مما لا شك فيه أن القمة، التي جمعت بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في ولاية ألاسكا في الثامن عشر من أغسطس 2025م، كانت تاريخية وحملت العديد من الدلالات، من بينها طريقة الاستقبال وتوقيته، بما يشي بأن مضامين الصراعات ومساراتها تظل محكومة بتوازن القوى بين الأطراف المتصارعة، فضلاً عن استمرار قناعة الدول الكبرى بأن الدبلوماسية يظل لها دور مهما كانت حدة الصراعات. صحيح أن القمة لم تسفر عن تسوية فورية أو إنهاء للحرب في أوكرانيا، لكنها أسست لمسار تفاوضي جاد، بعيداً عن الرسائل الإعلامية المتبادلة بين كل من روسيا وأوكرانيا خلال السنوات الثلاث الماضية، وما تخللها من تصريحات لأطراف أوروبية وقوى دولية أخرى.
وقبيل الخوض في قضية الضمانات الأمنية، في تقديري أن هناك ثلاثة أسباب تفسر الحرص الأمريكي على إنهاء تلك الحرب؛ أولها: أن توصُّل الولايات المتحدة الأمريكية إلى تفاهمات مع روسيا حول القضية الأوكرانية سوف ينعكس على مسارات التنافس الروسي-الأمريكي الأخرى بالإيجاب، وخاصةً في المناطق التي يتردد أن الولايات المتحدة بصدد الانحسار عنها. وثانيها: سبب يرتبط بتعهدات ترامب أمام الناخبين بأنه سوف ينهي تلك الحرب، بل إنه يرى أن أحد إنجازاته خلال الأشهر المنقضية من ولايته الثانية هو إيقاف 6 حروب. وثالثها: أن استمرار تلك الحرب سوف يؤدي إلى المزيد من خسارة الأراضي الأوكرانية من دون تدخل مباشر من حلف شمال الأطلسي «الناتو» على الأرض الأوكرانية، وما يعنيه ذلك من تهديد عمق الأمن الأوروبي، ومن ثم التفكير في جدوى وجود حلف الناتو كمظلة أمنية للدول الأوروبية، التي يتردد لديها من آنٍ إلى آخر رغبتها في إيجاد بديل أمني أوروبي.
إن الحديث عن الضمانات الأمنية يتطلب تحليل طبيعتها ومرتكزها وتأثيرها؛ فمن حيث طبيعة تلك الضمانات، فإن ما تريده أوكرانيا هو ضمان عدم تكرار الحرب مرة أخرى، من خلال نشر قوات غربية يكون لديها استعداد للرد على ذلك، بما يرتقي إلى التزام من جانب الدول الغربية على غرار المادة الخامسة من ميثاق حلف الناتو، التي تتضمن أن أي اعتداء على دولة في الحلف يعني الاعتداء على الحلف بأسره بما يتطلب الرد الجماعي، وأن يكون مصدر تلك الضمانات دول الحلف. وترى أن تأثيرها هو تحقيق الردع ضد أي تهديدات مستقبلية، ولكن ما تريده روسيا هو ضمان ألا تكون أوكرانيا دولة نووية وألا تنضم إلى حلف شمال الأطلسي «الناتو»، وهذا هو السبب الرئيسي لاندلاع الحرب من البداية، حيث ترغب روسيا في الحفاظ على منطقة عازلة (أوكرانيا) مع حدود حلف الناتو الشرقية، وأن تتلقى ضمانات من مجلس الأمن، وترى روسيا أن تأثير تلك الضمانات يحقق لها مفهوم «توازن القوى» ضمن الصراع مع حلف الناتو، الذي جعل باب العضوية مفتوحاً على مصراعيه على الدوام لمن أراد الانضمام إليه من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، الأمر الذي ارتضته روسيا بالنسبة إلى دول صغرى مثل دول البلطيق، بيد أنها رأت في عضوية أوكرانيا خطاً أحمر لا يجوز للحلف تجاوزه.
ومن الطبيعي أن تكون هناك هوّة بين مواقف الطرفين، فالمسألة ترتبط بالأمن الوطني لكل منهما ورؤيته لهذا الأمن، بل إن انخراط أطراف أخرى مثل الناتو والاتحاد الأوروبي يزيد من الأمر تعقيداً، وخاصةً في ضوء أمرين مهمين؛ الأول: أنه بغض النظر عن الضمانات الأمنية المتوقعة، فإن التصريحات الرسمية الأمريكية تضمنت مراراً وتكراراً أنه لن تكون هناك قوات أمريكية على الأرض في أوكرانيا. والثاني: أن حلف الناتو لن يقدم تلك الضمانات لأوكرانيا من خلال الحلف كمنظمة، بل ضمن إطار جماعي؛ ففي تصريح له خلال زيارته العاصمة الأوكرانية كييف في 22 أغسطس 2025م، ولقائه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أكد مارك روته، الأمين العام لحلف الناتو، أن الضمانات الأمنية تتضمن أمرين؛ الأول: تعزيز قدرات الجيش الأوكراني لردع روسيا عن شن هجوم جديد مستقبلاً؛ والثاني: الحصول على ضمانات أمنية أوروبية وأمريكية.
وبغض النظر عما سوف يتم التوصل إليه من اتفاقات وتفاهمات حول تلك القضية التي تتشابك أبعادها فإن مستقبل الأمن الأوروبي يثير الكثير من الجدل والتساؤلات المهمة، ليس فقط لأوروبا بل أيضاً انعكاساتها شرق أوسطياً، من بينها: هل مازال حلف الناتو هو المظلة الأمنية للدول الأوروبية، في ظل تجنب الحلف المواجهة العسكرية المباشرة مع روسيا خلال الأزمة الأوكرانية، والتزام الحلف حرفياً بمضمون الميثاق المنشئ له؟ في تقديري أن الإجابة لا، ويتعين على أوروبا العمل على بديل أمني مستقبلاً. صحيح أن الاتحاد الأوروبي في الأصل هو مشروع سياسي اقتصادي، لكن لكي يستمر لا بد من هُوية أمنية جديدة، بالإضافة إلى التداعيات الشرق أوسطية، ولعل أهمها: هل تكون تسوية الصراعات من خلال توازن القوى بحيث يكون التنازل عن أراضٍ هو السبيل الأسهل لإنهائها، بغض النظر عما إذا كان ذلك يتعارض مع قواعد القانون الدولي والسيادة أم لا؟
إن تسوية الأزمة الأوكرانية سوف تحمل في طياتها دروساً عديدة، ليس فقط لمناطق صراعات عديدة في العالم، بل أيضاً للباحثين في إدارة الأزمات الدولية، وكيفية تشابك خيوط القوة مع الدبلوماسية فيها على نحوٍ غير مسبوق.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية في مركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك