ليس غريبا أن يحظى الخطاب الديني بعناية واهتمام على المستويين الرسمي والمجتمعي، إدراكا لدوره في حفظ الاستقرار وتعزيز الروابط.
فالدين في جوهره كلمة طيبة، والكلمة في حقيقتها رسالة قبل أن تكون لفظًا. ليست المسألة في الألفاظ وحدها، بل في الأثر الذي تتركه عند السامع. كلمة تُقال بلين قد تفتح قلبًا، ونرى أخرى تُقال في وقت غير مناسب فتجرح أو تنفّر.
ولأن الناس يختلفون في مزاجهم وظروفهم وتجاربهم، فإن استقبالهم للمفهوم يتفاوت أيضًا. لهذا يصبح الأسلوب جزءًا من الحكمة. لا نغير المعنى، بل نحرص على الطريقة التي نوصله بها. الكلمة إذا جاءت برفق، تبعث الطمأنينة بدلا من أن تزيد القلق.
وأنا أتنقل بين القنوات، صادفت مقابلة مع الباحث الإسلامي السوري محمد حبش. كان يتحدث عن جمال الدين، لا بوصفه نصا جامدا، بل كخطاب حيّ يعيش مع الناس. قال ما معناه؛ الدين لا يحتاج إلى بعث لأنه حيّ في القلوب، لكن الذي يحتاج إلى بعث هو الطريقة التي نقدمه بها. توقفت عند عبارته، وشعرت بصدق كأنه يضع الكلمات التي كنت أبحث عنها منذ زمن. كثيرا ما شعرت أن النص يبقى حيا، لكن أثره يضعف إذا قُدم بأسلوب جاف.
تأملت كيف يمكن أن تتحول بعض المعاني الجميلة بمرور الوقت إلى شيء مختلف عما قُصد بها. ما كان دعوة للروحانية قد يُفهم في بعض الأحيان بطريقة مختلفة تُبعده عن قصده الأول. وهذا ما يجعل السؤال الأهم ليس عن مضمون الإيمان فقط، بل عن النهج الذي نُعبّر به عنه من دون أن نُقصي أي أحد أو نُشعره أنه خارج الدائرة.
وفي جزء آخر من الحوار، توقف عند مسألة قريبة منا كلنا: مشاركة الآخرين مشاعرهم. فالابتسامة في مناسبة لا تخصنا ليست تنازلا، بل إنسانية صافية. والرحمة في جوهرها احترام لمشاعر الآخر، حتى لو لم نسلك الطريق ذاته.
ومن بين من تناولوا هذه الفكرة بعمق، مفكرون تركوا أثرا في العقود الأخيرة. من أمثال، نصر حامد أبو زيد رأى أن النصوص تحتاج إلى قراءة إنسانية تُحررها من الجمود الذي ألصق بها. أما محمد أركون فدعا إلى اجتهاد يقرأ النصوص في ضوء واقعنا المعاصر، ليبقى الدين حاضرا بفعاليته في كل زمن.
وإذا عدنا إلى القرآن العظيم، وجدنا أن هذا البعد لم يكن غائبا قط. يقول الله تعالى: (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)، ويقول جل جلاله: (وجادلهم بالتي هي أحسن). ثم تأتي الآية الجامعة: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). هذه الآيات لم تُنزل للتلاوة فحسب، بل لتكون منهج يجمع القلوب ولا يفرقها.
حين يكون المنبر أمينا لرسالته، يتحول إلى جدار يصدّ الرياح التي تحاول زعزعة استقرار الأوطان. الكلمة فيه تُجمع ولا تُفرق، وتقوي المجتمع وتزيده صلابة في وجه ما لا يريد له الخير.
قيمة الكلمة لا تأتي من المكان الذي تُقال فيه وحده، بل من النية التي تسبقها. والسؤال هنا: لماذا نتحدث أصلا؟ هل نريد أن نهدي أم أن نغلب؟ أن نقرب الناس منا أم نضع بينهم مسافة؟ حين تصدر الكلمة بصدق، تصل بهدوء وتعيد إلى الإنسان راحته الداخلية.
الجوهر الفعلي للطرح الديني، أنه يخفف عن الناس ويقرّبهم من رحمة الله، لا أن يزيدهم قلقا أو شعورًا بالذنب. اللفظ الذي يبعث السلام يبقى أدوم حضورًا من أي خطاب يُراد به التفوق أو الغلبة. المطلوب ليس أن تتغير الثوابت، بل أن تُعرض بروحها الرحبة. فالنص القرآني ثابت، لكن طريقة تقديمه هي التي تحدد أثره.
الرسالة لا تزداد قوة بعلو الصوت، وإنما في قدرتها على أن تخفف ثقل الحياة عن سامعيها. وعندما يجد الناس في الحديث مساحة أمل، يشعرون أن الدين يقف إلى جانبهم في تحدياتهم، لا بعيدا عنهم في فضاء من التجريد.
الخطاب ليس قولا عابرا؛ هو مسؤولية تُترجم في واقع المجتمع. وحين يُلتزم بروح الدين، يصبح سندا يخفف الأعباء ويمنح الناس ثباتا في زمن سريع التغيّر. ومن هنا تبرز أهمية التعاون بين المؤسسات الرسمية والدينية، ليبقى المنبر قوة توحيد وحماية للأوطان.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك