«ليس أصعب من التغيير… إلا أن تظن أنك مستعد له، ثم تكتشف أنك لم تكن كذلك».
هكذا تبدأ قصة كثير من الطلاب الذين يظنون أن أبواب الجامعة ما هي إلا امتداد طبيعي لما اعتادوا عليه في المدرسة، فإذا بهم أمام واقع جديد، يتحدث بلغة مختلفة، ويضعهم في مواجهة حقيقية مع أنفسهم، وأساليبهم في التعلم، حيث إن الانتقال من بيئة تعليمية تُطعمك المعلومة، إلى أخرى تُطالبك بالبحث عنها، هذه المرحلة لا تصيب الطالب ضعيف التحصيل فقط، بل قد تُربك حتى المتفوق ذا الدرجات العالية، لأنها لا تتعلق بالدرجات والأرقام ولا بالقدرات فقط، بل بالوعي بقواعد المرحلة الجديدة ومتطلباتها.
هذا الأمر لا يتعلق بالانتقال من مبنى إلى آخر، ولا من زي موحد إلى حرية الاختيار، بل أعمق من ذلك، تحدث في عقل الطالب قبل قلبه، يشعر بها كل من عاش سنواته الدراسية في المدرسة وهو مدلل يتلقى العلم وكأنه يُقدَّم له بملعقة من ذهب، ثم وجد نفسه فجأة في عالم مختلف تمامًا عما أعتاد عليه كل صباح وهو عالم اسمه «الجامعة»، حيث لا أحد ينتظره أمام باب المدرسة، ويقدم له تحية الصباح، عليه أن يبحث عن المعلومة بنفسه ويكتشفها، ويفهمها، حيث يتغير كل شي اعتاد عليه الطالب سنوات، إنها مرحلة الانتقال إلى بيئة تعليمية جديدة وأسلوب جديد في التعلم مبني على الاستقلالية والمسؤولية الشخصية.
ففي المدرسة، كان المعلم يتابعك خطوة بخطوة، يتفقد واجباتك، يسأل عن غيابك، يُعيد الشرح مرات ومرات، ويُبسّط لك المنهج حتى يتأكد أنك فهمت، ويمنحك نماذج مشابهة للاختبار حتى لا تكون هناك مفاجآت، كان الطالب يشعر بأن هناك من يحمله على كتفيه، ويذكره دائمًا بالاستمرار في المذاكرة، سواءً بالقول أو بالفعل، ويستدعى ولي أمره إذا اضطر الأمر إلى ذلك، وكأن النجاح هو مسؤولية مشتركة بين الطالب والمعلم وولي الأمر.
أما في الجامعة، فالأمر مختلف تمامًا، فالنجاح مسؤولية الطالب وحده، فالأستاذ الجامعي لا يسألك «أين كنت؟»، أو «لماذا تأخرت عن دخول المحاضرة»، ولا يُعاقبك إذا نسيت ولا يعطيك «مراجعة ليلة الاختبار»، لا أحد ينتظرك لتدرك ما فاتك، ولا أحد يعطيك «ملخصًا لكل شيء»، ولا يوجد من يطبطب على كتفك إذا أحسنت، أو يصفق لك إذا تفوقت، أو يعززك أمام زملائك، قد لا يعرف الأستاذ اسمك، وربما لا يميّزك وسط مئات الطلبة في مدرج القاعة الدراسية الكبير، عليك تعريف نفسك أمام الأستاذ الجامعي، فالنجاح هنا هادئ، صامت، لا يرافقه التصفيق أو التعزيز في الصف أو طابور الصباح، بل يُعلن في كشف الدرجات فقط، ولا تتضمن أي احتفالات إلا عند حفل التخرج .
الطالب الذي كان يحصل على أعلى الدرجات في المدرسة، كان يتقن النظام المدرسي بكل دقة، لكن يجد نفسه فجأة في امتحان لا يشبه ما اعتاد عليه، بأسلوب لا يعرفه، ربما يقل مستواه رغم اجتهاده، ويبدأ في طرح الأسئلة المؤلمة: «كيف حصلت على هذه الدرجة وأنا كنت من المتفوقين الأوائل في المدرسة»؟ «لماذا لم أتمكن من الإجابة رغم حضوري المنتظم للمحاضرات»؟ «يا ترى أين الخلل»؟
الخلل ليس في المعلم ولا في الأستاذ الجامعي، بل في عدم وعيه بأهمية التهيئة لهذه المرحلة مسبقًا، إنها نقله نوعية تفصل بين نمطين مختلفين من التعليم: الأول يعتمد على المذاكرة والمتابعة المكثفة، والثاني يعتمد على الاستقلالية والمسؤولية الشخصية، إن الدراسة لم تعد واجبًا منزليًّا يُكتب ويُقدم للمتعلم ويحصل على درجاته، بل أصبحت جسرًا قويًا متماسكا يبنيه هو بنفسه، وخيارًا يُحاسب عليه وحده، دون استدعاء ولي أمره.
وفي الحديث عن هذه المرحلة، لا يمكن أن نغفل الطلبة الذين يمتلكون نوعًا آخر من الذكاء لا يقل أهمية عن التفوق الدراسي، وهو «الذكاء الاجتماعي» وهو مهارة التكيّف السريع مع الآخرين، وفهم البيئة الجامعية بشكل عملي، بينما هناك نوع آخر من الطلبة قد وضع نفسه داخل دائرة ضيقة من الاجتهاد الصارم، والمذاكرة المستمرة متجنبًا الأنشطة الاجتماعية والعلاقات خارج الفصل، لم يمنح نفسه مساحة ليبني شبكة علاقات أو يطوّر مهارات التواصل والتفاعل، فحين يصل إلى الجامعة، يكتشف فجأة أن جزءًا كبيرًا من النجاح الجامعي لا يرتبط بالتحصيل الدراسي العالي فحسب، بل بالقدرة على التكيّف والانخراط مع الآخرين، فيشعر فجأة أنه متأخر، رغم تفوقه الأكاديمي السابق.
يركز الطالب في المدرسة غالبًا على الجانب الأكاديمي المباشر، مثل الحفظ والإجابات النموذجية، متناسيًا امتلاكه مهارات أخرى لا تظهر في تلك المساحة، مثل المبادرة، والتفاعل، وسرعة التكيّف، والقدرة على التعبير والتواصل الاجتماعي.. إلخ. والتي تظهر بشكل تلقائي عند الالتحاق ببيئة الجامعة لبعض الطلبة، مما يمنحهم حضورًا لافتًا، وهنا لا يكون التفوق قد غاب، بل أصبح يحتاج إلى مهارات كي يبرز بطريقة مختلفة.
ونحن إذ نطرح هذا الحديث، لا نقلل من أهمية التحصيل الدراسي العالي، بل نؤمن أن النجاح الحقيقي هو توازن بين المهارة والمعرفة العلمية. التفوق مهم، والدرجات العالية تستحق التقدير، نحن نثمّن نجاح كل طالب مجتهد يحقق التميّز، ولكن في المقابل يجب أن نُهيئ طلابنا نفسيًا لقبول التفاوت والاختلاف في هذه المرحلة الجديدة، وأن نُدرّبهم على تقبُّل النتائج الواقعية لا المثالية، حتى لا يُصدموا بالواقع إذا تراجعت نتائجهم قليلاً. عليهم أن يدركوا أن الدرجة العالية ليست دائمًا مقياس الفهم الحقيقي، وأن النجاح لا يُقاس فقط بالأرقام، بل بالاستمرار في التعلم، والإصرار على النهوض بعد كل تجربة.
إذن كيف نحمي هؤلاء الطلبة في هذه المرحلة؟ الجواب: هو تكامل الأدوار بين المدرسة والجامعة، فكلتاهما شريكتان في صناعة نضج ووعي الطالب.
فالمدرسة تبدأ بزرع بذور الاستقلالية للطالب وتعويده على التعلم الذاتي، وتشجيعه على التجربة وتحمل المسؤولية، وتقديم أنشطة ومواقف تعليمية تحاكي طبيعة الحياة الجامعية، كما تهيئه نفسيًا لما هو قادم من خلال تدريبه على تقبل التغيير. بينما يأتي دور الجامعة مكملًا لهذا الدور بتقديم التهيئة للطلبة الجدد، وتكون شاملة التعريف بالمرافق والأنظمة الأكاديمية والخطط الدراسية، بالإضافة إلى تقديم الدعم النفسي والاجتماعي ليساعده على التكيف التدريجي مع الواقع الجامعي، هنا قد تحقق التوازن عندما التقى وعي المعلم في المدرسة مع حكمة الأستاذ في الجامعة، وجنبنا الطالب السقوط في فجوة المفاجأة، وصنعنا جسرًا متينًا ليصبح عبوره أكثر هدوءًا واتزانًا لحياةٍ جامعيةٍ ناجحةٍ.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك