العدد : ١٧٣٣٥ - الاثنين ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٦ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٣٥ - الاثنين ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٦ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

ملامح خطاب يُقرِّب.. ويُعيد إلى القلوب سكينتها

بقلم: نبيلة رجب

الاثنين ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٥ - 02:00

ليس‭ ‬غريبا‭ ‬أن‭ ‬يحظى‭ ‬الخطاب‭ ‬الديني‭ ‬بعناية‭ ‬واهتمام‭ ‬على‭ ‬المستويين‭ ‬الرسمي‭ ‬والمجتمعي،‭ ‬إدراكا‭ ‬لدوره‭ ‬في‭ ‬حفظ‭ ‬الاستقرار‭ ‬وتعزيز‭ ‬الروابط‭.‬

فالدين‭ ‬في‭ ‬جوهره‭ ‬كلمة‭ ‬طيبة،‭ ‬والكلمة‭ ‬في‭ ‬حقيقتها‭ ‬رسالة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬لفظًا‭. ‬ليست‭ ‬المسألة‭ ‬في‭ ‬الألفاظ‭ ‬وحدها،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬الأثر‭ ‬الذي‭ ‬تتركه‭ ‬عند‭ ‬السامع‭. ‬كلمة‭ ‬تُقال‭ ‬بلين‭ ‬قد‭ ‬تفتح‭ ‬قلبًا،‭ ‬ونرى‭ ‬أخرى‭ ‬تُقال‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬غير‭ ‬مناسب‭ ‬فتجرح‭ ‬أو‭ ‬تنفّر‭.‬

ولأن‭ ‬الناس‭ ‬يختلفون‭ ‬في‭ ‬مزاجهم‭ ‬وظروفهم‭ ‬وتجاربهم،‭ ‬فإن‭ ‬استقبالهم‭ ‬للمفهوم‭ ‬يتفاوت‭ ‬أيضًا‭. ‬لهذا‭ ‬يصبح‭ ‬الأسلوب‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الحكمة‭. ‬لا‭ ‬نغير‭ ‬المعنى،‭ ‬بل‭ ‬نحرص‭ ‬على‭ ‬الطريقة‭ ‬التي‭ ‬نوصله‭ ‬بها‭. ‬الكلمة‭ ‬إذا‭ ‬جاءت‭ ‬برفق،‭ ‬تبعث‭ ‬الطمأنينة‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تزيد‭ ‬القلق‭.‬

وأنا‭ ‬أتنقل‭ ‬بين‭ ‬القنوات،‭ ‬صادفت‭ ‬مقابلة‭ ‬مع‭ ‬الباحث‭ ‬الإسلامي‭ ‬السوري‭ ‬محمد‭ ‬حبش‭. ‬كان‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬جمال‭ ‬الدين،‭ ‬لا‭ ‬بوصفه‭ ‬نصا‭ ‬جامدا،‭ ‬بل‭ ‬كخطاب‭ ‬حيّ‭ ‬يعيش‭ ‬مع‭ ‬الناس‭. ‬قال‭ ‬ما‭ ‬معناه؛‭ ‬الدين‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬بعث‭ ‬لأنه‭ ‬حيّ‭ ‬في‭ ‬القلوب،‭ ‬لكن‭ ‬الذي‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬بعث‭ ‬هو‭ ‬الطريقة‭ ‬التي‭ ‬نقدمه‭ ‬بها‭. ‬توقفت‭ ‬عند‭ ‬عبارته،‭ ‬وشعرت‭ ‬بصدق‭ ‬كأنه‭ ‬يضع‭ ‬الكلمات‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أبحث‭ ‬عنها‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭. ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬شعرت‭ ‬أن‭ ‬النص‭ ‬يبقى‭ ‬حيا،‭ ‬لكن‭ ‬أثره‭ ‬يضعف‭ ‬إذا‭ ‬قُدم‭ ‬بأسلوب‭ ‬جاف‭.‬

تأملت‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬بعض‭ ‬المعاني‭ ‬الجميلة‭ ‬بمرور‭ ‬الوقت‭ ‬إلى‭ ‬شيء‭ ‬مختلف‭ ‬عما‭ ‬قُصد‭ ‬بها‭. ‬ما‭ ‬كان‭ ‬دعوة‭ ‬للروحانية‭ ‬قد‭ ‬يُفهم‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬بطريقة‭ ‬مختلفة‭ ‬تُبعده‭ ‬عن‭ ‬قصده‭ ‬الأول‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬السؤال‭ ‬الأهم‭ ‬ليس‭ ‬عن‭ ‬مضمون‭ ‬الإيمان‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬عن‭ ‬النهج‭ ‬الذي‭ ‬نُعبّر‭ ‬به‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نُقصي‭ ‬أي‭ ‬أحد‭ ‬أو‭ ‬نُشعره‭ ‬أنه‭ ‬خارج‭ ‬الدائرة‭.‬

وفي‭ ‬جزء‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬الحوار،‭ ‬توقف‭ ‬عند‭ ‬مسألة‭ ‬قريبة‭ ‬منا‭ ‬كلنا‭: ‬مشاركة‭ ‬الآخرين‭ ‬مشاعرهم‭. ‬فالابتسامة‭ ‬في‭ ‬مناسبة‭ ‬لا‭ ‬تخصنا‭ ‬ليست‭ ‬تنازلا،‭ ‬بل‭ ‬إنسانية‭ ‬صافية‭. ‬والرحمة‭ ‬في‭ ‬جوهرها‭ ‬احترام‭ ‬لمشاعر‭ ‬الآخر،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬نسلك‭ ‬الطريق‭ ‬ذاته‭.‬

ومن‭ ‬بين‭ ‬من‭ ‬تناولوا‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬بعمق،‭ ‬مفكرون‭ ‬تركوا‭ ‬أثرا‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة‭. ‬من‭ ‬أمثال،‭ ‬نصر‭ ‬حامد‭ ‬أبو‭ ‬زيد‭ ‬رأى‭ ‬أن‭ ‬النصوص‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬إنسانية‭ ‬تُحررها‭ ‬من‭ ‬الجمود‭ ‬الذي‭ ‬ألصق‭ ‬بها‭. ‬أما‭ ‬محمد‭ ‬أركون‭ ‬فدعا‭ ‬إلى‭ ‬اجتهاد‭ ‬يقرأ‭ ‬النصوص‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬واقعنا‭ ‬المعاصر،‭ ‬ليبقى‭ ‬الدين‭ ‬حاضرا‭ ‬بفعاليته‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬زمن‭.‬

وإذا‭ ‬عدنا‭ ‬إلى‭ ‬القرآن‭ ‬العظيم،‭ ‬وجدنا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬البعد‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬غائبا‭ ‬قط‭. ‬يقول‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭: (‬ولو‭ ‬كنت‭ ‬فظا‭ ‬غليظ‭ ‬القلب‭ ‬لانفضوا‭ ‬من‭ ‬حولك‭)‬،‭ ‬ويقول‭ ‬جل‭ ‬جلاله‭: (‬وجادلهم‭ ‬بالتي‭ ‬هي‭ ‬أحسن‭). ‬ثم‭ ‬تأتي‭ ‬الآية‭ ‬الجامعة‭: (‬وما‭ ‬أرسلناك‭ ‬إلا‭ ‬رحمة‭ ‬للعالمين‭). ‬هذه‭ ‬الآيات‭ ‬لم‭ ‬تُنزل‭ ‬للتلاوة‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬لتكون‭ ‬منهج‭ ‬يجمع‭ ‬القلوب‭ ‬ولا‭ ‬يفرقها‭.‬

حين‭ ‬يكون‭ ‬المنبر‭ ‬أمينا‭ ‬لرسالته،‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬جدار‭ ‬يصدّ‭ ‬الرياح‭ ‬التي‭ ‬تحاول‭ ‬زعزعة‭ ‬استقرار‭ ‬الأوطان‭. ‬الكلمة‭ ‬فيه‭ ‬تُجمع‭ ‬ولا‭ ‬تُفرق،‭ ‬وتقوي‭ ‬المجتمع‭ ‬وتزيده‭ ‬صلابة‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬له‭ ‬الخير‭.‬

قيمة‭ ‬الكلمة‭ ‬لا‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬تُقال‭ ‬فيه‭ ‬وحده،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬النية‭ ‬التي‭ ‬تسبقها‭. ‬والسؤال‭ ‬هنا‭: ‬لماذا‭ ‬نتحدث‭ ‬أصلا؟‭ ‬هل‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬نهدي‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬نغلب؟‭ ‬أن‭ ‬نقرب‭ ‬الناس‭ ‬منا‭ ‬أم‭ ‬نضع‭ ‬بينهم‭ ‬مسافة؟‭ ‬حين‭ ‬تصدر‭ ‬الكلمة‭ ‬بصدق،‭ ‬تصل‭ ‬بهدوء‭ ‬وتعيد‭ ‬إلى‭ ‬الإنسان‭ ‬راحته‭ ‬الداخلية‭.‬

الجوهر‭ ‬الفعلي‭ ‬للطرح‭ ‬الديني،‭ ‬أنه‭ ‬يخفف‭ ‬عن‭ ‬الناس‭ ‬ويقرّبهم‭ ‬من‭ ‬رحمة‭ ‬الله،‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬يزيدهم‭ ‬قلقا‭ ‬أو‭ ‬شعورًا‭ ‬بالذنب‭. ‬اللفظ‭ ‬الذي‭ ‬يبعث‭ ‬السلام‭ ‬يبقى‭ ‬أدوم‭ ‬حضورًا‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬خطاب‭ ‬يُراد‭ ‬به‭ ‬التفوق‭ ‬أو‭ ‬الغلبة‭. ‬المطلوب‭ ‬ليس‭ ‬أن‭ ‬تتغير‭ ‬الثوابت،‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬تُعرض‭ ‬بروحها‭ ‬الرحبة‭. ‬فالنص‭ ‬القرآني‭ ‬ثابت،‭ ‬لكن‭ ‬طريقة‭ ‬تقديمه‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تحدد‭ ‬أثره‭.‬

الرسالة‭ ‬لا‭ ‬تزداد‭ ‬قوة‭ ‬بعلو‭ ‬الصوت،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تخفف‭ ‬ثقل‭ ‬الحياة‭ ‬عن‭ ‬سامعيها‭. ‬وعندما‭ ‬يجد‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬مساحة‭ ‬أمل،‭ ‬يشعرون‭ ‬أن‭ ‬الدين‭ ‬يقف‭ ‬إلى‭ ‬جانبهم‭ ‬في‭ ‬تحدياتهم،‭ ‬لا‭ ‬بعيدا‭ ‬عنهم‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬من‭ ‬التجريد‭.‬

الخطاب‭ ‬ليس‭ ‬قولا‭ ‬عابرا؛‭ ‬هو‭ ‬مسؤولية‭ ‬تُترجم‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬المجتمع‭. ‬وحين‭ ‬يُلتزم‭ ‬بروح‭ ‬الدين،‭ ‬يصبح‭ ‬سندا‭ ‬يخفف‭ ‬الأعباء‭ ‬ويمنح‭ ‬الناس‭ ‬ثباتا‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬سريع‭ ‬التغيّر‭. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬تبرز‭ ‬أهمية‭ ‬التعاون‭ ‬بين‭ ‬المؤسسات‭ ‬الرسمية‭ ‬والدينية،‭ ‬ليبقى‭ ‬المنبر‭ ‬قوة‭ ‬توحيد‭ ‬وحماية‭ ‬للأوطان‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا