التقاعد هو مرحلة يمر بها الإنسان لها ظروفها وآمالها ويعتبرها البعض أهم مراحل حياة الانسان وأنها بداية للعطاء وفرصة لاستثمار الوقت والتعلم. هكذا يبدأ الاستاذ محمد علي البنخليل كتابه حول التقاعد المكون من 115 صفحة بعنوان «التقاعد والتهيئة النفسية للمتقاعدين والمسنين» قبل وبعد، الصادر عام 2022 والذي شرفت بتسلم نسخة منه. يعرف الكاتب مفهوم التهيئة النفسية على انها اعداد ذهني مسبق للاستعداد لمرحلة قادمة تمكنه من التعامل مع العوامل الصحية والنفسية وكذلك المؤثرات الاقتصادية والاجتماعية، لكي يتمكن من تنفيذ افكار ومشاريع مؤجلة، سواء كانت شخصية او مشاركة اجتماعية تطوعية، أو حتى اقتصادية؛ وان يتعامل بإيجابية مع المتغيرات الجسدية والامراض التي يمكن ان يتعرض لها المتقاعد مع شرح مبسط يساعد المسن على فهم اسبابها والتعامل معها. كما يتوجه الكاتب الى أهل وأبناء المتقاعد في فهم كيفية التعامل معه وإعطائه دورا في الحياة العائلية والاجتماعية يشعره بمكانته في العائلة.
يقارن الكاتب بين مفهوم التقاعد في الغرب ومفهومه في الدول العربية. إذ يرى أن المفهوم الغربي يعتبر التقاعد مرحلة جديدة من العطاء والإنتاج ونقل الخبرة والتجربة الى الاجيال القادمة، والمشاركة بالآراء والابحاث والدراسات وتوثيق الخبرات ليستفيد منها المجتمع. التقاعد، وهي بداية عمل يقرره المتقاعد من دون قيود العمل الرسمي ووقت الدوام. هذا التحرر يجعله أكثر قدرة على بدء مشاريعه الخاصة سواء كانت فكرية أو اجتماعية أو حتى اقتصادية، وتعلم التعامل مع التكنولوجيا الحديثة.
الصورة التي يرسمها الكاتب ليست خيالية أو غير واقعية، بل يوضح الكاتب أنها صورة يتم ممارستها في كثير من دول العالم المتقدم، حيث ترعى الدولة المتقاعدين صحيا ومعنويا وتفتح المجالات لرفاهيتهم، وحيث إن نظام الضمان الاجتماعي، في معظم الدول الأوروبية والشرق الآسيوية المتقدمة، يؤمن للمتقاعد مثل هذه الحياة ويحرره من الضغوط المادية والصحية، ويمكنه من ممارسة هواياته وأنشطته.
فمثلا يعتمد النموذج الغربي، وخصوصا في الدول الاسكندنافية وآخرون مفهوم «التقاعد النشط» حيث توفر الدولة شبكات ضمان اجتماعي متينة وبرامج تدريبية صحية، ودمج المتقاعدين عبر أندية تخصصية تسهل مشاركتهم في الأعمال التطوعية والاستشارية، بالإضافة إلى تشجيع العمل بعد سن التقاعد (دوام جزئي أو مشاريع خاصة). بالنسبة إلى النموذج الآسيوي (اليابان والصين مثلا)، فإنه ينظر إلى المتقاعد على انه حافظة للمعرفة، أو كما تسميه الشركات (كنز بشري)، وكذلك يتم اعادة توظيفهم بدوام مرن في شركاتهم السابقة أو اخرى للاستفادة من خبراتهم، مع التركيز على التعليم المستمر والصحة الذهنية. تدير البلديات في اليابان مراكز مجتمعية للمتقاعدين تدعم مشاركتهم في المشروعات الاجتماعية والثقافية. اما الصين فقد أطلقت مبادرات عدة لانخراط المتقاعدين في ريادة الاعمال، والاشراف على برامج محو الأمية، كما تولي الأجيال الجديدة أهمية لدور المسنين في نقل القيم والخبرات. كما تحفز السياسات الرسمية الجمعيات والمنظمات على استقطاب المتقاعدين وتقديم الحوافز لهم.
كذلك تشير تقارير منظمة العمل الدولية (ILO) ومنظمة الصحة العالمية (WHO) إلى أن استثمار خبرة المتقاعدين يسهم في بناء رأس مال اجتماعي واقتصادي متميز، ويقلل من أعباء الرعاية الصحية عبر تعزيز الصحة النفسية والجسدية من خلال المشاركة المجتمعية. كما أثبتت عدة برامج في دول أوروبية أن دمج المتقاعدين في العمل التطوعي أو الاستشاري يحافظ على روح المبادرة ويرتقي بمستوى جودة الحياة لديهم.
غير أن الواقع في معظم دولنا العربية يختلف تماما عن هذه الصورة. فالضمان الاجتماعي ليس بالمستوى الذي يمكن المتقاعد من التحرر من الضغوط المادية الملحة، بالإضافة إلى أن شح فرص العمل تجعله يتحمل مسؤولية أبناء وأحفاد عاطلين وهم في سن العمل، مما يجعله تحت ضغط المسؤولية المادية.
يشير الكاتب الى ان الوضع الاجتماعي والاقتصادي في دولنا العربية يعرض المتقاعد لتفاقم الامراض ويشعره بانه عالة على المجتمع. يحاول الكاتب ان يهيئ المتقاعد للمشاركة في المجتمع وفي الحياة العامة، ويضع دورا على الحكومات وعلى المنظمات المدنية في تيسير هذه المشاركة ووضع منهج يمكن المتقاعد من المشاركة في الانشطة وفي الحوارات وتقديم الاستشارات وفق آلية واضحة تحفظ له كرامته بالشعور بان مشاركته يتم الإصغاء اليها. توفير مثل هذه الفرص للمتقاعد تجعله مواطنا منتجا متفاعلا مع المجتمع، يؤدي دورا مهما يسهم في تقدم وازدهار الدولة. هذا الشعور يخلق من المتقاعد انسانا آخر، ويحميه من الامراض النفسية والبدنية. ويقترح الكاتب آلية مؤسسية لهذه الغاية.
يقدم الكاتب مقترحات مثل إنشاء لجنة وطنية دائمة لشؤون المتقاعدين والمسنين تشمل القطاع الحكومي والاهلي، تهدف الى الاهتمام بمصالحهم، واستثمار قدراتهم وامكاناتهم من خلال دمجهم في المجتمع. مقترح آخر يقدمه الكاتب هو وضع استراتيجية لرعاية المتقاعدين والمسنين تشمل الاندية والمراكز والجمعيات الاجتماعية، وتشمل الاستفادة من خبراتهم في تنمية المشاريع الاستثمارية؛ ويعرج الكاتب على دور مؤسسات المجتمع المدني في رعاية المتقاعدين ويقترح شملهم في الاستراتيجية الوطنية.
إن نجاح مرحلة التقاعد وتحويلها إلى فرصة للتنمية يرتبط بمدى جدية السياسات الوطنية في دمج المتقاعدين ورفع مستوى الضمان الاجتماعي. إن الاستفادة من خبراتهم عبر الأندية والجمعيات والمبادرات الحكومية والمجتمعية، كفيل بجعلهم قوة دافعة للإصلاح والتنمية، وهو ما أثبتته تجارب الدول الغربية والآسيوية على حد سواء.
يفتقد الكتاب الى إحصائيات تبين متغيرات البيئة التي يعمل فيها المتقاعد، وماهي التباينات أو الفوارق في تجارب الدول العربية المختلفة، وما إذا كان هناك أي تقدم يمكن أن يكون مصدرا لتطوير الخدمات المقدمة لهم وتغيير المفاهيم. وأرى أن هذا موضوع آخر يتطلب دراسة أخرى نأمل أن يأخذها الكاتب لمشروع كتاب آخر.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك