في آلية صنع السياسات التي تؤكد أهمية تقليل عدم المساواة، وتحقيق الأمن الاقتصادي وخلق فرص عمل مجدية في وسط شبكة من السياسات المتناغمة تضمن الوصول إلى التعليم النوعي، والنظام الصحي الشامل والميسر للجميع، وخدمات أخرى لكسر دائرة ارتفاع عدم المساواة ضمن الجيل الواحد وفيما بين الأجيال. وجد التقرير، وبشكل عام، أن هذه الخدمات ليست بالمستوى الذي يحقق محاربة الفقر وعدم المساواة، بل يفاقمها في بعض الحالات (ص77). ويرى أن تحقيق الحماية الاجتماعية، من خلال مزيج من المساهمات وتمويل ضريبي، أمر في غاية الأهمية لدعم الأمن الاقتصادي. ويضيف أن مستوى «الاستثمار الاجتماعي» يتفاوت بين دول في نفس الفئة من الدخل. فهناك دول أقل دخلا يكون إنفاقها الاجتماعي أعلى من دول أكثر دخلا؛ يشير ذلك إلى أن خيار السياسات المتبعة لا تحدده مستويات دخل البلد ولكن سياسات ومواقف سياسية واجتماعية وفكرية. لذلك فإن منظومة السياسات المالية بما فيها الضرائب يجب أن تلعب دورا محوريا في تحقيق تقدم في تقليل الفقر وعدم المساواة، وأن يخضع ذلك للقياس والتقييم الدوري والعلني (ص77).
للاستفادة من هذه التقارير في وضع السياسات المجتمعية والتنموية ينبغي الاهتمام بالمؤشرات التفصيلية (57 مؤشرا) المكونة لعناصر المؤشر. فمثلا في هذا التقرير هناك ثلاثة عناصر رئيسية وقد تحصل دولة على نتائج متقدمة في اثنين من هذه العناصر وتتخلف في العنصر الذي يشمل التعليم، ولنفترض أن تخلفها كان في التعليم العالي إلى درجة أن جامعاتها متدنية المستوى. في هذه الحالة فإن تفوقها في العناصر الأخرى لا يعوض عن التخلف في التعليم وتأثيره في التقدم المجتمعي حتى وإن حققت مركزا متقدما في المؤشر العام. كذلك التخلف في جودة البيئة أو في مستوى الثقة في المجتمع، فهذه مؤشرات تؤثر في عناصر أخرى في جوانب مختلفة من الرفاه الإنساني. لذلك من الضروري أن يكون هناك توازن في النتائج بحيث لا تصل الدولة إلى المستوى المتدني جدا في أي من السبعة والخمسين مؤشرا فرعيا مما يؤثر عمليا في جوانب كثيرة من الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية، وبالتالي فإن التراجع في هذا المؤشر له تأثير كبير في الأداء العام الفعلي، حتى وإن كان ترتيب الدولة متقدما بسبب مؤشرات أخرى. من هنا فإن تقييم أداء الدولة اجتماعيا ينبغي أن ينظر إليه كمنظومة متكاملة لكي تتحقق الفائدة والنتيجة العملية. أما المعدل العام فإنه، مثل أي متوسط، يخفي تفاصيل تؤثر في النتيجة العملية المهمة والضرورية لتحقيق التقدم المجتمعي.
في الخلاصة يمكن القول إن مقاييس التقدم الاجتماعي تعد أدوات حيوية لقياس مدى تطور المجتمع، وتحديد المجالات التي تحتاج إلى تحسين، خصوصا إذا كانت تفاصيل ومكونات المؤشرات تفيد بوجود تفاوت كبير في نتائج الدولة الواحدة في كل من المعايير الـ 57. إن التركيز على مكونات التقدم الاجتماعي وتطويرها بشكل شمولي ومتوازن (بحيث لا يزيد التفاوت في نتائج المؤشرات على حد معين) يسهم بشكل كبير في تعزيز الرفاهية الاجتماعية، وتحقيق التنمية المستدامة، وبناء مجتمعات أكثر عدالة واستقرارًا.
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك