يقول خبير تطوير الذات وجودة الحياة السعودي عبدالله القاسم: «إحدى علامات التصالح مع الذات الشعور بالاكتفاء وعدم الاعتماد على رأي الآخرين في تقييم نفسك، ورضاك عما تقوم به، وأن تكون أفعالك بدافع داخلي، وليس من أجل التظاهر بها أمام الناس».
فاطمة عبدالهادي مرهون، الطبيبة البشرية بمركز الجينوم الوطني بوزارة الصحة، امرأة من طراز خاص، استطاعت بمهارة أن تتصالح مع نفسها ومع ما مر بها من محن قد تمثل للبعض نهاية الحياة، حيث تعاطت معها بتلقائية وبرضا بما قسمه الخالق لها فاتخذت منها وسيلة للتعايش مع الحاضر من أجل الوصول إلى مستقبل أكثر أمنا وسلاما.
حين أراد لها القدر أن ترزق بأخ يعاني من اضطراب طيف التوحد قررت أن تكون حصنه الأمين الذي يوفر له كل أنواع الرعاية والحماية وذلك منذ طفولتها، حيث وجدت في ذلك الكثير من الراحة النفسية والسعادة الدائمة، الأمر الذي صنع منها شخصية مختلفة متميزة قادرة على مواجهة أي أزمات مهما بلغت شدتها، وهذا ما حدث بالفعل حين اكتشفت أن ابنها الأول والوحيد مصاب كذلك بنفس الاضطراب.
هكذا كانت رحلة حياتها، مليئة بالكثير من التحديات، ومع ذلك ظلت بسمة الرضا تداعب وتلازم شفتيها دوما، لثبت أنه لا معنى للحياة إذا لم يكن أمام الإنسان هدف يسعى لأجله، وان كل مر سيمر، وأنه مهما آلمتنا الحياة علينا ان نواصل المسيرة بكل قوة وألا ننكسر.
في الحوار التالي سوف نتوقف عند أهم المحطات.
حدثينا عن طفولتك؟
أعتبر نفسي عشت طفولة سعيدة بل ومميزة، والسبب وراء ذلك هو كوني اختا لطفل مصاب باضطراب طيف التوحد، إذ قررت أن أكون له الحصن الأمين الذي يحميه ويمده بالقوة ضد أي مشاكل أو عثرات، وقد أدركت معنى هذا الاضطراب حين كان عمري حوالي ست سنوات، وخاصة في البيئة المدرسية التي اشعرتني بأن حالته مختلفة عن الآخرين، ومع الوقت بدأت أتدرب على كيفية التعامل معه، وهو شيء لم يكن معروفا في ذلك الوقت، علما بأن فارق العمر بيننا حوالي عامين.
أهم الصعوبات التي كانت تواجهه؟
من أهم التحديات التي تواجهها الحالات المصابة باضطراب طيف التوحد التنمر الاجتماعي، ومن ثم تعرضه للعزلة وللألفاظ الجارحة منها مثلا وصفه بالمجنون أو بأنه غير طبيعي، وغيرها من التوصيفات التي تؤذيه نفسيا، وبالطبع كنت ادافع عنه دوما، وأحاول أن اشرح حالته لمن حوله قدر الإمكان.
ماذا كان وراء دراستك للطب؟
لقد كان حلمي في الطفولة أن أصبح رائدة فضاء، ونظرا إلى صعوبة تحقيق ذلك في عالمنا العربي في تلك الفترة تخليت عن هذا الطموح مع الوقت، وحين توفيت بنت خالي فجأة في مدرستها والتي كانت مصابة بمرض في القلب بسبب ولادتها المبكرة، شعرت بألم شديد بدأ يتولد معه اهتمام كبير بعلم الطب، وكان ذلك بالصف الأول الثانوي، ومع الوقت زاد شغفي بهذا المجال، فالتحقت بجامعة الخليج العربي كي أصبح طبيبة في المستقبل.
وبعد التخرج؟
في العام الرابع الجامعي وتحديدا في سنة الامتياز رزقت بطفلي الأول وأصبحت زوجة وأم وطالبة في نفس الوقت، وبالطبع كانت مرحلة صعبة للغاية، ومع الوقت اكتشفت بنفسي أن ابني يعاني من اضطراب طيف التوحد مثل اخي، ثم تم تشخيصه بالفعل من قبل الأطباء، وكانت أول محطة عملية لي في عيادة خاصة كطبيبة عامة، بعدها حصلت على منحة من عمان لدراسة تخصص الاستشارات الوراثية وذلك من بين خمسة مرشحين من دول مجلس التعاون، وكنت البحرينية الأولى والوحيدة التي تخرجت في هذا البرنامج (الاستشارات الوراثية) الذي امتد لحوالي عام ونصف.
كيف تم اكتشاف حالة ابنك؟
بعد انهاء هذا البرنامج في بداية أزمة كورونا، عدت من عمان الى البحرين، وتزامن ذلك مع تشخيص حالة ابني الأول والوحيد بإصابته باضطراب طيف التوحد، حيث لاحظت ظهور بعض الاعراض عليه، التي تشير إلى انه طفل مختلف عن الآخرين خاصة وتولدت لدي قناعة بأنه بالفعل مصاب بهذا الاضطراب، وخاصة أن لي تجربة سابقة مع أخي وحين بلغ عمره حوالي عام زادت علامات الإصابة وتم تشخيصها من قبل الطب النفسي.
رد فعلك؟
لقد شعرت براحة تامة حين تم تشخيصه طبيا بانه مصاب بهذا الاضطراب، لأنني أدركت هنا سبب اختلافه عن الآخرين، وتعاملت مع الأمر بكل تصالح مع النفس، وبدأت رحلة علاجه سلوكيا ووظيفيا مبكرا، وتم تدريبه على اللغة والنطق والمهارات الحياتية ويبلغ عمره حاليا ثماني سنوات وهو طالب في مدرسة عالية الوطنية الخاصة.
ماذا علمتك هذه التجربة؟
يمكن القول بأن تجربتي مع ابني ومن قبله أخي الذي يبلغ عمره 33 عاما حاليا قد قومت مسار حياتي، وجعلتني أتقبل الاختلافات البشرية بشكل أكبر والتعايش مع الآخرين، واليوم رغم فارق العمر الكبير بينهما واختلاف الحالة، فإنهما يلتقيان عند اهتمامات مشتركة، وتجمعهما علاقة وطيدة، وقد قررت أن أقوم بدور اجتماعي فيما يتعلق بالنظرة إلى هذه الفئة والتوعية بأنهم ليسوا مختلفين بل هم امتداد طبيعي لما نحن عليه.
وما جهودك في هذا الصدد؟
لقد عزمت على أن أكون عضوا نشطا وفعالا في هذا المجال، وذلك من خلال جمعية التوحديين البحرينية، واحاول جاهدة التعريف بهذه الفئة وبكيفية التعامل معها، وبأهمية انصهارهم في المجتمع الذي يتسم بالاختلاف البشري، وكذلك العمل على التصدي لأي مشاكل أو صعوبات قد تواجههم أو تقف في طريقهم، وخاصة أنهم يحملون الكثير من الطاقات الإبداعية بداخلهم وابني مثال على ذلك.
نواحي الإبداع لدى ابنك؟
لقد تم تشخيص ابني على أنه مصاب باضطراب طيف التوحد ذي الأداء العالي، وذلك لكونه مبدع في الكثير من النواحي، فهو يتقن سبع لغات بالتعلم الذاتي على اليوتيوب، كما له اهتمامات خاصة بعالم الفضاء وتعلم عنه الكثير بنفسه كذلك، فضلا عن تمتعه بموهبة جغرافية تجعله يعلم عاصمة أي دولة في العالم، إضافة إلى إلمامه بجدول العناصر الكيميائية وجدول الضرب وغيرها من المجالات التي أثبت فيها مهارات ملفتة، واتمنى ان يحقق ذاته في أي مجال يحبه ويرغب فيه، وسأظل متمسكة بدوري في تذليل أي عثرات أمامه في سبيل ذلك، وتلك هي رسالتي للآباء ان يفسحوا الطريق لأبنائهم كي يحققوا احلامهم ويقدموا لهم لك الدعم والتشجيع لبلوغ أهدافهم.
مشاريعك الحالية
حاليا بصدد إنهاء رسالة الماجستير في الطب الشخصي الجيني وهي تبحث عن مرض التوحد كسر من اسرار الكون، والذي يفسر علميا الآن على أنه اضطراب نمائي عصبي ذو ثقل وراثي، وكم أتمنى أن أسهم في الكشف عن خفاياه ومن ثم مساعدة هذه الفئة التي تعاني منه.
أسباب حصولك على جائزة امرأة العام؟
كم أنا فخورة لكوني أول بحرينية تحصل على لقب امرأة العام عن قطاع الصحة 2024، وذلك لعدة أسباب منها الابتكار والريادة، حيث أصدرت كتابا صوتيا يمثل دليلا عن اضطراب طيف التوحد، ويمكن الحصول عليه في أي بقعة في العالم، كما اعددت حوالي 200 محاضرة وورشة عمل عن نفس المرض إلى جانب الاعاقات المختلفة.
كيف تأهلت لهذا الدور التطوعي؟
لقد أهلت نفسي للقيام بهذا الدور التطوعي عبر حصولي على دبلوم التوعية باضطراب طيف التوحد من أمريكا، إلى جانب عدد من الشهادات الاحترافية في هذا المجال، وكانت لي مشاركات دولية وإقليمية تحت نفس الإطار منها المؤتمر الإقليمي الثاني حول بناء وتبادل التعلم المشترك حول قضايا الصحة الإنجابية لذوي الإعاقة، الأمر الذي رشحني للحصول على بعض الجوائز والتكريمات التي اعتز بها منها درع تاج الهمم لدوري كناشطة في التوعية بالإعاقة بشكل عام، ووسام من المركز البحريني للحراك الدولي للمشاركة في المؤتمر الإقليمي قضايا الصحة الإنجابية لذوي الإعاقة.
حلم تتمنين تحقيقه؟
من الأحلام التي ضاعت وسط زحمة الحياة وانشغالاتها وأتمنى تحقيقها في يوم من الأيام هو إقامة معرض فني يضم أعمالي على مدار السنين، والتي تتركز في رسم البورتريه بالحبر الجاف، والتي جاءت نتاج موهبتي الفنية التي أعتز بها كثيرا، أما حلمي الآخر فهو أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه مملكة البحرين ملاذا آمنا للتوحديين تأهيليا وصحيا وتعليميا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك