تُبنى المجتمعات بالأفكار الطموحة والأهداف الواضحة، من خلال نظم سياسية واقتصادية وثقافية مستعدة لاستيعاب وتطوير تلك الأفكار والأهداف لبلوغ الغاية منها، دفعًا لعجلة التطوير من مرحلة إلى مرحلة، ورفعًا للكفاءة المعرفية للفرد والمجتمع في آن واحد، خاصة أن الأفكار لا تأتي من العدم، ولا تعيش في الفراغ ولا تنتشر بالصدفة، وإلا ماتت قبل أن تولد، لكنها تعيش وتنتعش وتستمر، انطلاقًا من قاعدة وحيدة وواحدة اسمها «الإنسان»، الذى إن سلمت فطرته نضجت أفكاره، وإن شُوِّهت بدايته يكون كارها لنفسه وعدوًا لها وللمجتمع.
من هنا تصبح العناية بالإنسان وتشكيل وعيه أهمية عظيمة يجب الالتفات إليها ووضعها في الاعتبار، لأن الإنسان أول مفردة في المعنى الحقيقي للعالم. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما المبادئ التي ينبغي مراعاتها لبناء وعي وفكر إنساني مختلف ومتحضر؟ وكيف يمكن استثمار الإنسان بما ينفع الناس؟ وإلى أي مدى يمكن أن يكون نقطة انطلاق للتطور والإصلاح والتغيير؟ بالرغم من صعوبة الأسئلة، إلا أن هناك خطوطًا عامة أتصورها ضرورية لصناعة تلك المبادئ الإنسانية: أولًا: الانفتاح على المعرفة، بالاستعداد الدائم لتعلم أشياء جديدة وقبول أفكار مختلفة، سعيًا لفهم أعمق للعالم من حولنا، وتوسيعًا لآفاق الإنسان والتكيف مع التغيرات والوصول إلى الحقيقة.
ثانيًا: التفكير النقدي، وهو مسألة تحليلية تهدف إلى تقييم الأفكار والمعلومات بشكل موضوعي وعملي؛ فيسأل ويجيب ويفتش عن الأدلة ويفند الآراء والوقائع تجنبًا للتحيز واتخاذ القرارات المبنية على فهم عميق وموضوعي.
ثالثًا: التأقلم مع تنوع مصادر المعلومات، حيث يمكن من خلاله تجنب الوقوع في فخ التحيز، والحصول على معلومات أكثر دقة وشمولية، وتكوين رؤية أكثر اتزانًا وعمقًا.
رابعًا: الممارسة والتجربة، ولهما دور رئيسي في تشكيل وعى الإنسان وبناء أفكاره، لكونهما أهم عاملين في تطبيق المعرفة المكتسبة على أرض الواقع وتعديل الأفكار والتعلم من الأخطاء وتطوير المهارات.
إن البناء السليم للإنسان يحفظ له إنسانيته وكرامته، ويضمن له حقوقه، ويفتح لمجتمعه طريقًا مزينًا بالحب والسلام والتآخي، لكونه ـ أي الإنسان ـ هو المصدر الأول للأفكار الطموحة والمبادئ السامية. ولا شك أن الاهتمام بتطويره وتنمية قدراته هو الأساس في إبداع تلك الأفكار، وكلما هُيئت له البيئة المناسبة للإلمام بالمعارف والخبرات زاد وعيه، بل واستحوذ على كل مفاتيح النجاح.
وهنا تبرز أهمية الحرية الشخصية ، فهي جوهر الكرامة الإنسانية، لأنها الأداة التي يطوعها الإنسان لمعرفة نفسه واتخاذ قراراته والتحرر من جمود فكره وبناء العالم الذي يريده بكامل إرادته، وتتحقق هذه الحرية عندما يضع الأفراد القوانين بأنفسهم ولأنفسهم وفق ما تقتضيه المصلحة العامة والمبادئ الأخلاقية العقلانية، هي مطلقة ما لم تتسبب في الإضرار بالآخرين والإنقاص من شأنهم وحقوقهم، فالإنسان يولَد حرًّا بل محكومًا عليه بالحرية، ومسؤولًا عن حمايتها بأي ثمن سواء كانت حرية في الفكر أو التعبير أو الاعتقاد أو العمل أو التصرف أو الانتقال أو أي رؤى وقناعات قد تبدو مناسبة للفرد ومتناسبة. من هنا تكتسب الحرية الفردية أهميتها، كونها المفتاح الأهم لبوابة ازدهار المجتمع وتطوره، يقول أستاذ الجيل «أحمد لطفي السيد»: «الحرية هي الأصل، وما عداها استثناء، فإذا أردت أن تعرف مبلغ ارتقاء أمة، فانظر إلى مقدار حريتها» ويضيف الزعيم الهندي «غاندى»: «العين بالعين تجعل العالم كله أعمى، لكن الحرية تمنح النور للجميع». من هذا المنطلق تعتبر الحرية الفردية هي المدخل المشروع للنهوض بالمجتمع «فكريًا واقتصاديًا واجتماعيًا» فعندما يتمتع الأفراد بحرية الابتكار والتعبير والإبداع، فإنهم سوف يسهمون في تحول مجتمعاتهم إلى الأفضل، والدليل أنه إذا نظرنا للمجتمعات المتقدمة فسنجد أن احترام الحرية الفردية كان عاملًا أساسيًا في تحفيز الابتكار وخلق بيئة تسمح بتعدد الآراء والأفكار، مما يدفع بعجلة التغيير نحو التطور السريع والمستمر.
وبالتالي، فإنسان العالم الأول غير إنسان العالم الثالث، الإنسان في العالم الأول حُر في أن يخضع كل شيء لإرادته من دون خوف أو تردد، أما الإنسان في العالم الثالث فخاضع لكل شيء خارج عن إرادته، لذلك يبدع الأول ويستمتع، بينما ينقاد الثالث ويخضع، وبين نعمة الحرية الحقيقية ونقمة ثقافة الاستبداد والتسلط، تتسع الفجوة في التقدم في كل المجالات.
إن المجتمعات الحاضنة للحرية والمحترمة لها غالبًا ما تكون أكثر عدلًا وتقدمًا وقدرة على الاستمتاع بالحياة ومباهجها، أكثر حرصًا على الانتصار للقانون والمحاربة الجادة للفساد.
على سبيل المثال، عندما تم الكشف عن تورط الرئيس الأمريكي الأسبق «نيكسون» سنة 1973 في التجسس على الحزب الديمقراطي من خلال صحفيَين في جريدة «الواشنطون بوست» افتضح الأمر وحوكم الرئيس سياسيًّا واضطر للاستقالة تحت ضغط الرأي العام، من دون أن يُلقى القبض على الصحفيين مثلما يحدث في بعض بلدان العالم الثالث.
إن الحرية الفردية هي حجر الأساس لبناء عالم عادل ومتوازن، وتحرر الأفراد سيؤدى لتحرر المجتمعات، وإذا ظل الفرد في العالم الثالث خائفًا مسلوب الحرية والإرادة، ستبقى التجارب التنموية غير قادرة على تحقيق أهدافها الكبرى.
{ كاتب وباحث أكاديمي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك