منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023 واجهت الحكومة البريطانية اتهامات متزايدة بالتواطؤ في جرائم حرب، وبتوفير غطاء سياسي وعسكري لحملة عسكرية وصفتها جهات حقوقية ودولية بالإبادة الجماعية. وبينما واصلت حكومات داونينغ ستريت -سواء بقيادة المحافظين أو العمال- دعمها غير المشروط لإسرائيل، تصاعدت الدعوات داخل بريطانيا وخارجها لمحاسبة لندن على هذا الدور.
وفي هذا السياق أعلن النائب المستقل جيريمي كوربين عقد «محكمة غزة» في سبتمبر 2025، لمحاولة كشف الحقيقة وتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني، في ظل تقاعس المؤسسات الرسمية البريطانية عن فتح أي تحقيق جدي في الموضوع.
منذ أكتوبر 2023، لم تكتفِ الحكومات البريطانية المتعاقبة في داونينغ ستريت -بدءًا بحكومة المحافظين بقيادة ريشي سوناك، ثم حكومة حزب العمال بقيادة السير كير ستارمر- بتمكين ائتلاف بنيامين نتنياهو المتطرف من تنفيذ حملة تدمير شاملة ضد غزة، شملت التطهير العرقي والإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، بل سعت أيضًا إلى إخفاء مدى تواطئها في سلسلة جرائم الحرب التي ارتُكبت.
إن التحول المتأخر في السياسة البريطانية خلال صيف عام 2025 -المتمثل في فرض بعض العقوبات على وزراء الحكومة الإسرائيلية والاعتراف المشروط بدولة فلسطينية في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة المقبلة في سبتمبر- لا يمكنه التغطية على واقع أن وستمنستر سمحت بمذبحة المدنيين من دون رادع، من خلال عرقلة قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة التي تدعو إلى وقف إطلاق النار. كما أنه لا يمحو حقيقة أن الحكومة البريطانية لا تزال تسهم في استمرار المعاناة من خلال مواصلة نقل الأسلحة إلى إسرائيل ورفض اتخاذ تدابير أقوى وأكثر حسمًا لمحاسبة نتنياهو وشركائه المتواطئين.
وفي ظل رفض وزارة الخارجية البريطانية نشر تقييماتها الداخلية حول ما إذا كانت أفعال إسرائيل ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، واستمرار حكومة ستارمر في إحباط محاولات نواب البرلمان البريطاني للحصول على إجابات بشأن مدى تورط بريطانيا تاريخيًا وحاليًا في حرب إسرائيل على غزة، أعلن جيريمي كوربين، أن المحكمة تهدف إلى تحديد «الدور الحقيقي لبريطانيا في جرائم الحرب المرتكبة في غزة».
وستتضمن المحكمة شهادات من سكان غزة وأكاديميين ومحامين وخبراء في حقوق الإنسان، من بينهم المقررة الخاصة للأمم المتحدة للأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، في مسعى من النواب المخضرمين لـ«الكشف عن النطاق الكامل لتواطؤ بريطانيا في الإبادة الجماعية» و«تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني».
إن التعنت البريطاني تجاه التحرك الدولي ضد الجرائم الموثقة التي ارتكبتها إسرائيل في غزة -الذي كان سمة لحكومة ريشي سوناك حتى يوليو 2024- استمر كذلك في ظل حكومة كير ستارمر العمالية؛ ففي حين كانت وزارة الخارجية في عهد سوناك تدّعي أنها غير قادرة على تحديد ما إذا كانت إسرائيل قد انتهكت القانون الدولي بقصف المدنيين، فإن التصريحات القوية التي أدلى بها ديفيد لامي كوزير للخارجية لاحقًا، التي أدانت أفعال إسرائيل إلى جانب دول غربية أخرى، لم تُخفِ حقيقة أنه فشل في إصدار تقييم رسمي لما جرى، وهو تقييم قد يُثبت وقوع إبادة جماعية، ويقلب عقودًا من السياسات البريطانية تجاه إسرائيل.
وفي يوليو 2025 صرّح وزير شؤون الشرق الأوسط في الحكومة الحالية هاميش فالكونر بأنه رغم فحص 412 حادثة لم تتمكن وزارة الخارجية من التوصل إلى قرار بشأن ما إذا كانت إسرائيل قد ارتكبت جرائم حرب، بحجة «عدم وجود أدلة كافية يمكن التحقق منها».
وعلاوة على ذلك، وبينما أفيد بأن وزير الخارجية الأسبق ديفيد كاميرون هدد المحكمة الجنائية الدولية بالانسحاب البريطاني منها في أبريل 2024 إذا أصدرت مذكرات توقيف دولية بحق نتنياهو ووزير دفاعه آنذاك يوآف غالانت، لم يقدم ديفيد لامي سوى تأكيدات فاترة بأن الحكومة البريطانية ستمتثل لأمر المحكمة الصادر في نوفمبر 2024، من دون أن يُدلي بأي تصريح علني يدافع فيه عن دور المحكمة في تحقيق العدالة الدولية. يأتي هذا في وقت أوضحت فيه حكومات أوروبية، أبرزها ألمانيا، أنها لن تمتثل لهذا القرار.
ومع فشل أسئلة النواب الموجهة إلى وزراء الحكومة في مجلس العموم واللجان المختارة مثل لجنة الشؤون الخارجية في الكشف عن مدى تورط بريطانيا في الحرب، قاد كوربين جهودًا لإطلاق تحقيق عام رسمي، على غرار تحقيق تشيلكوت الذي استعرض دور المملكة المتحدة في حرب العراق، وخلص إلى أن قرار حكومة توني بلير بمساعدة الولايات المتحدة في الإطاحة بصدام حسين استند إلى «معلومات استخباراتية وتقييمات خاطئة».
فمنذ دعوته الأولى إلى تحقيق رسمي في مارس 2025، قدم كوربين مشروع قانون خاص بعنوان «مشروع قانون التحقيق العام المستقل» إلى مجلس العموم في 4 يونيو، وقد أُقر في قراءته الأولى. وذكرت ميغان كينيون المحررة المساعدة في صحيفة نيو ستيتسمان أن هذا المشروع «هدد بإحراج» حكومة ستارمر إذا ما صوت عدد كافٍ من نواب حزب العمال لصالحه. لكن، لاحقًا منع داونينغ ستريت المشروع من المضي قدمًا في القراءة الثانية في 4 يوليو.
ورغم ذلك، من اللافت أن مشروع القانون حظي بدعم 50 نائبًا من حزب العمال والحزب الوطني الاسكتلندي، من بينهم النائب العمالي برايان ليشمان عن دائرة ألوا وغرانجماوث في اسكتلندا، الذي صرّح بأن «الشعب البريطاني يستحق ويحتاج إلى معرفة دور بلدنا في محاولة الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني على يد هذه الحكومة الإسرائيلية البغيضة».
في السياق ذاته، رفضت 22 منظمة حقوقية زعم وزراء الحكومة -مثل فالكونر- بأن التحقيق غير ضروري، وأعلنت دعمها العلني للمساءلة في وستمنستر. وقد أكدت منظمة أكشن إيد أن «الوقت أصبح أكثر إلحاحًا للتأكد مما إذا كانت المملكة المتحدة قد أسهمت في انتهاكات للقانون الإنساني الدولي، من خلال التعاون الاقتصادي أو السياسي مع الحكومة الإسرائيلية منذ أكتوبر 2023».
وتوقعًا لإمكانية عرقلة الحكومة البريطانية لهذه الدعوات، أفاد باتريك وينتور من صحيفة الجارديان في يوليو بأن منتقدي الحكومة كانوا يخططون بالفعل لإقامة محكمتهم الخاصة. وبالفعل، ستُعقد «محكمة غزة» في أوائل سبتمبر بدار الكنيسة في وستمنستر، تحت راية مشروع السلام والعدالة. وقد أكد كوربين أن «وزراء الحكومة يبذلون قصارى جهدهم لإخفاء الحقيقة -كما فعلوا في العراق- لكنهم لن ينجحوا هذه المرة، كما لم ينجحوا سابقًا».
وستركّز المحكمة على أربعة محاور رئيسية: الأثر الإنساني لحملة التدمير الإسرائيلية ضد غزة؛ المسؤوليات القانونية للحكومة البريطانية بموجب القانون الدولي والمحلي؛ دعم الجيش البريطاني لإسرائيل؛ ومدى التزام حكومتي سوناك وستارمر بالقانون الدولي.
وفيما يتعلق بالمساعدة العسكرية البريطانية المباشرة لإسرائيل منذ أكتوبر 2023، كشف تقرير صادر عن اللجنة البريطانية الفلسطينية في يناير 2025 أن الحكومة البريطانية لعبت «دورًا مؤثرًا» في جرائم الحرب الإسرائيلية، ليس فقط من خلال المصادقة على تراخيص تصدير الأسلحة، بل أيضًا عبر تعاون عسكري أوسع وأعمق. تضمن ذلك قيام سلاح الجو الملكي البريطاني بطلعات استخباراتية جوية من قاعدة أكروتيري في قبرص.
وأضاف وينتور أن هناك «ما لا يقل عن 538» طلعة جوية نفذها سلاح الجو الملكي البريطاني فوق شرق البحر الأبيض المتوسط -بما في ذلك فوق غزة- منذ أكتوبر 2023. وتدعي الحكومة أن هذه الرحلات كانت تهدف فقط إلى تحديد مواقع الرهائن المحتجزين لدى حماس.
أما بشأن مبيعات الأسلحة البريطانية لإسرائيل، فعلى الرغم من تعليق ديفيد لامي 30 ترخيصًا لتصدير الأسلحة في سبتمبر 2024، بعد ضغوط مكثفة، واصلت بريطانيا -وفقًا لوينتور- نقل «آلاف المعدات العسكرية، بما في ذلك الذخائر» إلى إسرائيل. ولم تتخذ وستمنستر بعد قرارًا مماثلًا لقرار ألمانيا القاضي بوقف جميع صادرات الأسلحة التي يمكن استخدامها في غزة. واعتبرت مديرة منظمة هيومن رايتس ووتش ياسمين أحمد أن «أي إجراء أقل من حظر شامل للأسلحة» على إسرائيل «لن يكون كافيًا للوفاء بالتزامات بريطانيا القانونية في منع ارتكاب جرائم حرب، بما في ذلك الإبادة الجماعية».
كما يسعى كوربين أيضًا إلى كشف تفاصيل إضافية عن اتفاقية التعاون العسكري الموقّعة بين حكومتي المملكة المتحدة وإسرائيل في ديسمبر 2020. وفي مارس 2025 أفادت منظمة «ديكلاسيفايد يو كيه» بأن الجنرال السير نيك كارتر، رئيس أركان الدفاع البريطاني السابق الذي وقع على الاتفاقية، يعمل حاليًا «مستشارًا لشركات أسلحة إسرائيلية» من خلال دوره في شركة الخدمات المالية «إكسيجينت كابيتال» ومقرها القدس.
وأثار هذا الكشف ردود فعل غاضبة، حيث قال كريس دويل مدير مجلس التفاهم العربي البريطاني إن هناك «أسئلة جدية» حول مسؤولين دفاعيين سابقين يعملون مع شركات سلاح في دول ذات سجل حافل بانتهاكات جسيمة للقانون الدولي. بدورها، قالت الدكتورة سارة الحسيني مديرة اللجنة البريطانية الفلسطينية إن هذه الوقائع «تُجسّد مدى عمق الروابط بين الدولة البريطانية وصناعة الأسلحة الإسرائيلية».
ومن المقرر أن تستضيف المحكمة، التي ينظمها مشروع السلام والعدالة في سبتمبر، العديد من الخبراء البارزين الذين سيدلون بشهاداتهم حول الدور البريطاني الحقيقي في تدمير غزة. وقد أكد كوربين أن فرانشيسكا ألبانيز «حريصة جدًا على المشاركة». وفي تقرير خاص قدمته الخبيرة الإيطالية إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في يونيو 2025، ذكرت أن شركات دفاع بريطانية مثل بي أيه إي سيستمز ومؤسسات مالية مثل بنك باركليز قد استفادت ماليًا من القمع ومقتل المدنيين الفلسطينيين، ما يسلّط الضوء على مدى تورط الشركات والبنوك البريطانية في معاناة ملايين الفلسطينيين.
وفي ظل غياب مساءلة حكومية حقيقية، تأتي «محكمة غزة» كمبادرة مدنية وسياسية تهدف إلى كشف حقيقة الدور البريطاني في حرب إسرائيل على غزة، وإثارة نقاش عام واسع حول مدى احترام لندن لالتزاماتها القانونية والأخلاقية. وبينما تسعى هذه المحكمة إلى ملء الفراغ الذي خلّفه فشل البرلمان والحكومة في التحقيق الجاد، فإن شهادات الخبراء والضحايا قد تشكل خطوة أولى نحو تحميل المسؤولية لمن سهّل أو تجاهل الانتهاكات، وإعادة توجيه السياسة البريطانية نحو احترام القانون الدولي وحقوق الإنسان.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك