من النقدة إلى الفخار، أشياء عرفناها في بيوت أهلنا، وكانت جزءًا من حياتهم اليومية قبل أن تكون شيئا نشتريه أو نراه في المعارض أو حتى الأسواق. هي أعمال تحمل وتوثق طريقة العيش كما كانت في ذلك الوقت، وتروي تفاصيل لم تنقلها الكتب ربما.
قبل أشهر، شاهدت برنامجا وثائقيا على محطة BBC عن الحرف المهددة بالاندثار في بريطانيا، حيث كانوا يتحدثون عن الفخار والنسيج وأعمال الخشب. أعادني المشهد إلى ما كانت عليه البيوت البحرينية التي عرفناها. وخطر في بالي أن ما يقلقهم هناك يمكن أن يقلقنا نحن كذلك، فإذا تركنا ما وصل إلينا من أهلنا عبر الأجيال فسوف يختفي مع الوقت.
الحرف اليدوية في بلادنا ليست مهارة عابرة، هي جزء من ملامح المكان وذاكرته. النقدة التي زيّنت أثواب العرائس، وسعف النخيل الذي صُنعت منه أدوات البيت، والسدو – ذلك النسيج التقليدي من الصوف والوبر – الذي منح البيوت دفئها في عز الشتاء. هذه الحرف كان يمارسها الرجال والنساء، لكن بعضها ارتبط أكثر بالنساء مثل النقدة والسدو، فيما برز الرجال أكثر في أعمال كالفخار والنجارة وصياغة الذهب. شكلت هذه الحرف ضرورة في زمن مضى، وما زالت حتى اليوم شاهدة على أسلوب عيش أجيال متعاقبة.
أتذكر في المدرسة، نظّمت لنا رحلة إلى مكان يصنعون فيه الفخار. بالنسبة لنا وقتها، كانت الفرحة كبيرة لدرجة أنني لم أنم من الحماس، وكأننا ذاهبون إلى شيء لم نره من قبل.
هناك، جلسنا حول الطين، جربنا بأيدينا. خرجتُ بحصالة صغيرة كنت أضع فيها بقايا مصروفي، وبعض الاحيان أكتفي بالنظر إليها وكأنها تذكّرني بالرحلة، لم يخطر في بالي وقتها أن هذا الطين يمدني بخيط يصلني بأجيال سبقتني.
وبالحديث عن المحافظة على التراث، لله الحمد هناك جهود حقيقية لإبقاء هذه الذاكرة حية في بلدنا. ففي قلب المنامة، مازال مركز الحرفيين يقدم ورشا ويعرض منتجات محلية. وفي الجسرة، يمكن للزائر أن يرى الحرفيين أثناء العمل، ويشارك في صناعة الفخار أو النسيج بأسلوبهم التقليدي. أما الفخار، فما زال في عالي حرفة حية، يصنعها الحرفيون بالطريقة التي ورثوها عن آبائهم.
مبادرات مثل «Made in Bahrain»، التي أطلقتها هيئة الثقافة والآثار قبل أعوام، فتحت للحرف مساحة أكبر، وربطتها بالهوية الوطنية وبالأسواق على المستوى المحلي وكذلك العالمي. لكن قيمتها الحقيقية تظهر حين تصبح هذه المنتجات جزءًا من حياتنا اليومية، لا شيء نراه فقط في المعارض.
في صباح الاثنين 11 أغسطس 2025، نظم الاتحاد النسائي البحريني – برئاسة السيدة أحلام رجب – حفلاً كرّم فيه خمس عشرة سيدة من الحرفيات الفائزات في مسابقة «الأستاذة ثاجبة المنصوري لدعم المرأة العاملة في المجال الحرفي». خطوة تُحسب للاتحاد، لأنها منحت هذه الفئة مساحة تقدير تستحقها.
حضر الحفل الأستاذة لولوة العوضي، الأمين العام للمجلس الأعلى للمرأة، وعدد من الشخصيات النسائية من مجالات مختلفة. وفي كلمتها، تحدثت الاستاذة العوضي عن أهمية إدماج الحرفيات في منظومة ريادة الأعمال وربط المهن التقليدية بفرص اقتصادية أكبر. كان حديثها واقعيا ووصل فكرته بسهولة، وأعطى انطباعا أن الفكرة ليست في التكريم فقط، بل في تمكين هؤلاء السيدات من تطوير أعمالهن ومواصلة هذا الإرث بأسلوب يناسب زمننا.
إذا نظرنا خارج حدود بلادنا، نجد أن الاهتمام بالحرف أخذ أشكالا مختلفة. في اليابان، هناك حرفيون يُمنحون لقب «الكنز البشري الحي» تقديرا لمهاراتهم. أما في الصين، فقد حصلوا على دعم رسمي جعل منتجاتهم تصل إلى معارض كبرى. كما ان المغرب بدورها حولت أسواق مدنها القديمة إلى جزء من التجربة السياحية لأي زائر. كلها تجارب تثبت أن الحرفة ليست بقايا ماضٍ، إنما هي مصدر رزق وفخر حين تجد من يحافظ عليها.
الحرف التقليدية تستمر حين يمارسها الناس، وليست فقط قطعا للعرض خلف الزجاج، أن تتعلم فتاة صغيرة النقدة في البيت، أو يجرّب صبي نسج سعف النخيل في المدرسة، هذه خطوات تحافظ على المهارة وتمنحها عمرا أطول.
ان إدخال هذه الأنشطة في المناهج أو حصص الفن يجعلها تنتقل طبيعيا بين الأجيال. لكن رغم ذلك، كثير من منتجاتنا الجميلة لا تصل إلى الأسواق كما يجب، وهو ما يفرض الحاجة إلى تسويق أفضل يربط بين الحرفة وذوق الناس اليوم.
وبصراحة، ان الحفاظ على هذه الحرف أبسط مما نتصور، ويتوقف علينا نحن كمجتمعات تسعى للحفاظ على موروثها الثقافي. أن نقتني قطعة صنعها حرفي محلي، أو نفتح لأطفالنا باب تجربة يدوية في أحد المراكز، هو فعل صغير لكن أثره كبير. بهذه الخطوات، نضمن أن هذه المهن لا تبقى ذكرى بعيدة، بل عنصرا أصيلا من حاضرنا ومستقبلنا.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك