شاركت المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، أو ما يُعرف بالترويكا الأوروبية، في توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015، إلى جانب كل من إيران والولايات المتحدة والصين وروسيا. ومع ذلك، فقد وجدت هذه الدول نفسها مهمشة مرارًا وتكرارًا خلال المحاولات المتعددة لإحياء المسار الدبلوماسي بشأن مستقبل البرنامج النووي الإيراني، ولا سيما عقب انسحاب واشنطن الأحادي من الاتفاق في عام 2018.
وفي هذا السياق، كتب الباحث مارك مارتوريل جونينت، في مركز ستيمسون، أن الدبلوماسيين الأوروبيين لعبوا «دورًا ثانويًا للغاية» خلال جهود إدارة جو بايدن السابقة لإعادة إحياء الاتفاق. كما أن الدور الأوروبي لم يتغير كثيرًا مع استئناف إدارة ترامب مفاوضاتها في ربيع 2025، إذ بدا أن تأثير العواصم الأوروبية لا يزال محدودًا. ومن هنا، لم يكن غريبًا غياب لندن وباريس وبرلين عن التخطيط للحملة الجوية الأمريكية الإسرائيلية المشتركة ضد المنشآت النووية الإيرانية التي انطلقت في 13 يونيو.
ورغم هذا التهميش، لا يزال النفوذ الأوروبي قائمًا بفضل عضوية كل من المملكة المتحدة وفرنسا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وكون الترويكا الأوروبية أطرافًا موقعة على الاتفاق النووي. هذا الوضع أتاح لها تفعيل آلية العقوبات السريعة، أو ما يعرف بـالعقوبات الارتدادية «سناب باك»، في حال عدم امتثال إيران لشروط الاتفاق النووي لعام 2015. ومع اقتراب المهلة التي حددتها الترويكا في أكتوبر 2025، بدأت الدول الثلاث بالفعل باتخاذ خطوات فعلية لإعادة تفعيل هذه الآلية، ما يعني العودة إلى العقوبات التي كانت مفروضة قبل توقيع الاتفاق.
وفي يوليو، دعت إيلي جيرانمايه، بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إلى استخدام الترويكا الأوروبية لآلية «كبح الزناد»، أو ما يُعرف بـ«سناب باك»، باعتبارها وسيلة لـ«تهيئة الظروف لحل دبلوماسي». بالمقابل، حذر باتريك وينتور من صحيفة الجارديان من أن هذه الخطوة قد «تشعل أسوأ أزمة في العلاقات بين إيران والغرب» منذ التصعيد العسكري في يونيو.
من جانبها، رأت تريتا بارسي، بمعهد كوينسي للحكم الرشيد، أن هذه التحركات الأوروبية جعلت احتمال نشوب حرب مع إيران «أكثر واقعية»، ولا سيما من خلال توفير «غطاء سياسي مبرر» لحكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة، يمنحها «قدرًا من الشرعية» لشن هجمات جديدة على المنشآت الإيرانية.
وفي عام 2015، وافقت الولايات المتحدة والأمم المتحدة والدول الأوروبية الثلاث على رفع العقوبات النووية المفروضة على إيران، لكن البرنامج النووي الإيراني شهد تسارعًا لافتًا منذ انسحاب ترامب. وبحسب تقرير صادر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية في مايو 2025، فإن إيران تملك أكثر من 400 كيلوجرام من اليورانيوم المخصب بنسبة تصل إلى 60%، بزيادة تتجاوز 133 كيلوجرامًا مقارنة بتقرير فبراير، وهو ما يتجاوز بكثير الحد المتفق عليه البالغ 3.67%.
وعقب الحملة الجوية الأمريكية الإسرائيلية بين 13 و24 يونيو، أفادت فاينانشال تايمز بأن الدول الأوروبية كانت «مستعدة لتمديد» المهلة النهائية لإعادة فرض العقوبات، بشرط امتثال طهران لشروط محددة. وأكدت الجارديان أن هذه الشروط شملت: إعادة استقبال مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشكل كامل، والكشف عن مصير نحو 400 كيلوجرام من اليورانيوم عالي التخصيب الذي فُقد أثره بعد الهجمات الإسرائيلية في يونيو.
لكن مع فشل المفاوضات الأخيرة في جنيف بين الإيرانيين والدبلوماسيين الأوروبيين، أخطرت كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا مجلس الأمن رسميًا، في 28 أغسطس 2025، بأن إيران لم تلتزم بالاتفاق، ما فعّل آليًا مهلة مدتها 30 يومًا قد تُفضي إلى إصدار قرار دولي جديد، رغم أن احتمالية تمريره ضعيفة، ما يعني إعادة تلقائية للعقوبات بانتهاء المهلة.
وأوضحت ستيفاني ليختشتاينر من الإندبندنت أن قرار الترويكا الأوروبية يعود لسببين رئيسيين: أولًا، اقتراب 18 أكتوبر 2025، الموعد الذي بعده يمكن لروسيا أو الصين استخدام الفيتو لمنع إعادة العقوبات؛ وثانيًا، سعي أوروبا لتفعيل آلية «سناب باك» خلال فترة تولي كوريا الجنوبية رئاسة المجلس، قبل أن تنتقل الرئاسة إلى روسيا في سبتمبر، وهو ما قد يتيح لموسكو استخدام «تكتيكات مماطلة إجرائية» حتى انتهاء الاتفاق فعليًا.
إلى جانب ذلك، تؤثر الولايات المتحدة بشكل واضح في قرارات الترويكا. فبالرغم من أن انسحاب واشنطن عام 2018 حرمها من تفعيل «سناب باك» قانونيًا، فإن الاتفاق السياسي بين الأوروبيين والولايات المتحدة في يونيو على مبدأ «صفر تخصيب» لإيران غيّر المشهد. وفي يوليو 2025، أبلغ وزراء خارجية بريطانيا وفرنسا وألمانيا نظيرهم الأمريكي ماركو روبيو نيتهم تفعيل الآلية قبل نهاية أغسطس.
ونقل باراك رافيد من موقع أكسيوس أن نتنياهو طلب من ترامب عدم التدخل لعرقلة هذا التحرك. ووفق تحليل بارسي، فإن الدول الأوروبية، التي تسعى للتأثير على إدارة ترامب في ملفات مثل أوكرانيا وغزة، ترى أن الحفاظ على «علاقات قوية مع الولايات المتحدة» أهم بكثير من محاولة التعاون مع إيران لتأجيل العقوبات.
في سياق الحديث عن طبيعة العقوبات الارتدادية ومدى تأثيرها المحتمل على النظام الإيراني، أفادت كارين دي يونغ، بواشنطن بوست، بأن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يعتزم إصدار أمر جديد لإيران يطالبها بوقف تخصيب اليورانيوم، إلى جانب فرض حظر على الأسلحة التقليدية، وتقييد تطوير برنامج الصواريخ الباليستية، فضلاً عن تجميد أصول المسؤولين الإيرانيين ومنعهم من السفر.
وفي هذا الصدد، أشارت بارسي إلى أن الاقتصاد الإيراني «الهش أصلاً» مرشح للتدهور بشكل أكبر نتيجة هذه الإجراءات، التي ستلقي بظلال ثقيلة على الداخل الإيراني وكذلك على علاقاته الإقليمية والدولية.
من جانبه، وصف علي فايز، بمجموعة الأزمات الدولية، مطالب الترويكا الأوروبية بأنها «مهمة شاقة» بالنسبة إلى النظام الإيراني، مشيرًا إلى أن التوتر المتصاعد بين طهران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وغياب الثقة المتبادلة، يفاقمان من صعوبة الاستجابة لهذه المطالب. كما حذّر فايز من أن الامتثال الكامل قد يعني «وضع قدرة إيران النووية المتبقية تحت التهديد المباشر»، إلى جانب فقدان طهران ما أسماه «النفوذ المستمد من حالة الغموض النووي»، وذلك فقط مقابل وقف مؤقت للعقوبات الارتدادية.
وفي ظل إعلان الترويكا الأوروبية نيتها تفعيل هذه العقوبات منذ عدة أسابيع، أشار وينتور إلى أن إيران شرعت بالفعل في التحضير لتدابير مضادة. ووفقًا لـ«ليختشتاينر»، فإن من بين تلك الإجراءات تهديد طهران المحتمل بـ«الانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية».
وفي سياق متصل، لفتت جيرانمايه، بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إلى أن مصداقية المعاهدة قد تضررت بشدة عقب الهجمات الإسرائيلية والأمريكية على منشآت نووية إيرانية كانت خاضعة لإشراف الوكالة الدولية، وهو ما دفع طهران إلى تعليق تعاونها مع الوكالة، متهمة إياها بتسريب معلومات أدت إلى تلك الهجمات.
وفي ذات السياق، أوضحت داريا دولزيكوفا، بالمعهد الملكي للخدمات المتحدة، أن البرلمان الإيراني أقرّ في يوليو تشريعًا جديدًا يشترط استئناف التعاون مع الوكالة الدولية فقط في حال تقديم «ضمانات لسيادة إيران وسلامة أراضيها»، بما في ذلك حماية منشآتها النووية وعلمائها.
لكن في حال مضت إيران نحو تفعيل المادة العاشرة من معاهدة عدم الانتشار، حذّر كل من مارك جودمان، الزميل في مركز جيمس مارتن، ومارك فيتزباتريك، من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، من أن المجتمع الدولي لن يتمكن من اتخاذ «ردود جماعية فعالة»، باستثناء «نداءات غير مُجدية» قد تصدر بالأساس عن الترويكا الأوروبية.
ومع تفعيل «آلية الإعادة القسرية»، أورد وينتور أن دول الترويكا لا تزال تأمل أن يؤدي الإخطار الرسمي لمجلس الأمن إلى «تنازلات إيرانية واستئناف القنوات الدبلوماسية». غير أن المطالب الأوروبية تظل متمسكة بثلاثة شروط رئيسية: السماح الكامل لمفتشي الوكالة الدولية بالوصول إلى المواقع النووية، والكشف عن مصير مخزون اليورانيوم المخصب، واستئناف المفاوضات مع الولايات المتحدة. وقد وصفها فايز بأنها «ثلاثة خيوط في نفس العقدة»، مشددًا على أن حل أي منها يتطلب توافقًا على جميعها.
ورغم إعلان رافائيل غروسي، المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، خلال اجتماعات في واشنطن مع وزير الخارجية ماركو روبيو وكبير مفاوضي ترامب ستيف ويتكوف، أن واشنطن «لا تزال منفتحة» على المحادثات إذا أفضت إلى نتائج ملموسة، أكدت كارين دي يونغ أن البيت الأبيض لم يُبدِ أي رغبة لاحقًا في متابعة الجهود الدبلوماسية، بالرغم من خمس جولات تفاوض سبقت الغارات الإسرائيلية في 13 يونيو.
وفيما يخص موقف الترويكا الأوروبية، صرح الدكتور حميد رضا عزيزي، بالمعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، أن الدول الثلاث تشترط «شفافية كاملة» من طهران حول مواقعها النووية، باعتبار ذلك شرطًا لبحث تمديد المهلة قبل فرض العقوبات.
كما حذّرت بارسي من أن العودة إلى المفاوضات في وقت يُتوقع فيه الفشل «يُمهّد لهجمات عسكرية»، لافتًا إلى أن إدراج مطلب وقف التخصيب ضمن قرار صادر عن مجلس الأمن يعني تحويله إلى بند في القانون الدولي، وهو ما سيمنح إسرائيل والولايات المتحدة غطاءً قانونيًا لأي تصعيد. وفي السياق ذاته، تساءل عزيزي عن مدى احتمالية شن إسرائيل هجومًا جديدًا إذا ما عادت إيران للتخصيب على نطاق واسع، أو ظهرت بوادر تسلّح.
ختامًا، رأت جيرانمايه أن استمرار الجمود سيمنح إسرائيل ورقة جديدة لإقناع ترامب بتصعيد الهجمات، ما قد يدفع إيران إلى تطوير منشآت سرية ومحصّنة خارج رقابة الوكالة الدولية. أما فايز، فرجّح أن العقوبات الارتدادية قد لا تفضي لاختراق دبلوماسي حقيقي، في حين تتوقع بارسي أن تتجه الأمور نحو تصعيد جديد يتمثل بمزيد من الهجمات الإسرائيلية في الأشهر المقبلة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك