تتجه أنظار المراقبين إلى منطقة الخليج، في ظل تصاعد التوترات التجارية العالمية وعودة السياسات الحمائية إلى واجهة المشهد الاقتصادي الأمريكي، حيث تتبنى بعض دول مجلس التعاون، وعلى رأسها البحرين، نهجًا استباقيًا لتعزيز شراكاتها الاستراتيجية مع القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. وبعد مرور شهر على زيارة رفيعة المستوى للبيت الأبيض، بدأت ملامح نتائج هذه الخطوة تتجلى بوضوح في صورة اتفاقيات استثمارية ضخمة، ومشاريع تعاون نوعية، تؤكد تحول العلاقات البحرينية الأمريكية نحو أفق اقتصادي أكثر عمقًا وشمولًا.
في الوقت الذي انخرطت فيه إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مواجهة اقتصادية شرسة ومتزايدة، واتخذت إجراءات عقابية ضد اقتصادات عالمية كبرى ونامية – كان آخرها فرض رسوم جمركية بنسبة 50% على الصادرات الهندية إلى الولايات المتحدة في محاولة للضغط على نيودلهي لتقليص وارداتها من النفط الخام والغاز من روسيا – تبرز ملاحظة لافتة حول كيفية سعي دول مجلس التعاون الخليجي إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع واشنطن، خصوصًا في مجالات الاستثمارات المتبادلة، والخدمات اللوجستية، والبنية التحتية، والطيران، والدفاع.
وتجلّت هذه الديناميكية بوضوح خلال أول جولة خارجية للرئيس ترامب في ولايته الثانية، حين زار المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، وقطر في مايو 2025. وكما أوضحت مايا سنوسي، كبيرة الاقتصاديين في مؤسسة «أوكسفورد إيكونوميكس»، فقد احتلت «صفقات التجارة والاستثمار مركز الصدارة» في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية والتجارية. وبعد شهرين، جاءت زيارة سمو ولي العهد رئيس الوزراء الأمير سلمان بن حمد آل خليفة للبيت الأبيض، والتي شملت توقيع العديد من الاتفاقيات الخاصة بالتعاون والشراكات المستقبلية، لتضع البحرين في مصاف المستفيدين من هذه الصفقات.
وبحسب وكالة رويترز، فإن سلسلة الاتفاقيات الاقتصادية الموقعة مع الشركات الأمريكية تُقدر قيمتها بحوالي 17 مليار دولار، وتغطي قطاعات متعددة. ووفقًا لتحليل إليزابيث دنت، الزميلة البارزة في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى والمديرة السابقة لسياسات الخليج والجزيرة العربية في مكتب وزير الدفاع الأمريكي، فإن هذه الاتفاقيات تعكس «الالتزام القوي» من كل من الولايات المتحدة والبحرين باتفاقية التكامل الأمني والازدهار الشامل، والتي سبق أن وقعتها حكومتا البلدين في سبتمبر 2023. كما أنها تؤكد رغبة المملكة المتزايدة في أن يُنظر إليها كلاعب اقتصادي رئيسي في الخليج، بالإضافة إلى تأكيد التزامها بالتنوع الصناعي.
وفي سياق متصل، ومع سياسات ترامب التجارية التي يراها المعلقون الغربيون سياسات حمائية بطبيعتها ومعادية لعدد من الدول، توقعت دنت أن تفتح زيارة سمو ولي العهد رئيس الوزراء خلال يوليو الماضي الباب أمام مزيد من التعاون الاقتصادي، مع احتمالية تخفيف بعض الرسوم الجمركية الأمريكية الحالية، لا سيما تلك المفروضة على صادرات الألمنيوم إلى السوق الأمريكية، والتي رفعها ترامب من 25% إلى 50% في بداية يونيو 2025.
وقد استندت الاتفاقيات الموقعة خلال زيارة سمو ولي العهد رئيس الوزراء للولايات المتحدة في منتصف يوليو 2025 إلى عقود من تعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين. فبعد توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين واشنطن والمنامة، التي دخلت حيز التنفيذ في يناير 2006، التزمت الحكومة الأمريكية في عام 2021 بإنشاء منطقة تجارة حرة داخل المملكة، دعمًا للعلاقات الاقتصادية الثنائية. وفي سبتمبر 2023، وقّعت إدارة الرئيس السابق جو بايدن اتفاقية التكامل الأمني والازدهار الشامل، والتي وصفها كل من جورجيو كافييرو والدكتور كريستيان ألكسندر من شركة «جلف ستيت أناليتكس» الاستشارية بأنها «لحظة محورية في علاقة واشنطن بالمنامة». كما أشار المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية إلى أنها تمثل «ترقية كبيرة لالتزام الولايات المتحدة الأمني تجاه شركائها في الخليج».
وبانضمام المملكة المتحدة إلى اتفاقية التكامل الأمني والازدهار الشامل في ديسمبر 2024، أوضحت دنت أن الهدف النهائي من الاتفاقية يتمثل في إرساء «بنية تحتية أمنية متماسكة»، إلى جانب «تعاون اقتصادي وتكنولوجي أعمق بين الشركاء الموثوق بهم في الشرق الأوسط وخارجه».
وأشارت دنت إلى أهمية جدول أعمال سمو ولي العهد رئيس الوزراء في واشنطن، لا سيما اجتماعه مع الرئيس ترامب في المكتب البيضاوي، وكذلك حضوره حفل الاستقبال الذي نظمته غرفة التجارة الأمريكية. وأكدت دنت أن «العلاقة الاستراتيجية» بين البلدين خلال فترة إدارة ترامب الثانية تتجه بشكل واضح نحو «دمج الأبعاد الاقتصادية». وقد شدد سمو ولي العهد رئيس الوزراء بدوره، خلال حديثه في غرفة التجارة الأمريكية، على أهمية تعزيز التعاون الثنائي، واصفًا إياه بأنه «أمر حاسم لخلق فرص التنمية من خلال الاستثمارات المشتركة، وتبادل الخبرات، والشراكات التي تعزز المصالح المتبادلة».
في إطار الاتفاقيات التي تبلغ قيمتها نحو 17 مليار دولار، والتي تم الإعلان عنها مؤخرًا، أشارت وسائل الإعلام الغربية إلى استعداد الشركات الخاصة والمؤسسات المالية في البحرين لاستثمار ما مجموعه 10.7 مليارات دولار في الولايات المتحدة.
وفيما يتعلق بالبحرين، تستعد شركة «سيسكو سيستمز» التي تتخذ من مدينة سان خوسيه في ولاية كاليفورنيا مقرًا لها، لتوفير حلول رقمية للبنية التحتية للاتصالات الحكومية في المملكة. كما سيتم تنفيذ خطط لتوسعة كابل بحري متعدد الألياف بطول 800 كيلومتر، لربط البحرين -إلى جانب المملكة العربية السعودية والكويت والعراق- بشبكات الاتصالات العالمية، وذلك من خلال كابل الخليج البحري بالتعاون مع مزود أنظمة الكابلات البحرية الأمريكي «ساب كوم».
وعلاوة على ذلك، وبعد منح وزارة النقل الأمريكية ترخيص التشغيل لشركة طيران الخليج، بدأت بتسيير رحلاتها مباشرة إلى الولايات المتحدة، وتحديدًا بين مطار البحرين الدولي ومطار جون إف. كينيدي في نيويورك، وستسير الشركة ثلاث رحلات أسبوعيًا اعتبارًا من أكتوبر 2025.
وفي سياق موازٍ، قام قسم الشؤون العامة بالسفارة الأمريكية في المنامة، في أوائل أغسطس، بدعوة الجامعات والمؤسسات البحرينية إلى تقديم طلبات للحصول على فرص تمويل لمشاريع تهدف إلى «تعزيز البحث والابتكار في مجالات التكنولوجيا المتقدمة». وقد أشارت دنت إلى أن جميع القطاعات الاقتصادية المشمولة بهذه الاتفاقيات تُعد «عناصر أساسية في اتفاقية التكامل الأمني والازدهار الشامل»، مشيرًا إلى أن ذلك يشمل أيضًا الاتفاقيات المتعلقة بصناعة الألمنيوم البحريني.
وفي تقييمه لدور صندوق الثروة السيادي البحريني «ممتلكات»، الذي أبرم اتفاقيات مع عدد من الشركات الأمريكية لاستثمار 2 مليار دولار في مشاريع متعددة، أشارت دنت إلى أن «التوسع النشط في المشاريع النهائية قد يمنح المنامة نفوذًا إضافيًا في مساعيها لخفض الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس ترامب». ففي عام 2018، وخلال ولايته الرئاسية الأولى، فرض ترامب رسومًا جمركية بنسبة 10% على جميع واردات الألمنيوم الأجنبية إلى الولايات المتحدة، بما في ذلك من البحرين، كجزء من سياساته التجارية التي أعاد تسميتها في فبراير 2025 بـ«يوم التحرير». ومنذ ذلك الحين، شدد الجمهوريون هذه الرسوم لتبلغ 25% على واردات الألمنيوم والصلب، ثم ارتفعت مجددًا إلى 50% في يونيو من نفس العام.
وبحسب دنت، فإن البحرين قد تنجح في «الحصول على تنازلات» من واشنطن فيما يخص الرسوم الجمركية على صادراتها من الألمنيوم، من خلال «إظهار التزامها بمصالح الولايات المتحدة» عبر استثماراتها الأخيرة في الاقتصاد الأمريكي. ومع ذلك، فإن ترامب نفسه تباهى خلال تجمعات سياسية بأن «لا أحد سيتمكن من تجاوز هذه العقبات»، حتى الحلفاء المقربون والشركاء الاقتصاديون للولايات المتحدة.
ويُظهر الضغط المتزايد من البيت الأبيض لتشجيع المستهلكين الأمريكيين على شراء المعادن المصنوعة محليًا من خلال ما رصدته إدارة التجارة الدولية الأمريكية، حيث سجلت انخفاضًا بنسبة 40% في واردات البلاد من الألمنيوم خلال شهر يوليو 2025. ووفقًا لما كتبه كلٌ من كولين فيرغسون وجابرييل هوليداي من شركة «إس آند بي جلوبال كوموديتي إنسايتس»، فإن الرسوم البالغة 50% «من المتوقع أن تظل سمة دائمة في السوق» رغم «تراجع المخزونات المحلية». وبذلك، يبقى مستقبل صادرات البحرين من الألمنيوم إلى الولايات المتحدة -والتي تجاوزت قيمتها 726 مليون دولار في عام 2024- غير مؤكد، على غرار العديد من الصناعات المتأثرة بالسياسات التجارية الأخيرة للإدارة الأمريكية.
ومع ذلك، كتبت دنت أن الاتفاقيات الثنائية بين الولايات المتحدة والبحرين، والموقعة في يوليو 2025، تُظهر «ثقة المملكة فيما يمكن أن تحققه من استثمارات طويلة الأمد داخل الولايات المتحدة». ويُبرز ذلك التوقعات الإيجابية للمؤسسات المالية الدولية بشأن استمرار نمو الاقتصاد البحريني بوتيرة قوية.
ففي تقييمه الأحدث لعام 2025، يتوقع البنك الدولي أن يحقق الاقتصاد البحريني نموًا بنسبة 3.5%، مقارنة بنسبة 3% في عام 2024، وهو ما يتجاوز متوسط النمو في دول مجلس التعاون الخليجي البالغ 3.2%. ويعزو البنك الدولي هذه الزيادة إلى «النمو القوي في القطاعات غير النفطية المدعومة من رؤية البحرين الاقتصادية 2030»، والتي تشمل مجالات مثل الخدمات اللوجستية، والتكنولوجيا، والسياحة، والبنية التحتية – وهي جميعها مكونات أساسية في اتفاقية التكامل الأمني والازدهار الشامل.
وفي هذا الإطار، علّقت صفاء الطيب الكوقلي، مديرة إدارة دول مجلس التعاون الخليجي في البنك الدولي، قائلةً إن دول الخليج «أظهرت مرونة في مواجهة حالة عدم اليقين العالمية، مع استمرارها في تعزيز التنوع الاقتصادي»، مما يعكس التزامها الواضح بتحقيق الازدهار طويل الأجل.
واختتمت دنت تحليلها بالتأكيد على أن «هذه الإعلانات والاجتماع رفيع المستوى في البيت الأبيض يعكسان النية الراسخة لكلٍ من البحرين والولايات المتحدة لتعميق علاقاتهما التجارية عبر اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين»، مشيرًة إلى أن توسيع شراكتهما المستمرة منذ عقود إلى ما يتجاوز الجوانب الدفاعية والأمنية «يعزز الحاجة المتبادلة لعلاقة أكثر تنوعًا»، قادرة على «ضمان أمن سلاسل التوريد الحيوية ووضع البلدين في موقع الريادة ضمن المشهد الجيوسياسي المتغير في مجالي التجارة والتكنولوجيا».
وهكذا، فإن ما بدأ بزيارة رسمية قبل شهر فقط، بدأ اليوم يُترجم إلى خطوات عملية تُعزز من مكانة البحرين كشريك اقتصادي موثوق لواشنطن، وتمنحها أدوات إضافية للتعامل مع التحديات الناتجة عن السياسات التجارية الأمريكية الصارمة. وبينما تسعى المملكة إلى تنويع اقتصادها وفق رؤية 2030، فإن الشراكات مع القوى العالمية، وخاصة في مجالات التكنولوجيا والبنية التحتية والطاقة والصناعة، باتت تمثل ركيزة أساسية في استراتيجيتها للنمو المستدام. ومن الواضح أن الشراكة البحرينية الأمريكية تدخل اليوم مرحلة جديدة، عنوانها التوسع الاقتصادي والتكامل طويل الأمد، في منطقة باتت تلعب دورًا محوريًا في رسم ملامح التوازنات الاقتصادية الدولية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك