اليوم اعترف العدو قبل الصديق بأن الطامة الكبرى التي نراها في غزة يومياً، ومنذ أكثر من 23 شهراً، هي إبادة جماعية للبشر، وإبادة شاملة لكل مكونات البيئة الحية وغير الحية، وإبادة للتراث التاريخي الثقافي الدولي من كنائس أثرية ومساجد تاريخية.
فالمنظمات الأممية، مثل منظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش أكدت واقعية هذه الإبادة، كما أن منظمات حقوقية إنسانية في الكيان الصهيوني نفسه أدلت بشهادتها ولأول مرة في يوليو 2025 على أنها إبادة جماعية، كذلك صرح الكثير من علماء ومثقفي التاريخ اليهودي ورجال السياسة والحكم عن هذه الحقيقة الكارثية ومحرقة شعب غزة، مثل عومير بارتوف في يوليو 2025، والسياسي يائير غولان، ورئيس الوزراء الصهيوني السابق أيهود أولمرت في 29 مايو 2025. وعلاوة على ذلك، فقد دعا رئيس الكنيست السابق أبراهام بورغ في 10 أغسطس 2025 يهود العالم إلى رفع شكوى عند محكمة العدل الدولية بسبب جرائم ضد الإنسانية تقوم بها إسرائيل.
ولكن في الوقت نفسه هناك من المجرمين الصهاينة من اليهود وغير اليهود الذين يحاولون بشتى الطرق والوسائل التغطية الشرعية القانونية على هذه الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، فيحاولون الادعاء والتضليل بأن ما يحدث في غزة من عمليات عسكرية هي بسبب أن المقاومة الفلسطينية معادية للسامية، وأنها تريد القضاء على اليهود والدولة اليهودية، ولذلك ما يقوم به الكيان الصهيوني يدخل ضمن باب الدفاع عن النفس وحماية اليهود وأمن الكيان الصهيوني. ولذلك يسعون جادين وبكل الأساليب الشيطانية الماكرة على تحصين الجرائم الصهيونية، وتوفير المناعة لها، ومنعها من المحاسبة والعقاب عن طريق صياغة تعاريف جديدة لمعاداة السامية، أو تطويع التعريفات القديمة لكي تتوافق مع طرحهم الخبيث، وتتماشى مع ادعاءاتهم الضالة بأن ما يحدث في غزة ليست إبادة جماعية، وليست تطهيراً عرقياً وتصفية كاملة للشعب الفلسطيني، وبالتالي إضفاء روح الشرعية القانونية الدولية على الكارثة البشرية والبيئية والإسكانية التي يرتكبونها في غزة، إضافة إلى تحصين وتأمين الكيان الصهيوني من المحاسبة والعقاب على كافة المستويات الدولية.
وهناك في الواقع ثلاثة تعاريف لمعاداة السامية، فالأول أُعلن في 26 مايو 2016 ومن لجنة دولية متخصصة تأسست عام 1998 وأُطلق عليها التحالف الدولي لإحياء ذكرى محرقة اليهود (International Holocaust Remembrance Alliance)، وجاء فيه بأن اللاسامية أو معاداة السامية هي: عبارة عن تصور معين لليهود قد يُعَبر عن كراهية تجاه اليهود. فتُوجه التعبيرات البلاغية والجسدية لمعاداة السامية نحو اليهود وغير اليهود وممتلكاتهم، ونحو مؤسسات المجتمع اليهودي والمرافق الدينية.
وأما التعريف الثاني لمعاداة السامية فقد صدر في القدس في 26 مارس 2021 من مجموعة من العلماء اليهود تحت مسمى: إعلان القدس حول معاداة السامية (Jerusalem Declaration on Antisemitism). وهذا الإعلان يُعرِّف معاداة السامية بأنها: التمييز، أو التحيز، أو العداء، أو العنف ضد اليهود كيهود. وهذا الإعلان يحتوي على 15 بنداً استرشادياً حول تفاصيل تعريف معاداة السامية، ويُقدم توجهاً بديلاً نوعاً ما وجديداً، وهو بذلك يُعد أكثر عدلاً وتوازناً من التعريف الأول، حيث يهدف إلى التوازن والتوفيق بين محاربة معاداة السامية من جهة، وحماية حرية التعبير وحماية الحوارات الدائرة المفتوحة حول مستقبل إسرائيل وفلسطين من جهة أخرى.
وأخيراً جاء التعريف الثالث المتضمن في وثيقة نكسيس (Nexus Document)، والمُقدم من فريق عمل من كلية بارنارد (Barnard College) وجامعة جنوب كاليفورنيا. وهذا التعريف يفيد بأن معاداة السامية تحتوي على: المعتقدات والمشاعر السلبية تجاه اليهود، والسلوك العدائي الموجه ضد اليهود (لأنهم يهود)، والظروف التي تميز ضد اليهود، وتعيق بشكلٍ كبير قدرتهم على المشاركة على قدم المساواة في الحياة السياسية، أو الدينية، أو الثقافية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية. كذلك تتضمن الوثيقة بياناً بأن: حتى الانتقادات المثيرة للجدل، أو الحادة، أو القاسية لإسرائيل بسبب سياساتها وأفعالها، بما في ذلك تلك التي أدت إلى إنشاء إسرائيل، ليست في حد ذاتها غير شرعية، أو معادية للسامية.
وأما التعريف الأكثر شيوعاً واستخداماً هو التعريف الأول الذي تبنته الكثير من الدول والمنظمات والجامعات، فهناك حتى اليوم 46 دولة حول العالم تستخدم هذا التعريف، إضافة إلى 38 ولاية أمريكية، و45 مدينة، و50 حكومة محلية في الولايات الأمريكية. أما على المستوى الاتحادي الأمريكي، فقد ذكر ترامب هذا التعريف في الفترة الأولى من حكمه في الأمر التنفيذي حول مكافحة معاداة السامية في 11 ديسمبر 2019، حيث جاء في الفقرة الأولى تحت عنوان: السياسة. إدارتي ملتزمة بمكافحة نمو حوادث معاداة السامية في الولايات المتحدة وحول العالم. وعلاوة على ذلك، فقد صادق الكونجرس الأمريكي ممثلاً في مجلس النواب في 6 ديسمبر 2023 على قرار ينص بأن معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية.
وهناك نقطتان مهمتان يجب التنبه إليهما حول هذا التعريف. أولاً فإن هذا التعريف انحرف عن مساره الأصلي، وخالف الأهداف التي وُضعت من أجلها في عام 2016، حيث جاء في مقدمة التعريف بأنه يهدف إلى: تقوية تعاون الحكومات للعمل نحو عالم بدون إبادة جماعية. أي أن روح التعريف يهدف إلى العمل الدولي الجماعي المشترك لمنع أية محارق وإبادة جماعية أخرى قد تُرتكب في حق أي شعب، أو عرق، أو جنس في أي مكان في العالم. ولكن الصهاينة من اليهود وغير اليهود غيروا هذا الهدف من التعريف لأنه لا يحقق مراميهم الخبيثة التوسعية والعنصرية، فعملوا عكس تيار التعريف كلياً، بل قاموا بالقانون بتجريم كل من يبدي رأياً مخالفاً، أو ينتقد، أو من يقف أمام استمرار الإبادة الجماعية التي يرتكبونها اليوم في غزة من خلال تطويع كلمات هذا التعريف لتخدم أهدافهم الاستعمارية الدنيئة، والقضاء على الشعب الفلسطيني كلياً، وتصفيته وإبادته تماماً حتى لا يكون هناك فلسطيني يطالب بأرض أو وطن.
فكل من ينتقد ممارسات الكيان الصهيوني ممثلة في الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني فهو معادٍ للسامية، حتى ولو كان يهودياً مثل عضو مجلس الشيوخ الأمريكي الديمقراطي بارني ساندرز. وكل من ينتقد ممارسات الكيان الصهيوني في ارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية فهو يكره اليهود ويعادي السامية، حتى ولو كان مسيحياً يدافع عن الكيان الصهيوني مثل النائبة الجمهورية في الكونجرس الأمريكي مارجوري تايلور جرين. وكل من تعاطف مع الشعب الفلسطيني في غزة فهم أيضاً معادون للسامية، حتى لو كانوا أنفسهم من الذين نجوا من محرقة اليهود في ألمانيا! وعلاوة على ذلك كله، فكل دولة غربية حليفة وصديقة للصهاينة إذا أبدت نيتها للموافقة على دولة فلسطينية فهي تقف في صف «حماس»، وتدعم وتكافئ الإرهاب، وتعادي السامية. كما أن كل منظمة دولية، كمحكمة العدل الدولية، ومحكمة الجنايات الدولية توافق على إبداء الرأي والمشورة فيما يحصل في غزة فهي تُتهم مباشرة بأنها تقف مع حماس والإرهاب وتعادي السامية. ومن المضحك والجدير ذكره أن ترامب نفسه أُتهم بأنه معادٍ للسامية بسبب استخدامه في خطابه في 4 يوليو 2025 مصطلحا يُشكل حساسية بالنسبة إلى اليهود!
وأما النقطة الثانية والمهمة جداً فإن هذا التعريف عندما وُضع في عام 2016 كان غير ملزم قانوناً، ولكن ما حدث بعد اعتماد التعريف بسنوات، أن الصهاينة بذلوا مجهوداً غير طبيعي، وجندوا كل الطاقات والأدوات لتحويله إلى قانون ملزم لمنظمات الأمم المتحدة وسائر دول العالم بالرغم من معارضة بعض مؤلفي التعريف، ثم تحويل القانون إلى سلاح مرعب لإرهاب كل من يجرؤ على انتقاد ممارسات الصهاينة. ومن الدول التي لها السبق والريادة بشكلٍ فاعل ومؤثر في تحويل التعريف إلى تشريع وسلاح مخيف، وسياسة عامة للدولة هي الولايات المتحدة الأمريكية، وبخاصة في عهد ترامب في الفترة الأولى، وحالياً في الفترة الثانية. ففي الفترة الأولى أصدر أمراً تنفيذياً يتبنى فيه التعريف، واليوم يستخدم نفوذه وقوته الرئاسية ليفرض رؤيته وسياسته الموالية للصهيونية في الولايات الأمريكية أولاً، ثم سائر دول العالم ثانياً. فهو يعمل على استئصال القضية الفلسطينية من جذورها في الجامعات بشكل رئيس، حيث ربط سياسة الجامعة في قمع الأنشطة المؤيدة لفلسطين والمعادية للسامية، كما يدَّعي، بالمساعدات والمنح المالية الاتحادية التي تحصل عليها. فبدأ أولاً بفخر جامعات أمريكا في مايو 2025، وأكثرها عراقة وتقدماً فجعلها ترضخ لمطالبه، وآخرها كانت جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس في 7 أغسطس 2025، حيث جمد 584 مليونا من الدعم المالي. فقام بابتزاز هذه الجامعات مالياً وقضائياً وقانونياً لإلزامها على إعطاء صفة شرعية خاصة لليهود والصهاينة في الجامعات، وتكميم الأفواه والمُعارضَة، وقمع ومحاكمة وطرد كل من يبدي أي رأي دفاعاً عن القضية الفلسطينية.
وأما على المستوى الدولي فقد حارب ترامب باسم القانون الأمريكي وتحت ذريعة معاداة السامية كل المنظمات الأممية التي لها علاقة بفضح جرائم الكيان الصهيوني، منها انسحابه لأول مرة من مجلس حقوق الإنسان في 20 يونيو 2018، والانسحاب مرة ثانية في 4 فبراير 2025 ووقْف مشاركة أمريكا في المجلس الحقوقي الأممي، إضافة إلى ممارسة ترامب سياسة التنمر سراً وعلناً والضغط الشديد على الحكومات والمنظمات للانضمام إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني، ووقف جميع الإجراءات القانونية ضد الحكومة الصهيونية عامة، وضد نتنياهو بصفة خاصة. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، هدَّد المستشار القانوني لوزارة خارجية ترامب في 8 يوليو 2025 ريد ريبينشتين (Reed Rubinstein) جميع دول العالم في اجتماع رسمي لمحكمة الجنايات الدولية قائلاً: نحن نتوقع أن تتوقف جميع الإجراءات ضد الولايات المتحدة وحليفتنا إسرائيل وكل التحقيقات ومذكرات الاعتقال.
فكل هذه الحصانة القانونية والدبلوماسية التي يحمي بها الغرب عامة، وأمريكا خاصة هذا الكيان الصهيوني بحجة معاداة السامية، هي التي أطلقت سراح الصهاينة لارتكاب الإبادة الجماعية الشاملة دون تردد أو خوف من أحد، وجعلتها تفلت من أي حساب، أو مسائلة، أو عقاب.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك