لا يمكننا أن نتنبأ بالمستقبل، ولا نعرف ما الذي يخفيه لنا الغد، فالغد والمستقبل بيد رب المستقبل الذي خلقه في الماضي، ولكن يمكننا نوعًا ما استشراف المستقبل من خلال مجموعة من المرتكزات التي يمكن أن تمنحنا بعض العمق والاتساق. ومن الغريب أنه عند التحدث عن المستقبل فإنه يجب التركيز على المهارات التي يجب أن يمتلكها الإنسان في المستقبل والتي تعني الحديث عن قدرة الإنسان على التكيف، الإبداع، والقيادة في عالم سريع التغير، إذ لم تعد المعرفة وحدها كافية، بل أصبحت المهارات هي العملة الحقيقية للنجاح.
ومرة أخرى، لا نتحدث عن المستقبل كنوع من التنبؤ، بل الاستعداد، والتخطيط، وصناعة المستقبل، ومن الجدير بالذكر أن هناك فرق بين المستقبل كزمن قادم، والمستقبل كمشروع إنساني.
فلو حاولنا مثلاً أن نتصور بعض ملامح المستقبل من النواحي الثلاث المتكاملة؛ وهي النواحي العلمية، والفلسفية والإنسانية، لقلنا إن المستقبل ربما سيكون كالآتي:
أولاً: الملامح العلمية للمستقبل؛ العلم يرسم ملامح المستقبل من خلال الابتكار والتطور، ومن أبرز الاتجاهات، كما نعتقد:
1. الذكاء الاصطناعي المتقدم، ليشمل:
* سيتطور الذكاء الاصطناعي ليصبح أكثر قدرة على اتخاذ قرارات مستقلة، وربما يشارك في صياغة السياسات أو إدارة المجتمعات.
* يمكن أن يظهر ما يعرف بـ(الذكاء الاصطناعي التعاوني) الذي سيعمل جنبًا إلى جنب مع البشر في الطب، التعليم، والقضاء.
* بالإضافة إلى الواقع المعزز، الروبوتات، الحوسبة الكمية، وما إلى ذلك.
2. الطب الجيني والتعديل الوراثي، ليتضمن:
* القدرة على علاج الأمراض الوراثية قبل الولادة.
* تصميم أطفال بمواصفات معينة، وإن كنا نؤمن أن هذا الموضوع مثير للجدل من الناحية الأخلاقية والدينية، ولكن ربما هذا ما يمكن أن يحدث.
3. الطاقة المستدامة، ليتضمن:
* الاعتماد الكامل على الطاقة الشمسية، النووية النظيفة، والاندماج النووي، والتخلي بصورة تدريجية عن الطاقات الاحفورية
* ستبنى مدن في بعض دول العالم تعمل بالكامل بالطاقة المتجددة.
* وربما ستشمل أيضًا القضايا البيئية، وربما من أهمها موضوع التغير المناخي، الأمن الغذائي والمائي.
4. استكشاف الفضاء، وربما تتضمن:
* إيجاد مستعمرات بشرية على القمر والمريخ.
* يمكن عمل برامج لسياحة فضائية وتجارب حياتية خارج الأرض.
ثانيًا: الملامح الفلسفية للمستقبل؛ الفلسفة لا تتنبأ بالمستقبل، لكنها تطرح تساؤلات حوله:
1. مفهوم الزمن، مثل الأسئلة التالية:
* هل المستقبل موجود بالفعل؟ أم أنه يُخلق لحظة بلحظة؟
* هل يمكن للوعي أن يتجاوز الزمن؟ وهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يملك وعيًا؟
2. الهوية والذات، مثل:
* مع تطور الذكاء الاصطناعي، هل ستتغير نظرتنا لما يعنيه أن تكون (إنسانًا)؟
* هل يمكن أن نندمج مع الآلة ونفقد جزءًا من إنسانيتنا؟
3. الأخلاق المستقبلية، وربما تشمل:
* كيف نحدد ما هو (صحيح)، وما الخاطئ في عالم تتحكم فيه الخوارزميات؟
* هل ستتغير القيم الأخلاقية مع تغير شكل المجتمعات؟
ثالثًا: الملامح الإنسانية للمستقبل؛ والجانب الإنساني يركز على التفاعل البشري، المشاعر، والثقافة، مثل التالي:
1. التحولات الاجتماعية، وتشمل:
* ربما سيتغير شكل الأسرة، التعليم، والعمل.
* ربما تظهر مجتمعات رقمية تعيش في الواقع الافتراضي.
2. الوعي الجمعي، وتتضمن:
* سيتطور فهم الإنسان لذاته وللآخرين، وربما ظهور نماذج جديدة من التعاون العالمي.
* سيتزايد الاهتمام بالصحة النفسية والرفاهية الداخلية.
3. وكذلك يمكن أن تتغير أنماط الحياة، ويصبح التعليم تعليمًا رقميًا، وننطوي جميعًا تحت الهوية الرقمية
4. الفن والثقافة، مثل:
* اندماج الفن مع التكنولوجيا كالفن الرقمي، فالموسيقى تولدها الخوارزميات، والذكاء الاصطناعي.
* إعادة تعريف الجمال والإبداع في عصر الذكاء الاصطناعي.
5. الاقتصاد: فمن الطبيعي أن تشمل العملات الرقمية، الاقتصاد التشاركي، التحول نحو الاستدامة.
هذه بعض الملامح التي نتوقعها للمستقبل، قد تكون صحيحة أو لا، ولكن من أجل هذا المستقبل على الإنسان أن يمتلك بعض المهارات التي تساعده أن يتعايش مع الأوضاع الجديدة، فالعالم سريع التغيير، كلها لحظات وسنجد أنفسنا في عام 2030 أو حتى بعد ذلك، فما المهارات التي يجب أن نتملكها؟
المهارات التي يجب أن يمتلكها الإنسان استعدادًا للمستقبل
نجد أنه من الصعوبة أن نحدد تلك المهارات التي يجب أن يمتلكها الإنسان حتى يستعد للولوج إلى المستقبل، ولكن دعونا نحاول:
التفكير التحليلي؛ والذي يعني تلك العملية العقلية التي تهدف إلى تحليل المعلومات أو المشكلات إلى مكوناتها الأساسية، وفهم كيفية ترابط هذه المكونات، بهدف التفسير، التقييم، أو اتخاذ القرار، لذلك فإن على الإنسان في المستقبل أن يمتلك الإجابة عن هذه الأسئلة:
* ماذا؟ بمعنى تفكيك المشاكل المعقدة واتخاذ قرارات منطقية.
* لماذا مهم؟ الذكاء الاصطناعي سيُغرقنا بالبيانات، ولكن أصحاب التفكير الواضح هم الذين سيتمكنون أن يبرزوا على الساحة.
* كيف تطوره؟ يجب على إنسان المستقبل أن يتمكن من حل المشكلات اليومية بخطوات مُنظمة، مثل: تحليل أسباب التأخر عن العمل، ضعف إنتاجية الموظف أو المؤسسة؟ بالإضافة إلى قدرته على التعامل مع المشكلات غير المسبوقة بطرق مبتكرة، بهدف اتخاذ القرار المناسب.
الذكاء العاطفي؛ هو قدرة الإنسان على فهم مشاعره ومشاعر الآخرين، وإدارتها بشكل فعّال في مختلف المواقف الحياتية، سواء الشخصية أو المهنية، ولكن قد يتساءل بعضنا هل نحتاج إلى هذا النوع من الذكاء في المستقبل؟ يمكننا أن نقول إنه في عالم قد تسيطر فيه الخوارزميات والذكاء الاصطناعي على كثير من جوانب الحياة، سيبقى الذكاء العاطفي هو ما يجعل الإنسان قادرًا على التواصل، التفاعل، والتأثير. فالذكاء العاطفي ليس مجرد مهارة، بل هو جوهر الإنسانية في عصر التقنية.
التعلم مدى الحياة؛ وهو فلسفة تربوية وإنسانية، تقوم على فكرة أن التعلم لا يتوقف عند سن معينة أو مرحلة تعليمية محددة، بل هو عملية مستمرة طوال حياة الإنسان، تشمل كل جوانب الحياة: المهنية، الشخصية، الثقافية، والروحية. ففي المستقبل قد يصبح التعلم مدى الحياة جزءًا من الهوية الشخصية، إذ لا يُقاس التعليم بالشهادات فقط، بل بمدى القدرة الإنسان على التكيف، الفضول، والانفتاح على المعرفة.
المرونة؛ المرونة في المستقبل لم تعد مجرد مهارة مهنية، بل أصبحت قيمة وجودية تساعد الإنسان على التكيف مع عالم متغير باستمرار، وهي قدرة الفرد أو المجتمع أو النظام على التكيف السريع والفعّال مع التغيرات غير المتوقعة، سواء كانت تكنولوجية، اجتماعية، بيئية، أو نفسية، دون فقدان التوازن أو الهوية.
التفكير الإبداعي؛ هو القدرة على إنتاج أفكار جديدة، غير تقليدية، ومبتكرة لحل المشكلات أو التعبير عن الذات أو تطوير المفاهيم، بطريقة تتجاوز الأنماط المعتادة أو المألوفة، فهو نوع من التفكير الذي يسمح للإنسان بتوليد حلول أو أفكار أو رؤى جديدة، من خلال الخيال، المرونة، والربط غير المتوقع بين عناصر مختلفة.
القيادة؛ هو أحد المفاهيم المحورية في الفكر الإنساني والإداري، ويُقصد به القدرة على التأثير في الآخرين وتوجيههم نحو تحقيق أهداف مشتركة، بطريقة تحفّزهم وتلهمهم، وتُخرج أفضل ما لديهم، فهي عملية توجيه وتنسيق وتحفيز مجموعة من الأفراد لتحقيق رؤية أو هدف، من خلال التأثير الإيجابي، واتخاذ القرارات، وبناء الثقة.
التفكير المنظومي؛ هو طريقة لفهم العالم من خلال رؤية العلاقات والترابطات بين الأجزاء المختلفة داخل نظام معين، بدلاً من التركيز فقط على كل جزء بشكل منفصل، وبهذا النمط من التفكير يُمكّن الإنسان من رؤية الصورة الكاملة، وفهم كيف تتفاعل العناصر المختلفة داخل نظام ما، سواء كنا نتحدث عن القضايا البيئية، أو الاجتماعية، أو الاقتصادية أو غيرها من القضايا، ليس ذلك فحسب وإنما كيف تؤثر هذه التفاعلات على النتائج والسلوك العام للنظام.
إدارة المواهب؛ وهو أحد الركائز الأساسية في بناء مؤسسات ناجحة ومستدامة، ويشير إلى الاستراتيجية الشاملة لاكتشاف، تطوير، تحفيز، والاحتفاظ بالأفراد ذوي القدرات العالية الذين يمكنهم تحقيق قيمة مضافة للمؤسسة، فهي عملية استراتيجية تهدف إلى جذب الأشخاص الموهوبين، تطوير مهاراتهم، وتحفيزهم للبقاء والمساهمة بفعالية في تحقيق أهداف المؤسسة.
ولكن يجب أن يكون معلومًا أنه في المستقبل، لن تكون إدارة المواهب مجرد وظيفة للموارد البشرية أو جهة معينة، بل ستكون ثقافة مؤسسية مجتمعية، حيث يُنظر إلى كل إنسان على أنه استثمار استراتيجي، ويُعامل كشريك في النجاح.
الوعي التكنولوجي؛ وهذه النوعية من الوعي يشير إلى قدرة الفرد أو المجتمع على فهم التكنولوجيا، استخدامها بذكاء، وتقييم تأثيرها على الحياة الشخصية والمهنية والاجتماعية، وهذا يعني الإدراك الواعي للتكنولوجيا المحيطة بنا، من حيث وظائفها، مخاطرها، فرصها، وتأثيرها الأخلاقي والثقافي، مع القدرة على اتخاذ قرارات مستنيرة بشأن استخدامها.
في الختام يمكننا القول إن الفلسفة ترى أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يفكر في المستقبل، لا باعتباره زمنًا قادمًا فقط، بل باعتباره مشروعًا يمكن تشكيله، فالمستقبل لا يُبنى فقط على المعطيات الواقعية، بل على الخيال الذي يسبق الواقع، فالمستقبل هو نتيجة حتمية للتغير، ومن لا يتغير لا يستطيع أن يلج للمستقبل، لذلك علينا أن نبدأ منذ الآن وإلا سنحتاج إلى إعادة النظر في أنفسنا.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك