العدد : ١٧٤٠٧ - الأربعاء ١٩ نوفمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٨ جمادى الاول ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٤٠٧ - الأربعاء ١٩ نوفمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٨ جمادى الاول ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

بمناسبة اليوم الدولي للعمل الخيري..
حين يتسع الخير في البحرين بالتكاتف

بقلم: نبيلة رجب

الخميس ٠٤ سبتمبر ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬5‭ ‬سبتمبر‭ ‬يحتفل‭ ‬العالم‭ ‬باليوم‭ ‬الدولي‭ ‬للعمل‭ ‬الخيري‭. ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬تتجدد‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬التأمل‭ ‬في‭ ‬معنى‭ ‬الخير،‭ ‬وكيفية‭ ‬تجسيده‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭. ‬لكن‭ ‬حين‭ ‬أنظر‭ ‬حولي،‭ ‬أجد‭ ‬أن‭ ‬بلدنا،‭ ‬بفضل‭ ‬الله،‭ ‬تعيش‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬كل‭ ‬يوم؛‭ ‬فالخير‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬ينتظر‭ ‬موعدا‭ ‬على‭ ‬التقويم،‭ ‬لأنه‭ ‬يسكن‭ ‬التفاصيل‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تمر‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ننتبه‭ ‬إليها‭.‬

نراها‭ ‬في‭ ‬أبسط‭ ‬اللفتات‭ ‬الحلوة‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬القلب،‭ ‬في‭ ‬جار‭ ‬يطرق‭ ‬الباب‭ ‬ويحمل‭ ‬سلة‭ ‬رطب‭ ‬من‭ ‬نخلة‭ ‬خلاص‭ ‬وحيدة‭ ‬في‭ ‬فناء‭ ‬بيته،‭ ‬صياد‭ ‬يعود‭ ‬من‭ ‬البحر‭ ‬ويترك‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬صيده‭ ‬عند‭ ‬جيرانه‭ ‬ثم‭ ‬يمضي‭. ‬أو‭ ‬امرأة‭ ‬تصطحب‭ ‬أبناء‭ ‬جارتها‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬لتخفف‭ ‬عنها‭ ‬عناء‭ ‬المشوار‭. ‬أفعال‭ ‬قد‭ ‬تبدو‭ ‬عابرة،‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬صنعت‭ ‬صورة‭ ‬مجتمعنا‭ ‬الجميل‭ ‬بمختلف‭ ‬تلاوينه‭.‬

وأنا‭ ‬صغيرة،‭ ‬كانت‭ ‬متعتي‭ ‬أن‭ ‬أجلس‭ ‬قرب‭ ‬جدتي‭ ‬أستمع‭ ‬إلى‭ ‬سوالفها‭. ‬حكاياتها‭ ‬عن‭ ‬زمنها‭ ‬مازالت‭ ‬عالقة‭ ‬في‭ ‬أذني‭ ‬وذاكرتي‭. ‬الفريج‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬كان‭ ‬عائلة‭ ‬واحدة،‭ ‬كل‭ ‬بيت‭ ‬يعرف‭ ‬الآخر‭. ‬في‭ ‬الأعياد‭ ‬وفي‭ ‬ليالي‭ ‬رمضان‭ ‬كان‭ ‬الجو‭ ‬مختلفا‭ ‬بحق‭. ‬ومازلت‭ ‬أحتفظ‭ ‬بذكريات‭ ‬لرمضانات‭ ‬لا‭ ‬يشبهها‭ ‬حاضرنا‭. ‬الأطباق‭ ‬تنتقل‭ ‬بين‭ ‬البيوت،‭ ‬ثريد‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬وعصيدة‭ ‬من‭ ‬هناك‭. ‬الطعام‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬وفيرا‭ ‬دائما‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يتسع‭ ‬ببركة‭ ‬المحبة‭ ‬التي‭ ‬جمعت‭ ‬الناس‭.‬

وما‭ ‬أرويه‭ ‬هنا‭ ‬ليس‭ ‬حنينا‭ ‬إلى‭ ‬الماضي،‭ ‬إنما‭ ‬صورة‭ ‬حية‭ ‬لمعنى‭ ‬العطاء‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬ينساب‭ ‬بعفوية‭ ‬بين‭ ‬البيوت‭ ‬والنفوس‭. ‬تلك‭ ‬العفوية‭ ‬منحت‭ ‬البحرين‭ ‬روحها‭ ‬المتماسكة،‭ ‬وتركت‭ ‬أثرا‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬حاضرا‭ ‬رغم‭ ‬تبدل‭ ‬الزمان‭.‬

الأعراس‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬جدتي‭ ‬كانت‭ ‬مشاركة‭ ‬حقيقية؛‭ ‬النساء‭ ‬في‭ ‬المطبخ،‭ ‬الرجال‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الضيوف،‭ ‬والشباب‭ ‬لا‭ ‬يهدأ‭ ‬لهم‭ ‬بال‭ ‬وهم‭ ‬يتحركون‭ ‬بين‭ ‬البيوت‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬مقصورًا‭ ‬على‭ ‬الأفراح،‭ ‬فالمسجد‭ ‬وقت‭ ‬الصلاة‭ ‬والمأتم‭ ‬في‭ ‬الموالد‭ ‬كانا‭ ‬بيتا‭ ‬آخر‭ ‬يجمع‭ ‬الناس‭. ‬تفاصيل‭ ‬عادية‭ ‬في‭ ‬ظاهرها،‭ ‬لكنها‭ ‬كانت‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬تراثنا،‭ ‬مثل‭ ‬الأهازيج‭ ‬البحرية،‭ ‬ورائحة‭ ‬خبز‭ ‬الخباز،‭ ‬ولعب‭ ‬الصغار‭ ‬في‭ ‬الساحات‭ ‬الرملية‭.‬

وهناك‭ ‬سمة‭ ‬أخرى‭ ‬للخير‭ ‬عندنا،‭ ‬الصمت‭.. ‬نعم،‭ ‬الصمت‭. ‬جمعيات‭ ‬خيرية‭ ‬تدفع‭ ‬فواتير‭ ‬أسر‭ ‬متعثرة،‭ ‬وشخص‭ ‬يكفل‭ ‬دراسة‭ ‬طالب‭ ‬ثم‭ ‬يختفي‭. ‬لا‭ ‬إعلان‭ ‬ولا‭ ‬صور‭.‬

وقد‭ ‬لمست‭ ‬هذا‭ ‬بنفسي‭. ‬في‭ ‬عزاء‭ ‬والدتي،‭ ‬رحمها‭ ‬الله،‭ ‬اقتربت‭ ‬مني‭ ‬شابة‭ ‬وقدمت‭ ‬تعازيها،‭ ‬ثم‭ ‬همست‭ ‬في‭ ‬أذني‭ ‬أن‭ ‬والدتي‭ ‬ساعدتها‭ ‬بمصاريف‭ ‬دراستها‭. ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نعلم،‭ ‬ولم‭ ‬تذكر‭ ‬والدتي‭ ‬يوما‭ ‬ما‭ ‬فعلته‭. ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬أدركت‭ ‬أن‭ ‬العطاء‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يُعلن‭ ‬يعيش‭ ‬أطول‭ ‬من‭ ‬صاحبه‭.‬

وعلى‭ ‬مستوى‭ ‬أوسع،‭ ‬فللمؤسسات‭ ‬الوطنية‭ ‬دور‭ ‬حاضر‭ ‬وفعال‭. ‬المؤسسة‭ ‬الملكية‭ ‬للأعمال‭ ‬الإنسانية‭ ‬مثال‭ ‬واضح؛‭ ‬ترعى‭ ‬الأيتام‭ ‬والأرامل،‭ ‬وتدعم‭ ‬المرضى‭ ‬والطلبة‭ ‬في‭ ‬الداخل،‭ ‬وفي‭ ‬نفس‭ ‬الفلك‭ ‬تعمل‭ ‬جمعيات‭ ‬نسائية‭ ‬وخيرية‭ ‬تسند‭ ‬الطلبة‭ ‬والأسر‭ ‬محدودة‭ ‬الدخل‭. ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬ليس‭ ‬جهودًا‭ ‬متفرقة،‭ ‬بل‭ ‬شبكة‭ ‬يلتقي‭ ‬فيها‭ ‬عمل‭ ‬الفرد‭ ‬مع‭ ‬المؤسسة‭.‬

واليوم‭ ‬يأخذ‭ ‬الخير‭ ‬وجوها‭ ‬جديدة؛‭ ‬فنرى‭ ‬أبناءنا‭ ‬يتطوعون‭ ‬لتنظيف‭ ‬السواحل‭ ‬من‭ ‬القوارير‭ ‬البلاستيكية‭ ‬والمخلفات‭ ‬الضارة،‭ ‬وآخرين‭ ‬يزرعون‭ ‬أشجار‭ ‬القرم‭ ‬في‭ ‬المحميات‭ ‬لتستعيد‭ ‬الطبيعة‭ ‬توازنها‭. ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬المبادرات‭ ‬اللافتة‭ ‬‮«‬Dream‭ ‬Big‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬يقودها‭ ‬شباب‭ ‬بحرينيون‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ ‬لتعليم‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬بطرق‭ ‬مبتكرة،‭ ‬وكرمت‭ ‬مؤخرا‭ ‬متطوعيها‭ ‬الذين‭ ‬تجاوزت‭ ‬ساعات‭ ‬عطائهم‭ ‬الألف‭ ‬ساعة‭. ‬مبادرة‭ ‬بسيطة،‭ ‬لكنها‭ ‬تكشف‭ ‬كيف‭ ‬يرسم‭ ‬أبناؤنا‭ ‬صورًا‭ ‬مختلفة‭ ‬للخير‭: ‬تعليم،‭ ‬تمكين،‭ ‬وبناء‭.‬

وبعض‭ ‬الجمعيات‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬بدأت‭ ‬تغير‭ ‬طريقتها؛‭ ‬فلم‭ ‬تعد‭ ‬تقدم‭ ‬مساعدة‭ ‬تنتهي‭ ‬بسرعة،‭ ‬بل‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬حلول‭ ‬تستمر‭. ‬قد‭ ‬تدعم‭ ‬أسرة‭ ‬لتبيع‭ ‬ما‭ ‬تصنعه‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬أو‭ ‬تعطي‭ ‬أخرى‭ ‬أدوات‭ ‬تبدأ‭ ‬بها‭ ‬مشروعا‭ ‬صغيرا‭. ‬الهدف‭ ‬هنا،‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬العطاء‭ ‬مصدر‭ ‬عيش‭ ‬بكرامة،‭ ‬لا‭ ‬مساعدة‭ ‬عابرة‭ ‬تزول‭ ‬وتنتهي‭ ‬سريعا‭.‬

بحمد‭ ‬الله،‭ ‬أهل‭ ‬الخير‭ ‬في‭ ‬بلدنا‭ ‬كُثر،‭ ‬وكلٌّ‭ ‬يسهم‭ ‬بطريقته،‭ ‬لكن‭ ‬العطاء‭ ‬يصبح‭ ‬أعمق‭ ‬حين‭ ‬يجتمع‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬واحد‭. ‬تخيّل‭ ‬مساهمات‭ ‬تتوحد‭ ‬في‭ ‬صندوق‭ ‬يعين‭ ‬الأسر‭ ‬المتعففة‭ ‬على‭ ‬تكاليف‭ ‬التعليم‭ ‬والمواصلات‭ ‬والدروس،‭ ‬فتصل‭ ‬المساندة‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬بيت‭ ‬يحتاج‭ ‬إليها‭. ‬أو‭ ‬مبادرة‭ ‬منظّمة‭ ‬تساعد‭ ‬أسرة‭ ‬لتبدأ‭ ‬مشروعا‭ ‬صغيرا‭ ‬يحفظ‭ ‬كرامتها‭ ‬ويمنحها‭ ‬استقلالا‭. ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬التنظيم‭ ‬لا‭ ‬يلغي‭ ‬عطاء‭ ‬الأفراد،‭ ‬بل‭ ‬يضاعف‭ ‬أثره‭ ‬ويجعله‭ ‬أبقى‭.‬

فسؤالنا‭ ‬اليوم؛‭ ‬كيف‭ ‬نحافظ‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الروح‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬العمارات‭ ‬والشاشات‭ ‬حيث‭ ‬تقل‭ ‬اللقاءات‭ ‬المباشرة؟‭ ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬مسارات‭ ‬جديدة‭ ‬تفتح‭ ‬للخير‭ ‬أبوابا‭ ‬أوسع؛‭ ‬مثل‭ ‬أوقاف‭ ‬حديثة‭ ‬يطلقها‭ ‬الميسورون‭ ‬لدعم‭ ‬المبادرات‭ ‬الصغيرة،‭ ‬والمؤسسات‭ ‬التي‭ ‬تختار‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬للمجتمع‭ ‬نصيبا‭ ‬من‭ ‬أرباحها،‭ ‬تضيف‭ ‬للخير‭ ‬مجالات‭ ‬أرحب‭. ‬وإعلام‭ ‬يوثق‭ ‬قصص‭ ‬العطاء‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تضيع،‭ ‬وجمعيات‭ ‬تبتكر‭ ‬أساليب‭ ‬تجذب‭ ‬الشباب‭ ‬إلى‭ ‬التطوع‭ ‬وأعمال‭ ‬قصيرة‭ ‬تمنحهم‭ ‬خبرة‭ ‬وتنفع‭ ‬غيرهم‭.‬

فالخير‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬راسخ،‭ ‬ومسؤوليتنا‭ ‬أن‭ ‬نجعله‭ ‬مستمرا‭ ‬ومتجدد‭ ‬الروح،‭ ‬ويواكب‭ ‬الزمن‭ ‬ولا‭ ‬ينقطع‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا