لم تعد التَّرجمة مجرَّد جسر لغويّ، بل صارت ساحة صراع بين الإنسان والآلة، حيث تفرض تطبيقات الذَّكاء الاصطناعيِّ حضورها الطَّاغي بسرعتها وقدرتها على كسر الحواجز الفوريَّة بين اللُّغات، لكنَّها عند أوَّل تعبير ثقافيّ أو طرفة محلِّيَّة تكشف حدودها، لتعيد المترجم البشريَّ إلى الواجهة كصوت قادر على التقاط روح النَّصِّ وحماية المعنى من الانزلاق إلى حرفيَّة باردة، وهنا يتحدَّد مستقبل المهنة: هل نعيش نهاية المترجم أمِّ ولادة دور جديد يعيد صياغة العلاقة بين التِّقنيَّة والإبداع؟
المتابع لما ينشر في الدَّوريَّات العلميَّة العالميَّة يلحظ أنَّ التَّرجمة بالذَّكاء الاصطناعيِّ أصبحت حديث السَّاعة. لم يعد الأمر مقتصرًا على محرِّكات بسيطة كما عرفناها قبل سنوات، بل تطوَّرت النَّماذج اللُّغويَّة حتَّى صارت قادرةً على تقديم نصوص دقيقة في مجالات علميَّة وتقنيَّة. ومع ذلك، يظلّ الخطر كامنًا في الجانب الثَّقافيِّ والدَّلاليِّ للنُّصوص، حيث لا تزال الآلة عاجزةً عن التقاط الإيحاءات والسِّياقات الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة الدَّقيقة، الأمر الَّذي يعيدنا إلى أهمِّيَّة المترجم البشرى كضامن لمعنى النَّصِّ وروحه.
الصِّيغة الَّتي فرضت نفسها هي الدَّمج بين الإنسان والآلة. الذَّكاء الاصطناعيُّ يكتب المسوَّدة الأولى، ثمَّ يعيد المترجم صياغتها وضبطها بما يتناسب مع السِّياق الثَّقافيِّ واللُّغويِّ. هذا النَّموذج المعروف باسم «ما بعد التَّحرير» أصبح الاتِّجاه الأكثر شيوعًا في دور النَّشر والمواقع الكبرى. ورغم أنَّه يوفِّر السُّرعة ويخفِّض التَّكاليف، فإنَّه يثير مخاوف مشروعةً من تراجع مكانة المترجم وتحوُّله إلى مدقِّق لغويّ فقط.
من اللَّافت أنَّ المؤسَّسات الكبرى في العالم الغربيِّ بدأت تعتمد هذه الأدوات لتقليل التَّكلفة وتسريع وتيرة العمل. دور النَّشر العالميَّة تستعين بالتَّرجمة الآليَّة في المراحل الأولى، ثمَّ تسند المراجعة إلى مترجمين متخصِّصين. هذه الظَّاهرة انتقلت سريعًا إلى المجال الأكاديميِّ، حيث صار بعض الطُّلَّاب يعتمدون على الذَّكاء الاصطناعيِّ في إعداد ملخَّصاتهم أو ترجمة مراجعهم. وهنا تكمن خطورةً حقيقيَّةً على تكوين الجيل الجديد من الباحثين الَّذين قد يفقدون مهارة التَّرجمة النَّقديَّة والتَّحليليَّة إذا ما استسلموا تمامًا للآلة.
إلى جانب ذلك، تتَّسع التَّرجمة اليوم لتشمل وسائط متعدِّدةً. الأفلام والمسلسلات والألعاب الإلكترونيَّة صارت تعتمد على الدَّبلجة والتَّرجمة النَّصِّيَّة والتَّعليق الصَّوتيِّ. المنصَّات الرَّقميَّة مثل «نتفليكس» و«يوتيوب» خلقت سوقًا ضخمةً جعلت الجمهور أكثر وعيًا بجودة التَّرجمة وأكثر حساسية لأيِّ خطأ. لم يعد المشاهد يتسامح مع نصوص رديئة، بل بات ينتقدها علنًا على منصَّات التَّواصل، الأمر الَّذي يضع المترجمين تحت ضغط إضافيّ للحفاظ على سمعة العمل ومصداقيَّته.
في العالم العربيِّ، تبدو الصُّورة أكثر تعقيدًا. نحن في أمس الحاجة إلى التَّرجمة كجسر للمعرفة ونقل العلوم، لكنَّنا لم ننجح بعد في بناء صناعة ترجمة مؤسَّسيَّة قويَّة. دخول الذَّكاء الاصطناعيِّ قد يشكِّل فرصةً تاريخيَّةً لتسريع نقل المعرفة إذا أحسنَّا استثماره. لكنَّه قد يتحوَّل إلى تهديد إذا اعتمدنا عليه بلا ضوابط، خصوصًا أنَّ اللُّغة العربيَّة تحمل خصوصيَّات دلاليَّةً وبلاغيَّةً تجعلها عرضةً للتَّشويه إذا ما ترك الأمر للآلة وحدها.
الأكثر إثارةً للجدل هو دخول الذَّكاء الاصطناعيِّ إلى ميدان الأدب. بعض الشَّركات تروِّج اليوم لخدمات ترجمة شعريَّة وروائيَّة إليه تعد بالسُّرعة وانخفاض التَّكلفة، لكن سرعان ما يتكشَّف عجزها عن ملامسة جوهر النُّصوص، فالأدب ليس معادلةً حسابيَّةً بل تجربةً إنسانيَّةً تحمل إيقاعًا داخليًّا وذاكرة جماعيَّة وحسًّا فنِّيًّا لا يمكن تقليده، ولهذا يستحيل على الخوارزميَّات أن تلتقط التَّوتُّر بين الحلم والفقد في قصيدة الشَّاعر الفلسطينيِّ محمود درويش أو أن تدرك أنَّ السُّخرية عند الأديب المصريِّ يوسف إدريس وسيلةً لفضح القهر الاجتماعيِّ، كما تبدو الفجوة أوضح حين ننظر إلى التَّجربة البحرينيَّة حيث يكتب الأديب البحرينيُّ أمين صالح بأسلوب تجريبيّ يمزج الحلم بالواقع ويصوغ الشَّاعر البحرينيُّ قاسم حداد شعرًا قائمًا على الرَّمز والموسيقى الدَّاخليَّة، فكيف يمكن لآلة أنَّ تنقُّل هذا التَّدفُّق الشُّعوريِّ أو تحفُّظ الإيقاع الخفيِّ؟ المسألة إذن ليست مجرَّد دقَّة لغويَّة، بل قدرةً على بناء جسر للرُّوح قبل الكلمات، وهو ما يجعل المترجم البشريُّ بخبرته وحساسيته الثَّقافيَّة عنصرًا لا غنًى عنه، حتَّى وإن استعان بالتِّقنيَّات الذَّكيَّة كأدوات مساعدة لا بدائل.
الرَّأي الَّذي أميل إليه أن هذه الموجة ليست إعلان وفاة للمترجم البشرى، بل دعوةً لإعادة تعريف دوره. المترجم لم يعد مجرَّد ناقل كلمات، بل أصبح وسيطًا ثقافيًّا ومراجعًا دلاليًّا ومحرِّرًا للنُّصوص الآليَّة. التَّحدِّي الأكبر أمام كلِّيَّات التَّرجمة هو أن تدمج التَّدريب على أدوات الذَّكاء الاصطناعيِّ ضمن مناهجها، حتَّى لا يجد الخرِّيج نفسه خارج اللُّعبة. أمَّا الجامعات العربيَّة الَّتي لا تزال تدرس التَّرجمة بالطَّريقة التَّقليديَّة، فهي تسير نحو اتِّساع الفجوة مع سوق العمل.
التَّرجمة كانت ولا تزال رسالة حضاريَّة. الذَّكاء الاصطناعيُّ ليس قدرًا محتومًا، بل أداةً يمكن أن تتحوَّل إلى قوَّة داعمة للهويَّة الثَّقافيَّة العربيَّة، إذا ما وجَّه بوعي واستراتيجيَّة، أو تهديدًا لها إذا ترك بلا ضابط. المهمَّ ألَّا نقع في فخِّ الإبهار، وألَّا نسلِّم مستقبلنا الثَّقافيُّ لآلة مهمًّا تعاظمت سطوتها. فاللُّغة كائن حيّ، والثَّقافة شبكةً معقَّدةً من الرُّموز، وهذه الأبعاد لا يدركها إلَّا الإنسان. أمَّا الآلة فستظلُّ بحاجة إلى عين بشريَّة تقرأ وتمحِّص وتعيد صياغة المعنى بما يناسب روح النَّصِّ.
إنَّ الرِّهان الحقيقيَّ ليس على رفض التِّقنيَّة ولا على التَّسليم لها بالكامل، بل على صياغة علاقة صحِّيَّة معها. علاقة تجعل من المترجم شريكًا للآلة لا تابعًا لها، ومن الجامعات مراكز لإنتاج معرفة قادرة على المنافسة لا مجرَّد قاعات لتلقين نظريَّات قديمة. عندها فقط يمكن أن نقول إنَّنا دخلنا عصر التَّرجمة الذَّكيَّة دون أن نفقد إنسانيَّتنا ولا هويَّتنا الثَّقافيَّة العربيَّة.
{ أستاذ اللُّغويَّات والتَّرجمة – زميل أكاديميَّة التَّعليم العالي البريطانيَّة المتقدِّمة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك