بين زحام الحياة وضغوطها اليومية، قد نغفل نحن الكبار عن أبسط ما يحتاج إليه الطفل: كلمة هادئة، أو نظرة حانية، أو لحظة إنصات صادقة، كثيرًا ما تتحول مواقف عابرة إلى ندوبٍ في ذاكرة الصغار، لا لأننا قلنا «لا»، بل لأننا قلناها بقسوة، أو لأننا اختزلنا التربية في صراخٍ وتهديد، الحقيقة أن التربية ليست مجرد أوامر ونواهٍ، بل هي فنٌّ قائم على التوازن بين الحزم والرحمة، بين الحب والانضباط. فالأطفال لا يحتاجون إلى المزيد من الأشياء بقدر ما يحتاجون إلى أن يُفهموا، أن يُحترموا، وأن يشعروا أن مشاعرهم لها قيمة.
لفت انتباهي وأنا أتجول في أحد المجمعات التجارية صوت امرأة تصرخ بغضب على طفلها الصغير الذي لم يتجاوز الخامسة من عمره، وتوبّخه أمام الجميع، بينما كان الطفل يبكي بحرقة ويرجوها أن تستمع إليه. كانت تسحبه من ذراعه بقوة وهي تردد كلمات قاسية مثل: «أنت فشلتني جدام الناس!» و«بتشوف شنهو بسوي لك لما انوصل البيت»، «باحرمك من اللعب إذا ما سكت!» أما هو فظل يصرخ ويتوسل أن تمنحه لحظة من الإنصات «بليز ماما»، ولكن من دون جدوى، كنت أراقب المشهد من بعيد، ولكن ما زالت الأم تسحب الطفل من قميصه فحاولت أن أفهم ما الذي يحدث، وبعد برهة، أدركت أن الطفل لم يكن يطلب شيئًا غريبًا أو مبالغًا فيه، بل فقط أراد أن تشتري له والدته زوجًا من الجوارب المزينة برسوم شخصيته الكرتونية المفضلة، وقد رفضت الأم ذلك بحجة أن لديه الكثير منها في المنزل، ربما كانت على حق، وقد يكون الرفض مبررًا، لكن السؤال الذي لم أستطع تجاوزه هو: لماذا اختارت التعامل مع الطفل بهذا الأسلوب؟ لماذا تحوّل الرفض إلى تهديد، والبكاء إلى عار، والموقف كله إلى ساحة صراع أمام الناس؟ في تلك اللحظة تساءلت: «كم من الأمهات والآباء يعيشون مواقف مشابهة يوميًّا، وهم لا يدركون أن ما يظنونه «تربية»، لم يكن كذلك، وكم من الأطفال يعيشون المواقف نفسها، ويخرجون منها بجراح صامتة يظنها الأهل مجرد تفاصيل عابرة، وهي في الواقع جرح عميق يظل في ذاكرة الطفل لا يعرف متى وكيف يتم علاجه.
أن التربية ليست أن نقول «لا» فقط، بل كيف ومتى نقولها، وبأي نبرة وصوت وحضور عاطفي. لا أحد ينكر الضغوط التي يمر بها الآباء والامهات، ولا حجم المسؤوليات التي تنهال عليهم يومًيا، لكن وسط كل ذلك، يبقى الحب هو الملاذ، والاحتواء هو الحاجة الأولى التي يطلبها الطفل دون أن يعبر عنها بالكلام. كثير من الأطفال يبكون، لا لأنهم معاندون أو مدللون، بل لأنهم لا يجدون لغةً أخرى للتعبير، هم لا يملكون مفردات الدفاع عن رغباتهم في هذا العمر، أو شرح دوافعهم، هم يصرخون، يتمسكون بأشياء بسيطة ليس لذاتها، بل لأنها رمز لرغبتهم في أن يُسمَعوا ويُفهَموا من قبل أهلهم.
إن التربية بالحب لا تعني أن نرضخ لكل طلب، ولا أن نلغي الحدود معهم، بل أن يشعر الطفل بأننا موجودون له ومن أجله، نفهم دوافعه حتى لو رفضناها، نحاوره حتى لو لم نقتنع برأيه، نرفض بلطف، نمنع دون إهانة، ونوجه من دون قسوة. الحب لا يظهر في تقديم الهدايا ولا في كثرة المشتريات لهم، بل في لحظة الغضب، في طريقة النظرة، في نبرة الصوت، في قدرتنا على أن نضبط أنفسنا ونحن نربي، بعض الآباء يظنون أن الحزم يتطلب الشدة والصراخ، وأن الحنان يعني الضعف، والحقيقة أن التربية تحتاج إلى توازن دقيق بين العاطفة والانضباط، وبين الحزم والرحمة، وبين الصوت الهادئ والكلمة الثابتة. لا بأس أن نقول «لا»، لكن ما أجمل أن نقولها بلغة يفهمها الطفل دون أن يشعر بأنه مرفوض أو قليل الشأن. كثير من السلوكيات التي نراها لاحقًا في المراهقين والبالغين من عناد، وتمرد، وقلة احترام، تكون جذورها لحظات الطفولة التي لم يُحتوَى فيها الطفل، ولم يُشعره أحد بأن مشاعره مهمة. التربية بالحب لا تصنع طفلًا مدللًا كما يُشاع، بل تصنع إنسانًا سويًّا يعرف قيمته، يحترم نفسه، ويحترم من حوله. طفل تربى على الحب ولديه مناعة نفسية، يثق بوالديه، ويتخذ منهم قدوة لا يخشاها بل يحبها ويتعلم منها.
في المقابل، التربية التي تعتمد على الخوف والصراخ تربي طفلًا خائفًا، وربما كاذبًا، أو متمردًا، أو منغلقًا على نفسه، يخشى التعبير عن احتياجاته لأنه تعلّم منذ الصغر أن الصوت المرتفع هو الرد النافع، وأن الدموع عار، وأن المشاعر عبء على من حوله، أليس من حق أطفالنا أن يعيشوا تجربة الطفولة بكل هدوء، أليس من واجبنا نحن الكبار أن نكون الكتف الذي يستندون إليه لا الصوت الذي يخيفهم؟ التربية بالحب لا تعني أن يكون كل شيء مسموحًا، لكنها تعني أن يكون كل شيء مفهومًا. الطفل قد ينسى ما قلناه، لكنه لن ينسى كيف جعلناه يشعر حين رفضنا طلبه، حين عاتبناه، حين وبّخناه، حين بكيناه أمام الجميع، هناك أطفال نشأوا في بيوت متواضعة، لكنهم كبروا بشخصيات متزنة، فقط لأن والديهم أحبّوهم بطريقة صحيحة، وهناك أطفال عاشوا في بيوت مترفة، لكنهم خرجوا الى الحياة وهم يبحثون عن حب لم يعرفوه يومًا رغم وجود كل شيء مادي حولهم. ليس المهم كم نمنح أبناءنا، بل كيف نمنحهم، وبأي روح، وبأي طريقة.
إن الطفل حين يرى في عيني والديه حبًّا، واحترامًا، واهتمامًا، يكبر بقلب مليء بالرضا، ويصبح أكثر قدرة على مواجهة الحياة بثقة وتوازن. وسيأتي اليوم الذي ينظر فيه هذا الطفل إلى الوراء، ويسترجع مواقف من طفولته، فإن وجد فيها حبًا، وغفرانًا، ودفئًا، سيحملها معه عمرًا كاملًا، وسينقلها إلى أطفاله في المستقبل، وهكذا يتوارث الحب كما تتوارث الملامح واللغات. التربية ليست قوانين تُطبّق، بل أثر يُزرع في القلب والعقل معًا. وحين نربي أبناءنا بالحب، فإننا لا نُحسن إليهم فقط، بل نُحسن إلى العالم بأسره، لأننا نُقدّم له يومًا ما إنسانًا يعرف كيف يحب، كيف يفهم، وكيف يكون نورًا في حياة الآخرين. فلتكن البداية من كلمة هادئة، من حضنٍ دافئ في لحظة بكاء، من تفسيرٍ بسيط بدل صراخ وتهديد، من إنصاتٍ دون عجلة. فهذه اللحظات الصغيرة هي التي تصنع الفارق الكبير في مستقبل أطفالنا، وتبقى معهم ما بقوا. وتبقى التربية بالحب أعظم استثمار في إنسان الغد.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك