العدد : ١٧٣٢٠ - الأحد ٢٤ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠١ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٢٠ - الأحد ٢٤ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠١ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

كيف تنجح استراتيجية الاستثمار في الإنسان؟

بقلم: د. طارق عباس

الأحد ٢٤ أغسطس ٢٠٢٥ - 02:00

تُبنى‭ ‬المجتمعات‭ ‬بالأفكار‭ ‬الطموحة‭ ‬والأهداف‭ ‬الواضحة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬نظم‭ ‬سياسية‭ ‬واقتصادية‭ ‬وثقافية‭ ‬مستعدة‭ ‬لاستيعاب‭ ‬وتطوير‭ ‬تلك‭ ‬الأفكار‭ ‬والأهداف‭ ‬لبلوغ‭ ‬الغاية‭ ‬منها،‭ ‬دفعًا‭ ‬لعجلة‭ ‬التطوير‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة،‭ ‬ورفعًا‭ ‬للكفاءة‭ ‬المعرفية‭ ‬للفرد‭ ‬والمجتمع‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬الأفكار‭ ‬لا‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬العدم،‭ ‬ولا‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬الفراغ‭ ‬ولا‭ ‬تنتشر‭ ‬بالصدفة،‭ ‬وإلا‭ ‬ماتت‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تولد،‭ ‬لكنها‭ ‬تعيش‭ ‬وتنتعش‭ ‬وتستمر،‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬قاعدة‭ ‬وحيدة‭ ‬وواحدة‭ ‬اسمها‭ ‬‮«‬الإنسان‮»‬،‭ ‬الذى‭ ‬إن‭ ‬سلمت‭ ‬فطرته‭ ‬نضجت‭ ‬أفكاره،‭ ‬وإن‭ ‬شُوِّهت‭ ‬بدايته‭ ‬يكون‭ ‬كارها‭ ‬لنفسه‭ ‬وعدوًا‭ ‬لها‭ ‬وللمجتمع‭.‬

من‭ ‬هنا‭ ‬تصبح‭ ‬العناية‭ ‬بالإنسان‭ ‬وتشكيل‭ ‬وعيه‭ ‬أهمية‭ ‬عظيمة‭ ‬يجب‭ ‬الالتفات‭ ‬إليها‭ ‬ووضعها‭ ‬في‭ ‬الاعتبار،‭ ‬لأن‭ ‬الإنسان‭ ‬أول‭ ‬مفردة‭ ‬في‭ ‬المعنى‭ ‬الحقيقي‭ ‬للعالم‭. ‬لكن‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬يطرح‭ ‬نفسه‭: ‬ما‭ ‬المبادئ‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬مراعاتها‭ ‬لبناء‭ ‬وعي‭ ‬وفكر‭ ‬إنساني‭ ‬مختلف‭ ‬ومتحضر؟‭ ‬وكيف‭ ‬يمكن‭ ‬استثمار‭ ‬الإنسان‭ ‬بما‭ ‬ينفع‭ ‬الناس؟‭ ‬وإلى‭ ‬أي‭ ‬مدى‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬نقطة‭ ‬انطلاق‭ ‬للتطور‭ ‬والإصلاح‭ ‬والتغيير؟‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬صعوبة‭ ‬الأسئلة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬خطوطًا‭ ‬عامة‭ ‬أتصورها‭ ‬ضرورية‭ ‬لصناعة‭ ‬تلك‭ ‬المبادئ‭ ‬الإنسانية‭: ‬أولًا‭: ‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬المعرفة،‭ ‬بالاستعداد‭ ‬الدائم‭ ‬لتعلم‭ ‬أشياء‭ ‬جديدة‭ ‬وقبول‭ ‬أفكار‭ ‬مختلفة،‭ ‬سعيًا‭ ‬لفهم‭ ‬أعمق‭ ‬للعالم‭ ‬من‭ ‬حولنا،‭ ‬وتوسيعًا‭ ‬لآفاق‭ ‬الإنسان‭ ‬والتكيف‭ ‬مع‭ ‬التغيرات‭ ‬والوصول‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة‭.‬

ثانيًا‭: ‬التفكير‭ ‬النقدي،‭ ‬وهو‭ ‬مسألة‭ ‬تحليلية‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬تقييم‭ ‬الأفكار‭ ‬والمعلومات‭ ‬بشكل‭ ‬موضوعي‭ ‬وعملي؛‭ ‬فيسأل‭ ‬ويجيب‭ ‬ويفتش‭ ‬عن‭ ‬الأدلة‭ ‬ويفند‭ ‬الآراء‭ ‬والوقائع‭ ‬تجنبًا‭ ‬للتحيز‭ ‬واتخاذ‭ ‬القرارات‭ ‬المبنية‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬عميق‭ ‬وموضوعي‭.‬

ثالثًا‭: ‬التأقلم‭ ‬مع‭ ‬تنوع‭ ‬مصادر‭ ‬المعلومات،‭ ‬حيث‭ ‬يمكن‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬تجنب‭ ‬الوقوع‭ ‬في‭ ‬فخ‭ ‬التحيز،‭ ‬والحصول‭ ‬على‭ ‬معلومات‭ ‬أكثر‭ ‬دقة‭ ‬وشمولية،‭ ‬وتكوين‭ ‬رؤية‭ ‬أكثر‭ ‬اتزانًا‭ ‬وعمقًا‭.‬

رابعًا‭: ‬الممارسة‭ ‬والتجربة،‭ ‬ولهما‭ ‬دور‭ ‬رئيسي‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬وعى‭ ‬الإنسان‭ ‬وبناء‭ ‬أفكاره،‭ ‬لكونهما‭ ‬أهم‭ ‬عاملين‭ ‬في‭ ‬تطبيق‭ ‬المعرفة‭ ‬المكتسبة‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭ ‬وتعديل‭ ‬الأفكار‭ ‬والتعلم‭ ‬من‭ ‬الأخطاء‭ ‬وتطوير‭ ‬المهارات‭.‬

إن‭ ‬البناء‭ ‬السليم‭ ‬للإنسان‭ ‬يحفظ‭ ‬له‭ ‬إنسانيته‭ ‬وكرامته،‭ ‬ويضمن‭ ‬له‭ ‬حقوقه،‭ ‬ويفتح‭ ‬لمجتمعه‭ ‬طريقًا‭ ‬مزينًا‭ ‬بالحب‭ ‬والسلام‭ ‬والتآخي،‭ ‬لكونه‭ ‬ـ‭ ‬أي‭ ‬الإنسان‭ ‬ـ‭ ‬هو‭ ‬المصدر‭ ‬الأول‭ ‬للأفكار‭ ‬الطموحة‭ ‬والمبادئ‭ ‬السامية‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬الاهتمام‭ ‬بتطويره‭ ‬وتنمية‭ ‬قدراته‭ ‬هو‭ ‬الأساس‭ ‬في‭ ‬إبداع‭ ‬تلك‭ ‬الأفكار،‭ ‬وكلما‭ ‬هُيئت‭ ‬له‭ ‬البيئة‭ ‬المناسبة‭ ‬للإلمام‭ ‬بالمعارف‭ ‬والخبرات‭ ‬زاد‭ ‬وعيه،‭ ‬بل‭ ‬واستحوذ‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬مفاتيح‭ ‬النجاح‭.‬

‭ ‬وهنا‭ ‬تبرز‭ ‬أهمية‭ ‬الحرية‭ ‬الشخصية‭ ‬،‭ ‬فهي‭ ‬جوهر‭ ‬الكرامة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬لأنها‭ ‬الأداة‭ ‬التي‭ ‬يطوعها‭ ‬الإنسان‭ ‬لمعرفة‭ ‬نفسه‭ ‬واتخاذ‭ ‬قراراته‭ ‬والتحرر‭ ‬من‭ ‬جمود‭ ‬فكره‭ ‬وبناء‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬يريده‭ ‬بكامل‭ ‬إرادته،‭ ‬وتتحقق‭ ‬هذه‭ ‬الحرية‭ ‬عندما‭ ‬يضع‭ ‬الأفراد‭ ‬القوانين‭ ‬بأنفسهم‭ ‬ولأنفسهم‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬تقتضيه‭ ‬المصلحة‭ ‬العامة‭ ‬والمبادئ‭ ‬الأخلاقية‭ ‬العقلانية،‭ ‬هي‭ ‬مطلقة‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تتسبب‭ ‬في‭ ‬الإضرار‭ ‬بالآخرين‭ ‬والإنقاص‭ ‬من‭ ‬شأنهم‭ ‬وحقوقهم،‭ ‬فالإنسان‭ ‬يولَد‭ ‬حرًّا‭ ‬بل‭ ‬محكومًا‭ ‬عليه‭ ‬بالحرية،‭ ‬ومسؤولًا‭ ‬عن‭ ‬حمايتها‭ ‬بأي‭ ‬ثمن‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬حرية‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬أو‭ ‬التعبير‭ ‬أو‭ ‬الاعتقاد‭ ‬أو‭ ‬العمل‭ ‬أو‭ ‬التصرف‭ ‬أو‭ ‬الانتقال‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬رؤى‭ ‬وقناعات‭ ‬قد‭ ‬تبدو‭ ‬مناسبة‭ ‬للفرد‭ ‬ومتناسبة‭.  ‬من‭ ‬هنا‭ ‬تكتسب‭ ‬الحرية‭ ‬الفردية‭ ‬أهميتها،‭ ‬كونها‭ ‬المفتاح‭ ‬الأهم‭ ‬لبوابة‭ ‬ازدهار‭ ‬المجتمع‭ ‬وتطوره،‭ ‬يقول‭ ‬أستاذ‭ ‬الجيل‭ ‬‮«‬أحمد‭ ‬لطفي‭ ‬السيد‮»‬‭: ‬‮«‬الحرية‭ ‬هي‭ ‬الأصل،‭ ‬وما‭ ‬عداها‭ ‬استثناء،‭ ‬فإذا‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬تعرف‭ ‬مبلغ‭ ‬ارتقاء‭ ‬أمة،‭ ‬فانظر‭ ‬إلى‭ ‬مقدار‭ ‬حريتها‮»‬‭ ‬ويضيف‭ ‬الزعيم‭ ‬الهندي‭ ‬‮«‬غاندى‮»‬‭: ‬‮«‬العين‭ ‬بالعين‭ ‬تجعل‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬أعمى،‭ ‬لكن‭ ‬الحرية‭ ‬تمنح‭ ‬النور‭ ‬للجميع‮»‬‭. ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق‭ ‬تعتبر‭ ‬الحرية‭ ‬الفردية‭ ‬هي‭ ‬المدخل‭ ‬المشروع‭ ‬للنهوض‭ ‬بالمجتمع‭ ‬‮«‬فكريًا‭ ‬واقتصاديًا‭ ‬واجتماعيًا‮»‬‭ ‬فعندما‭ ‬يتمتع‭ ‬الأفراد‭ ‬بحرية‭ ‬الابتكار‭ ‬والتعبير‭ ‬والإبداع،‭ ‬فإنهم‭ ‬سوف‭ ‬يسهمون‭ ‬في‭ ‬تحول‭ ‬مجتمعاتهم‭ ‬إلى‭ ‬الأفضل،‭ ‬والدليل‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬نظرنا‭ ‬للمجتمعات‭ ‬المتقدمة‭ ‬فسنجد‭ ‬أن‭ ‬احترام‭ ‬الحرية‭ ‬الفردية‭ ‬كان‭ ‬عاملًا‭ ‬أساسيًا‭ ‬في‭ ‬تحفيز‭ ‬الابتكار‭ ‬وخلق‭ ‬بيئة‭ ‬تسمح‭ ‬بتعدد‭ ‬الآراء‭ ‬والأفكار،‭ ‬مما‭ ‬يدفع‭ ‬بعجلة‭ ‬التغيير‭ ‬نحو‭ ‬التطور‭ ‬السريع‭ ‬والمستمر‭.‬

وبالتالي،‭ ‬فإنسان‭ ‬العالم‭ ‬الأول‭ ‬غير‭ ‬إنسان‭ ‬العالم‭ ‬الثالث،‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الأول‭ ‬حُر‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يخضع‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬لإرادته‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬خوف‭ ‬أو‭ ‬تردد،‭ ‬أما‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬فخاضع‭ ‬لكل‭ ‬شيء‭ ‬خارج‭ ‬عن‭ ‬إرادته،‭ ‬لذلك‭ ‬يبدع‭ ‬الأول‭ ‬ويستمتع،‭ ‬بينما‭ ‬ينقاد‭ ‬الثالث‭ ‬ويخضع،‭ ‬وبين‭ ‬نعمة‭ ‬الحرية‭ ‬الحقيقية‭ ‬ونقمة‭ ‬ثقافة‭ ‬الاستبداد‭ ‬والتسلط،‭ ‬تتسع‭ ‬الفجوة‭ ‬في‭ ‬التقدم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المجالات‭.‬

إن‭ ‬المجتمعات‭ ‬الحاضنة‭ ‬للحرية‭ ‬والمحترمة‭ ‬لها‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬أكثر‭ ‬عدلًا‭ ‬وتقدمًا‭ ‬وقدرة‭ ‬على‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بالحياة‭ ‬ومباهجها،‭ ‬أكثر‭ ‬حرصًا‭ ‬على‭ ‬الانتصار‭ ‬للقانون‭ ‬والمحاربة‭ ‬الجادة‭ ‬للفساد‭.‬

على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬عندما‭ ‬تم‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬تورط‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬الأسبق‭ ‬‮«‬نيكسون‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1973‭ ‬في‭ ‬التجسس‭ ‬على‭ ‬الحزب‭ ‬الديمقراطي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬صحفيَين‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬‮«‬الواشنطون‭ ‬بوست‮»‬‭ ‬افتضح‭ ‬الأمر‭ ‬وحوكم‭ ‬الرئيس‭ ‬سياسيًّا‭ ‬واضطر‭ ‬للاستقالة‭ ‬تحت‭ ‬ضغط‭ ‬الرأي‭ ‬العام،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يُلقى‭ ‬القبض‭ ‬على‭ ‬الصحفيين‭ ‬مثلما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬بلدان‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭.‬

إن‭ ‬الحرية‭ ‬الفردية‭ ‬هي‭ ‬حجر‭ ‬الأساس‭ ‬لبناء‭ ‬عالم‭ ‬عادل‭ ‬ومتوازن،‭ ‬وتحرر‭ ‬الأفراد‭ ‬سيؤدى‭ ‬لتحرر‭ ‬المجتمعات،‭ ‬وإذا‭ ‬ظل‭ ‬الفرد‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬خائفًا‭ ‬مسلوب‭ ‬الحرية‭ ‬والإرادة،‭ ‬ستبقى‭ ‬التجارب‭ ‬التنموية‭ ‬غير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬أهدافها‭ ‬الكبرى‭.‬

{ كاتب‭ ‬وباحث‭ ‬أكاديمي

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا