في 5 سبتمبر يحتفل العالم باليوم الدولي للعمل الخيري. وفي كل عام تتجدد الحاجة إلى التأمل في معنى الخير، وكيفية تجسيده في حياتنا. لكن حين أنظر حولي، أجد أن بلدنا، بفضل الله، تعيش هذا المعنى كل يوم؛ فالخير هنا لا ينتظر موعدا على التقويم، لأنه يسكن التفاصيل الصغيرة التي قد تمر من دون أن ننتبه إليها.
نراها في أبسط اللفتات الحلوة القريبة من القلب، في جار يطرق الباب ويحمل سلة رطب من نخلة خلاص وحيدة في فناء بيته، صياد يعود من البحر ويترك جزءًا من صيده عند جيرانه ثم يمضي. أو امرأة تصطحب أبناء جارتها إلى المدرسة لتخفف عنها عناء المشوار. أفعال قد تبدو عابرة، لكنها في الحقيقة هي التي صنعت صورة مجتمعنا الجميل بمختلف تلاوينه.
وأنا صغيرة، كانت متعتي أن أجلس قرب جدتي أستمع إلى سوالفها. حكاياتها عن زمنها مازالت عالقة في أذني وذاكرتي. الفريج في تلك الأيام كان عائلة واحدة، كل بيت يعرف الآخر. في الأعياد وفي ليالي رمضان كان الجو مختلفا بحق. ومازلت أحتفظ بذكريات لرمضانات لا يشبهها حاضرنا. الأطباق تنتقل بين البيوت، ثريد من هنا وعصيدة من هناك. الطعام لم يكن وفيرا دائما بقدر ما كان يتسع ببركة المحبة التي جمعت الناس.
وما أرويه هنا ليس حنينا إلى الماضي، إنما صورة حية لمعنى العطاء حين كان ينساب بعفوية بين البيوت والنفوس. تلك العفوية منحت البحرين روحها المتماسكة، وتركت أثرا لا يزال حاضرا رغم تبدل الزمان.
الأعراس في زمن جدتي كانت مشاركة حقيقية؛ النساء في المطبخ، الرجال في خدمة الضيوف، والشباب لا يهدأ لهم بال وهم يتحركون بين البيوت. ولم يكن ذلك مقصورًا على الأفراح، فالمسجد وقت الصلاة والمأتم في الموالد كانا بيتا آخر يجمع الناس. تفاصيل عادية في ظاهرها، لكنها كانت جزءًا من تراثنا، مثل الأهازيج البحرية، ورائحة خبز الخباز، ولعب الصغار في الساحات الرملية.
وهناك سمة أخرى للخير عندنا، الصمت.. نعم، الصمت. جمعيات خيرية تدفع فواتير أسر متعثرة، وشخص يكفل دراسة طالب ثم يختفي. لا إعلان ولا صور.
وقد لمست هذا بنفسي. في عزاء والدتي، رحمها الله، اقتربت مني شابة وقدمت تعازيها، ثم همست في أذني أن والدتي ساعدتها بمصاريف دراستها. لم نكن نعلم، ولم تذكر والدتي يوما ما فعلته. في تلك اللحظة أدركت أن العطاء الذي لا يُعلن يعيش أطول من صاحبه.
وعلى مستوى أوسع، فللمؤسسات الوطنية دور حاضر وفعال. المؤسسة الملكية للأعمال الإنسانية مثال واضح؛ ترعى الأيتام والأرامل، وتدعم المرضى والطلبة في الداخل، وفي نفس الفلك تعمل جمعيات نسائية وخيرية تسند الطلبة والأسر محدودة الدخل. ما نراه ليس جهودًا متفرقة، بل شبكة يلتقي فيها عمل الفرد مع المؤسسة.
واليوم يأخذ الخير وجوها جديدة؛ فنرى أبناءنا يتطوعون لتنظيف السواحل من القوارير البلاستيكية والمخلفات الضارة، وآخرين يزرعون أشجار القرم في المحميات لتستعيد الطبيعة توازنها. ومن بين المبادرات اللافتة «Dream Big»، التي يقودها شباب بحرينيون منذ أكثر من عشر سنوات لتعليم اللغة الإنجليزية بطرق مبتكرة، وكرمت مؤخرا متطوعيها الذين تجاوزت ساعات عطائهم الألف ساعة. مبادرة بسيطة، لكنها تكشف كيف يرسم أبناؤنا صورًا مختلفة للخير: تعليم، تمكين، وبناء.
وبعض الجمعيات في البحرين بدأت تغير طريقتها؛ فلم تعد تقدم مساعدة تنتهي بسرعة، بل تبحث عن حلول تستمر. قد تدعم أسرة لتبيع ما تصنعه في البيت، أو تعطي أخرى أدوات تبدأ بها مشروعا صغيرا. الهدف هنا، أن يكون العطاء مصدر عيش بكرامة، لا مساعدة عابرة تزول وتنتهي سريعا.
بحمد الله، أهل الخير في بلدنا كُثر، وكلٌّ يسهم بطريقته، لكن العطاء يصبح أعمق حين يجتمع في إطار واحد. تخيّل مساهمات تتوحد في صندوق يعين الأسر المتعففة على تكاليف التعليم والمواصلات والدروس، فتصل المساندة إلى كل بيت يحتاج إليها. أو مبادرة منظّمة تساعد أسرة لتبدأ مشروعا صغيرا يحفظ كرامتها ويمنحها استقلالا. هذا النوع من التنظيم لا يلغي عطاء الأفراد، بل يضاعف أثره ويجعله أبقى.
فسؤالنا اليوم؛ كيف نحافظ على هذه الروح في زمن العمارات والشاشات حيث تقل اللقاءات المباشرة؟ نحتاج إلى مسارات جديدة تفتح للخير أبوابا أوسع؛ مثل أوقاف حديثة يطلقها الميسورون لدعم المبادرات الصغيرة، والمؤسسات التي تختار أن تجعل للمجتمع نصيبا من أرباحها، تضيف للخير مجالات أرحب. وإعلام يوثق قصص العطاء قبل أن تضيع، وجمعيات تبتكر أساليب تجذب الشباب إلى التطوع وأعمال قصيرة تمنحهم خبرة وتنفع غيرهم.
فالخير في البحرين راسخ، ومسؤوليتنا أن نجعله مستمرا ومتجدد الروح، ويواكب الزمن ولا ينقطع.
rajabnabeela@gmail.com

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك