أعتبر أن ما نحمله من فهم لمعنى أي حدث تاريخي قد يشهده عالمنا إنما يتوقف على عاملين أساسيين اثنين، حيث يتمثل العامل الأول فيما نختار تحديده كنقطة انطلاق في فهمنا لهذا الحدث التاريخي، فيما يتمثل العامل الأساسي الثاني في العدسة التي ننظر من خلالها إلى هذا الذي نعده حدثا تاريخيا.
ينبغي أن يكون هذا واضحًا، ولكن لسوء الحظ، ليس الأمر كذلك. لذلك فإن الفشل في الاعتراف بأهمية الحدث التاريخي أو فهمه له عواقب في كل شيء بدءًا من السياسة العامة إلى العلاقات الشخصية.
قد يتم ُتجاهل هذا الواقع نتيجةً للسطحية الفكرية، أو التغاضي عن انحياز وانتماءات المرء، أو لمجرد الجهل الذي يعاني منه البعض، لكن في بعض الأحيان، قد تكون هناك نية خبيثة، بما في ذلك محاولات إخفاء ما يعلم المرء أنه مقدمات لحدث ما عمدًا لأسباب سياسية أو شخصية.
قبل الخوض في القضية التي دفعتني إلى كتابة هذا المقال، أودّ أن أذكر مثالاً. أشار الكوميدي ديك غريغوري ذات مرة إلى أنه على الرغم مما تعلّمه الأمريكيون في المدارس، فإن «كريستوفر كولومبوس لم يكتشف أمريكا، لأن أمريكا لم تكن ضائعة». تبدو هذه وجهة نظره بسيطة، لكن عند التدقيق فيها، تكشف عن حقائق أعمق.
إن عبارة «اكتشف كولومبوس أمريكا» فيها الكثير من التجني على حقيقة التاريخ، لأنها عبارة تمحو تاريخ وحضارة ومساهمات المجموعات البشرية الأصلية التي سكنت الأراضي التي أطلق عليها الأوروبيون اسم العالم الجديد.
وحتى مصطلح «العالم الجديد» كان قناعًا رقيقًا لفهمهم الذاتي ونواياهم الاستعمارية. «لقد اكتشفنا هذه الأراضي، وهي ملك لنا لنستولي عليها، ونُسمّيها، ونستغلها» – هكذا كان يردده المستعمرون الأوروبيون.
كان التاريخ الأمريكي الذي تعلمناه امتدادًا للتاريخ الأوروبي. فقد بدأ مع كريستوفر كولومبوس، ثم انتقل إلى المستعمرين الإسبان والبريطانيين والفرنسيين، وبلغ ذروته في حرب الاستقلال الأمريكية وولادة الولايات المتحدة. عومل السكان الأصليون كلاعبين ثانويين في القصة المتكشفة - أحيانًا كحاشية، وأحيانًا كعقبة مزعجة وجب التخلص منها.
تنشأ هذه القصة للتاريخ الأمريكي من اختيار كولومبوس كنقطة بداية واستخدام عدسة أوروبية مركزية لدرجة أنها ترى فقط الشعوب الأصلية التي سكنت هذه الأرض على أنها أقل من البشر وبالتالي أقل استحقاقًا لتحديد تاريخهم الخاص أو حتى البقاء على أرضهم.
لقد تم إبعاد السكان الأصليين و/أو قتلهم، وتم تجاهل إنسانيتهم، وتم تبرير معاملتهم لأنهم كانوا أقل قيمة من الأوروبيين الذين شردوهم وقتلوهم وسفكوا دماءهم وسلبوهم أراضيهم.
لقد دفعني هذا الأمر إلى إمعان التأمل والتفكير بعمق في الطريقة التي لا تزال تعتمدها مختلف وسائل الإعلام الغربية في تغطية حرب إسرائيل على غزة ومناقشتها في الدوائر السياسية الغربية.
يبدو أن المراسلين الأمريكيين مُلزمون بتضمين سطر في تقاريرهم يقول: «بدأت الأعمال العدائية في 7 أكتوبر 2023، عندما هاجم مسلحو حماس إسرائيل، ما أسفر عن مقتل 1200 شخص واحتجاز 250 رهينة». وليس من قبيل الصدفة أن يظهر هذا السطر (أو ما يشبهه) في كل قصة صحفية أمريكية تقريبًا.
لا بد أن نتفق جميعًا على أن ما حدث في السابع من أكتوبر كان صادمًا للإسرائيليين واليهود حول العالم. كانت صدمةً أن يُخترق أمنهم، وأن يتم تنفيذ أعمال كهذه على يد حماس وآخرين انضموا إليها، لكن التاريخ لم يبدأ أو ينتهي في السابع من أكتوبر 2023.
نتذكر أنه قبل أسابيع قليلة من الهجمات التي قادتها حماس، أشار مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي آنذاك جو بايدن، جيك سوليفان، إلى أن الشرق الأوسط يشهد أهدأ حالة منذ سنوات. وقد تجاهل هذا التصريح الواقع الفلسطيني، وأوضح الصورة المتحيزة التي كان ينظر من خلالها إلى المنطقة.
لقد تجاهل نتنياهو الخنق الاقتصادي المستمر الذي تفرضه إسرائيل على غزة (الذي جعل الفلسطينيين يعتمدون بشكل متزايد على إسرائيل أو حماس في معيشتهم) والتهديد المتزايد المتمثل في عنف المستوطنين وتوسيع المستوطنات ومصادرة الأراضي في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
بعد أسابيع قليلة من السابع من أكتوبر 2023، التقيتُ السيد سوليفان واستمعتُ إليه يصف ألمَ الإسرائيليين وخوفَهم، وكيف استعادَ السابع من أكتوبر صدماتِ تاريخهم. أخبرتُه أنني أفهمُ تمامًا مواقفه. مع ذلك، حذرته من تجاهل صدمة الفلسطينيين - آلامهم ومخاوفهم - وتاريخهم مع التهجير. لقد غضب بشدة يومها واعتبر تعليقاتي «مجرد هراء».
ومع مرور الأسابيع والأشهر، كلما كتبت عن ارتفاع عدد الضحايا المدنيين الفلسطينيين، أو قصف المستشفيات، أو حرمانهم من الماء والغذاء والدواء والكهرباء، أو التدمير المتعمد لأكثر من 70% من مباني قطاع غزة، والطرد القسري المتكرر للأسر، كانت الردود التي أتلقاها تتضمن على نحو ثابت: «حماس بدأت هذا»، «ماذا عن الرهائن»، أو ما هو أسوأ من ذلك.
بمعنى آخر، كانت حياة الإسرائيليين هي كل ما يهم، وهكذا أصبحت الرواية الإسرائيلية هي الرواية الوحيدة المقبولة. بمعنى آخر، أن القصة بدأت في السابع من أكتوبر 2023، ولطالما برزت قدرة الإسرائيليين على التحكم في الرواية الصراع. يقولون: «وعد بلفور منح إسرائيل حقًا قانونيًا في فلسطين»؛ أو «في عام 1948، هوجمت إسرائيل الصغيرة من قِبل جميع الجيوش العربية المحيطة»؛ أو «في عام 1967، كانت إسرائيل تدافع عن نفسها فقط».
إن كل هذه «نقاط البداية» التي حددتها إسرائيل هي خيالات تتجاهل كل ما أدى إليها، والقصص التي ترويها لا تُرى إلا من خلال العدسة المتحيزة لأولئك الذين فرضوها.
إن مشكلة الروايات الزائفة القائمة على تواريخ متحيزة لا تقتصر على إسرائيل أو الولايات المتحدة فحسب، بل هي، للأسف، شائعة جدًا، لا سيما في حالات الصراع. فعندما يقع الساعون إلى حل نزاع أسرى لتعريفات ومنظور أحد الطرفين، فإن ذلك يُمهّد الطريق لاستمرار التوتر، وصولًا إلى الكارثة في نهاية المطاف.
يتطلب صنع السلام بذل جهد للارتقاء فوق الروايات الزائفة، والمنطلقات الأنانية، والتصورات المتحيزة لهذا الطرف أو ذاك. هذا ليس «مجرد تبرير» - بل قيادة. وهي غائبة بشدة في الولايات المتحدة.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك