تذكرت وأنا أكتب هذا المقال، قصة فتاة تجاوزت العشرينات من عمرها، تخوض معركة نفسية بعد انفصالها عن خطيبها الذي أحبته بكل صدق. تحدّت أهلها، وتجاوزت الصعاب من اختلاف في الثقافات والعادات والتفكير من أجله، ظنّت أن الحب وحده سيكفي لإزالة مسافة الاختلاف بينهما، لكن حين خاب ظنها وانهار حلمها الجميل، جلدت نفسها مرارًا بكثرة الأسئلة المؤلمة والتفكير: «لماذا أنا بالذات؟ لماذا لم ينجح كل ما ضحيتُ به؟ هل أخطأت عندما غامرت؟»، تارةً تلوم قلبها لأنه اندفع بلا حساب، وتارةً تلوم القدر لأنه لم يمنحها ما أرادت، كانت تنظر إلى صديقاتها بعين الغبطة ممن استقرّت حياتهن، كانت تشعر أن الزمن سبقها، وأنها الوحيدة التي تُعاقَب. ومع كل هذا الألم القوي، لم تكن تدرك أن ما لم يُكتب لها، لم يكن ليكون مهما حاولت، وأن الزمن قد يحمل في طياته رحمة خفية لم ترها بعد.
في عالم يموج بالطموحات والرغبات، يكاد لا يخلو قلب إنسان من أمنيات يتمنى تحقيقها في وقت محدد يراه هو الأنسب، فالبعض يحلم بعمل مرموق يفتح أمامه أبواب الاستقرار والمستقبل، وآخرون يترقبون شريك حياة يجسد أحلامهم وسعادتهم، وغيرهم يتطلعون إلى نجاح باهر أو سفر أو فرصة طال انتظارها. غير أن الحياة بطبيعتها لا تسير دائمًا وفق مواعيدنا البشرية، بل تخضع لقانون أعمق وأوسع نطاقًا؛ إنه ما يمكن أن نسميه «التوقيت الإلهي».
لكن التأمل في قصص الناس يكشف لنا حقيقة مختلفة؛ فكم من شخص ظن أن الأبواب قد أغلقت في وجهه، فإذا بها تنفتح في وقت لاحق على نحو لم يكن يتوقعه، وبطريقة أكثر ملاءمة لظروفه. قد يُرفض الفرد في مقابلة عمل، فيظن أن مستقبله قد تعطل، لكنه يكتشف بعد مرور سنوات أن ذلك الرفض كان نقطة حماية من بيئة عمل غير مناسبة، أو ربما لم يكن مستعدا حينها، وكم من موظف وجد نفسه يُنقل من عمله إلى مكان آخر على غير إرادته، ليفاجأ بأن هذه الخطوة التي لم يكن يتمناها أصبحت الباب الذي فتح له فرصًا لم يكن يتخيلها، وبداية لمستقبل أكثر إشراقًا، وكم من علاقة زواج لم تُكتب لها الاستمرارية، تكون أنقذت طرفًا من معاناة طويلة أو حياة غير سعيدة.
إن الـتوقيت الإلهي ليس مجرد فكرة روحية تهدئ النفوس وتطمئن القلوب، أو تنظير اجتماعي أو نفسي، بل هو أكبر بكثير من ذلك، فمن المنظور الواقعي فهو يساعد على إعادة صياغة علاقتنا مع الزمن. فحين يتأخر عنا تحقيق ما نرجوه تتولد لدينا مشاعر متباينة تتراوح بين الإحباط والغضب، وبين الإحساس بالخذلان وقسوة القدر، نلوم أنفسنا تارةً، ونلوم الآخرين تارةً أخرى، ونغفل عن أن التوقيت ليس عبثًا، بل هو جزء من حكمة تتجاوز إدراكنا.
من منظور اجتماعي، يمكن القول إن ثقافتنا المعاصرة أسهمت في تغذية هذا التوتر والقلق. فالمجتمع يضع أعمارًا «افتراضية» لكل محطة من محطات الحياة: فمثلًا محطة الوظيفة لا بد أن تكون في العشرينات، الزواج في أوائل الثلاثينات، امتلاك بيت قبل الأربعينات... وهكذا، كل هذه التوقعات تضغط على الفرد وتجعله يشعر بالتأخر الزمني وانه لم يحقق ما يتوقعه المجتمع منه في تلك المرحلة العمرية. لذلك، فإن الحزن ليس دائمًا بسبب الرغبة الشخصية فحسب، بل يتضخم ليصل إلى المجتمع بفعل معايير وضعها الآخرون.
ومن الناحية النفسية، الإيمان بأن لكل حدث موعدًا مقدرًا يخفف من الضغوط الداخلية للفرد، فيمنحه مساحة للتنفس والصبر والرضا، بدلًا من الانغماس في جلد الذات أو مقارنة مساره بمسارات الآخرين.
أما اجتماعيًا، فإنه يحررنا من قيود التوقعات الجامدة، ويمنحنا مرونة أكبر في تقبّل تنوع التجارب الإنسانية، وفهم أن النجاح أو السعادة لا يرتبطان بسن معين أو مرحلة محددة، بل بمدى انسجام الظروف مع الاستعداد الشخصي. بينما دينيًا، فإن الإيمان بالتوقيت المناسب هو امتداد لعقيدة المسلم في أن كل شيء مقدر بميزان الحكمة الإلهية والرحمة، في حين يقدم لنا القرآن الكريم درسًا خالدًا في قصة الخضر مع موسى عليهما السلام، فقد رأى موسى في خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار ظلمًا وخسارة لا تُحتمل، لكنه حين كُشفت له الحكمة الإلهية، أدرك تمامًا أن ما بدا شرًا كان في جوهره رحمة خفية، وإنقاذًا من شر أعظم قادم، بل قد يكون لطفًا خفيًا نجهله مصداقًا لقوله تعالى: «وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ». (البقرة: 216)
الرضا بقضاء الله لا يلغي الشعور بالحزن الطبيعي، لكنه يوجهه نحو الثقة بأن الله يدبّر الأمر بحكمة أوسع من إدراكنا، ويمنحنا السكينة لانتظار الأجمل. وأن ما نحزن على فواته قد يكون في حقيقته حماية لنا، وما نتألم من تأجيله قد يكون هو الخير بعينه.
من هنا جاء دور الأسرة والمجتمع في تعزيز ثقافة التقبل والرضا للأبناء. فكم من فتاة تحطمت نفسيتها لأنها سمعت مرارًا عبارة: «لماذا لم تتزوجي بعد؟»، وكم من شاب شعر بالفشل لأنه يُسأل كل يوم: «متى ستجد وظيفة أفضل؟»، هذه الكلمات البسيطة قد تبدو عابرة لكنها تترك جروحًا عميقة في النفس. فالقيمة الحقيقية لا تكمن في سرعة الإنجاز ولا في توقيته. فالحياة ليست سباقًا مع الآخرين ولا مقارنة لبلوغ ما وصلوا إليه، بل هي طريق مليء بالصعاب والتحديات التي تصقلنا وتعلّمنا الصمود النفسي للوصول الى النضج الحقيقي، والحكمة الإلهية التي تهيئ لكل واحد منا ما يتناسب مع مصلحته وقدرته في الوقت المناسب، وأن لكل إنسان مساره الفريد الخاص به الذي رسمه الله له.
قد يتأخر الحلم، وربما لا يتحقق بالكيفية أو التوقيت الذي نريده، لكنه في ميزان الله أدق وأعدل مما نتخيل. لذلك لا ينبغي أن يستهلكنا الحزن على ما لم يتحقق، بل علينا أن نثق أن كل تأخير يحمل لنا خيرًا مخفيًا، وكل منعٍ هو في جوهره حماية وتوجيه نحو ما هو أنسب لنا. فالحزن على عدم تحقيق الأماني أمر طبيعي، لكنه لا ينبغي أن يتحول إلى سجن نفسي طويل يعطل مسيرتنا الحياتية للتقدم.
إن التوقيت الإلهي ليس دعوة للاستسلام، بل هو دعوة للتوازن النفسي بين ما هو مأمول وما هو مكتوب: لا ننكر دورنا في أن نسعى ونجتهد ونبذل الأسباب، ثم نتقبل النتائج التي قد تأتي في وقت مختلف عما خططنا له. فالحياة أجمل حين نتصالح مع إيقاعها، ونؤمن أن ما لم يحدث اليوم قد يحدث غدًا، وربما يأتي في صورة أبهى مما رسمناها بأذهاننا، فلنطمئن جميعًا إذن؛ فما كتب لنا لن يخطئنا، وما لم يُكتب لنا لن ينفعنا لو أُعطي لنا في غير أوانه. وبين هذا وذاك، نعيش رحلة اليقين والثقة، منتظرين بوعي ورضا من الله لحظة الانسجام الكامل مع «التوقيت الإلهي» الذي هو سر الرحمة الخفية في حياتنا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك