اتخذت حكومة السير كير ستارمر البريطانية في الأشهر الأخيرة موقفًا علنيًا أكثر حزمًا تجاه الدمار الذي تلحقه إسرائيل بغزة، ولا سيما بإعلانها نيتها الاعتراف المشروط بالدولة الفلسطينية خلال الدورة القادمة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وأيضًا فيما يخص استمرار المملكة المتحدة في تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، وهي الأسلحة التي تم توثيق استخدامها ضد المدنيين الفلسطينيين. ومع ذلك تجاهل صانعو السياسات في الحكومة البريطانية مرارًا دعوات الأكاديميين ونشطاء حقوق الإنسان والخبراء القانونيين إلى المطالبة بفرض حظر شامل على تصدير الأسلحة.
وعلى الرغم من أن سياسة إسرائيل المتمثلة في تجويع الفلسطينيين وتجديد غزوها لغزة دفعت الحكومة الألمانية -التي تُعد على الأرجح أبرز المدافعين عن حكومة نتنياهو في أوروبا- إلى وقف تصدير الأسلحة التي يمكن استخدامها ضد المدنيين، فإن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة البريطانية لم تصل إلى حد رفض توجيه الدعوات لمسؤولي الحكومة الإسرائيلية لحضور معرض معدات الدفاع والأمن الدولي، الذي وصفته شبكة بي بي سي بأنه «أبرز معرض تجاري دفاعي في بريطانيا»، المقرر إقامته في لندن بين 9 و12 سبتمبر 2025.
وقد تناول مارك لاندلر من صحيفة نيويورك تايمز هذا القرار واصفًا إياه بأنه «علامة أخرى على العزلة المتزايدة لإسرائيل»، إلا أن الأثر العملي لهذا القرار يظل محدودًا عندما نأخذ في الاعتبار أن ممثلي ومقاولي شركات الأسلحة الإسرائيلية لا يزال يُسمح لهم بالحضور والمشاركة في المعرض، إلى جانب مندوبي الشركات الغربية الذين وثقت منظمات حقوقية والأمم المتحدة تواطؤهم في عملية الإبادة الجماعية التي تنفذها حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة ضد الفلسطينيين.
وفي مقال كتبه روبرت وول من شبكة سمارت أفيايشن حول ما وصفه بـ«الخلاف الدبلوماسي» بين الحكومة البريطانية وإسرائيل، أشار إلى أن هذا الخلاف «لا يمتد» بوضوح إلى قطاع مبيعات الأسلحة الدولية. وقد أدانت حملة مناهضة تجارة الأسلحة السماح لإسرائيل بالمشاركة في المعرض المقام في لندن، ووصفت ذلك بأنه «تصرف جبان» و«تعبير واضح عن الدعم الذي تحظى به إسرائيل من قبل الحكومة البريطانية».
وعلى الرغم من التراجع النسبي في حجم المساعدات التي تتلقاها إسرائيل من الولايات المتحدة -حيث أفاد معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة بجامعة براون أن هذه المساعدات بلغت 22.76 مليار دولار أمريكي في الفترة بين أكتوبر 2023 وسبتمبر 2024- فإن المملكة المتحدة منحت إسرائيل تراخيص لتصدير معدات عسكرية منذ عام 2015 تجاوزت قيمتها 500 مليون جنيه إسترليني. وقد وثّقت مكتبة مجلس العموم أن إجمالي مبيعات الأسلحة بلغ 42 مليون جنيه إسترليني في عام 2022 و18 مليون جنيه إسترليني في عام 2023.
ورغم أن الحكومة البريطانية اتبعت خطى بعض الدول الأخرى بتعليق مفاوضاتها التجارية مع إسرائيل في مايو 2025، وألحقت ذلك بفرض عقوبات على أعضاء الحكومة الإسرائيلية المتطرفة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش في يونيو، فإنها لم تفرض حظرًا شاملًا على صادرات الأسلحة إلى إسرائيل؛ ففي سبتمبر 2024 قام وزير الخارجية ديفيد لامي بتعليق حوالي 30 ترخيصًا لتصدير الأسلحة، معترفًا بوجود «خطر واضح» لاحتمالية استخدام هذه الذخائر «في ارتكاب أو تسهيل انتهاك جسيم للقانون الإنساني الدولي».
غير أن الدكتورة جولي نورمان، الأستاذة المساعدة في السياسة والعلاقات الدولية بجامعة لندن، أشارت إلى أن تلك التراخيص تمثل أقل من 10% من إجمالي صادرات الأسلحة البريطانية، وأوضحت أن «من غير المرجح أن يكون لهذا الإجراء أي تأثير حقيقي» على الحملة الإسرائيلية المستمرة لتدمير غزة. وفي الواقع، لم يؤثر هذا التعليق بشكل ملموس على استخدام إسرائيل لطائرات إف-35، التي وثق استخدامها في هجمات على ما تُعرف بـ«المناطق الآمنة» في غزة، ما أدى إلى استشهاد وإصابة مئات المدنيين.
واللافت أن الأشهر التي أعقبت هذا الحظر الجزئي شهدت موافقة الحكومة البريطانية على صادرات عسكرية إلى إسرائيل تزيد قيمتها على 127 مليون جنيه إسترليني، أي ما يفوق إجمالي الصادرات العسكرية البريطانية إلى إسرائيل خلال الفترة من 2020 إلى 2023 مجتمعة.
وقد واصلت الحكومة والشركات الإسرائيلية شراء المعدات وتسويق أسلحتها في معارض تجارة الأسلحة الغربية منذ أكتوبر 2023، وتخطط للقيام بذلك مجددًا في معرض معدات الدفاع والأمن الدولي (DSEI) في سبتمبر 2025، وهو حدث يُنظّم كل عامين ويُقال إنه يجذب أكثر من 50,000 مشارك، من بينهم وزراء ومسؤولون في وزارات الدفاع. وقد أفادت صحيفة الغارديان أن الجهة المنظمة للمعرض، وهي شركة كلاريون للدفاع والأمن تتلقى «دعمًا» من الحكومة البريطانية والجيش البريطاني.
ومن بين نحو 60 دولة تمثلها وفود عادة في هذا الحدث أشارت شبكة سي إن إن إلى أن لإسرائيل في السابق «حضورًا بارزًا».
وفي ضوء الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي من إبادة جماعية ومعاناة إنسانية شديدة بحق الفلسطينيين في غزة، نقلت صحيفة الإندبندنت إعلان عدد من المنظمات الناشطة نيتها تنظيم احتجاجات ضد إقامة المعرض. وقد وصفت الحكومة البريطانية «تصعيد الحكومة الإسرائيلية لعمليتها العسكرية في غزة» بأنه «خاطئ»، وأعلنت في بيان رسمي أنه «نتيجة لذلك، يمكننا أن نؤكد أنه لن تتم دعوة أي وفد حكومي إسرائيلي لحضور نسخة المعرض لعام 2025».
على الرغم من أن منظمة العمل ضد العنف المسلح، ومقرها لندن، قد رحّبت بما وصفته بـ«خطوة مهمة، وإن جاءت متأخرة»، تجاه محاسبة إسرائيل على «انتهاكاتها للقانون الدولي»، إلا أنه من الضروري التوضيح أن الحكومة البريطانية، خلافاً لما ذكره صحفيون مثل مارك لاندلر من نيويورك تايمز وكريستيان إدواردز من سي إن إن، لم «تحظر» حضور المسؤولين الإسرائيليين للحدث رسمياً، بل اكتفت بعدم توجيه الدعوة المعتادة إليهم، من دون فرض حظر صريح على مشاركتهم.
ومع ذلك، تظل آثار غياب مسؤولي حكومة بنيامين نتنياهو والجيش الإسرائيلي عن المعرض المقام في لندن موضع جدل، ولا سيما وأنه -كما أشار لاندلر- «لا يزال بإمكان الموردين الإسرائيليين الأفراد بيع أسلحتهم» خلال الحدث. ومن بين الشركات المتوقعة المشاركة الصناعات الجوية الإسرائيلية ورافائيل وإلبيت سيستمز ويوفيجن.
وفي ظل تأكيد الحكومة الإسرائيلية «دعمها الكامل» لهذه الشركات، حذّرت منظمة العمل ضد العنف المسلح من استمرار تسويق وبيع «الأسلحة المستخدمة في غزة» خلال فعاليات المعرض. كما أن معرض معدات الدفاع والأمن الدولي المتوقع عقده في سبتمبر 2025، سيتيح لشركات غربية -يُنظر إليها على أنها متواطئة في محاولة إسرائيل إبادة الفلسطينيين- عرض وبيع أسلحة استخدمت في قتل عشرات آلاف المدنيين.
وقد سلط تقرير صادر في يوليو 2025 عن المقررة الخاصة للأراضي الفلسطينية المحتلة فرانشيسكا ألبانيز أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الضوء على الكيفية التي جنت فيها شركات الأسلحة الغربية -إلى جانب مؤسسات مالية وشركات تكنولوجيا وخدمات لوجستية ومواقع سفر- أموالاً ضخمة من الحملة الإسرائيلية لتدمير غزة. ومن بين هذه الشركات، شركة لوكهيد مارتن الأمريكية، المصنعة لطائرة إف35، التي من المقرر أن يلقي مايكل ويليامسون، نائب رئيسها الأول للأعمال الدولية، كلمة خلال المعرض ضمن فعالية بعنوان «تسليح القاعدة الصناعية الدفاعية».
من جانبها، أدانت إميلي آبل من حملة مناهضة تجارة الأسلحة ما وصفته بـ«تظاهر الحكومة البريطانية باتخاذ إجراءات، في حين تحمي في الوقت ذاته أرباح تجار الأسلحة»، فيما رأَت منظمة العمل ضد العنف المسلح أن هذا «التناقض» -بين رفض دعوة مسؤولين حكوميين إسرائيليين والسماح للشركات الإسرائيلية بعرض وبيع أسلحتها- «يؤكّد الحاجة إلى نهج أكثر شمولاً».
وقد دعت أكثر من 230 منظمة من المجتمع المدني الحكومة البريطانية -إلى جانب حكومات أستراليا وكندا والولايات المتحدة وهولندا وإيطاليا والدنمارك والنرويج- إلى الوقف الفوري لجميع صادرات الأسلحة إلى إسرائيل، بما في ذلك طائرات إف35. كما انضم إلى هذه المطالب نحو 60 برلمانياً بريطانياً، ممثلين 57% من البريطانيين الذين أظهر استطلاع يوغوف تأييدهم تعليق جميع صادرات الأسلحة إلى إسرائيل، في حين أيد 48% منهم أيضاً فرض حظر تجاري شامل.
غير أن كير ستارمر وديفيد لامي لم يعترفا بهذه الدعوات؛ ففي إطار الطعن القانوني المقدم في صيف 2025 ضد صادرات الأسلحة البريطانية إلى إسرائيل، ادعى محامو الحكومة البريطانية أمام المحكمة العليا في المملكة المتحدة أن مشاركتها في برنامج إف35 لها الأولوية على التزاماتها الدولية بشأن تصدير الأسلحة، بما في ذلك منع الإبادة الجماعية التي تُتهم إسرائيل بارتكابها.
وفي السياق نفسه وجهت هيلين ماجوري النائبة عن حزب الديمقراطيين الليبراليين المعارض نقداً لحكومة ستارمر، قائلة إن «الحكومة تدفن رأسها في الرمال إذا اعتقدت أن هناك بديلاً عن فرض حظر على صادرات الأسلحة إلى إسرائيل»، وأضافت أن «أي إجراء دون ذلك يُعدّ إهمالاً تاماً من جانب الحكومة في أداء واجبها لوقف الكارثة الإنسانية في غزة».
إن مشاركة شركات الأسلحة الإسرائيلية في المعرض بلندن تُبرز كيف تحولت إسرائيل خلال حربها على غزة إلى مورد أساسي للأسلحة للدول الغربية، التي ستشتري، بلا شك، معدات استُخدمت ضد المدنيين الفلسطينيين. وقد ارتفعت قيمة صادرات الأسلحة الإسرائيلية إلى رقم قياسي بلغ 14.8 مليار دولار في 2024، مقارنة بـ13 مليار دولار في 2023، وأكثر من ضعف ما كانت عليه في 2019.
ووفقاً لتقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام عن اتجاهات نقل الأسلحة في الفترة 20202024، فإن الهند والولايات المتحدة الأمريكية والفلبين كانت أكبر ثلاث دول مستوردة للأسلحة الإسرائيلية. ومع ذلك، أشارت شبكة سي إن إن إلى أن «أوروبا واصلت شراء الأسلحة من إسرائيل»، وكان آخرها صفقة بقيمة 1.6 مليار دولار أبرمتها إلبيت مع دولة أوروبية لم يُكشف عنها.
أما بالنسبة إلى المملكة المتحدة فقد كشفت حملة مناهضة تجارة الأسلحة أنها «على وشك منح عقد بقيمة 2 مليار جنيه إسترليني لشركة إلبيت»، مستغربة من أن «هذه ليست أفعال حكومة ملتزمة باتخاذ موقف ضد إسرائيل، بل إنها متواطئة في إبادة جماعية».
ومن ثم، على الرغم من أن الحكومة البريطانية أكدت في بيانها، حين رفضت دعوة المسؤولين الإسرائيليين الرسميين لحضور المعرض، أن «الحل الدبلوماسي مطلوب، وينبغي وقف إطلاق النار فوراً»، فإن السماح للمشاركة المفتوحة لشركات الأسلحة الإسرائيلية وممثليها يبرز فقط التناقض بين أقوال وأفعال الحكومات الغربية.
وفي هذا الإطار، شدّدت منظمة العمل ضد العنف المسلح على أن رفض الحكومة الإسرائيلية «لا ينبغي أن يُعتبر غاية في حد ذاته، بل بداية لتحوّل أوسع في السياسات». أما حملة مناهضة تجارة الأسلحة، فقد اعتبرت أن الحكومة البريطانية «من الواضح أنها غير ملتزمة بأي إجراء من شأنه أن يقلص أرباح تجار الأسلحة».
ومع اقتراب موعد المعرض في أوائل سبتمبر، يبقى السؤال مطروحاً: هل ستعرض الشركات الإسرائيلية أسلحة استخدمت ضد المدنيين الفلسطينيين؟ وهل ستتبع حكومة ستارمر خطوة الحكومة الفرنسية، التي أغلقت أربع منصات لشركات إلبيت سيستمز ورافائيل والصناعات الجوية الإسرائيلية ويوفيجن، بعد رفضها إزالة الأسلحة الهجومية من عروضها؟
وعلى نحو أوسع، كما صرّح دانييل ليفي، رئيس مشروع الولايات المتحدة/الشرق الأوسط في نيويورك، فإن الحكومة البريطانية «لا تقود» في اتخاذ إجراءات ضد إسرائيل، بل إنّها «تتّبع» الآخرين. وأضاف ليفي أن «المسؤولين البريطانيين، لو تُركوا لتصرفاتهم فقط، فلن يفعلوا شيئاً من شأنه أن يزعج إسرائيل»، ولا سيما فيما يتعلّق بالتدفق المستمر للأسلحة التي تُستخدم يومياً ضد غزة وسكانها المدنيين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك