العدد : ١٧٣٢٠ - الأحد ٢٤ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠١ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٢٠ - الأحد ٢٤ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠١ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

الحرف التقليدية.. تاريخ حيّ يربط الأجيال

بقلم: نبيلة رجب

السبت ٢٣ أغسطس ٢٠٢٥ - 02:00

من‭ ‬النقدة‭ ‬إلى‭ ‬الفخار،‭ ‬أشياء‭ ‬عرفناها‭ ‬في‭ ‬بيوت‭ ‬أهلنا،‭ ‬وكانت‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬حياتهم‭ ‬اليومية‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬شيئا‭ ‬نشتريه‭ ‬أو‭ ‬نراه‭ ‬في‭ ‬المعارض‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الأسواق‭. ‬هي‭ ‬أعمال‭ ‬تحمل‭ ‬وتوثق‭ ‬طريقة‭ ‬العيش‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬وتروي‭ ‬تفاصيل‭ ‬لم‭ ‬تنقلها‭ ‬الكتب‭ ‬ربما‭.‬

قبل‭ ‬أشهر،‭ ‬شاهدت‭ ‬برنامجا‭ ‬وثائقيا‭ ‬على‭ ‬محطة‭ ‬BBC‭ ‬عن‭ ‬الحرف‭ ‬المهددة‭ ‬بالاندثار‭ ‬في‭ ‬بريطانيا،‭ ‬حيث‭ ‬كانوا‭ ‬يتحدثون‭ ‬عن‭ ‬الفخار‭ ‬والنسيج‭ ‬وأعمال‭ ‬الخشب‭. ‬أعادني‭ ‬المشهد‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬البيوت‭ ‬البحرينية‭ ‬التي‭ ‬عرفناها‭. ‬وخطر‭ ‬في‭ ‬بالي‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يقلقهم‭ ‬هناك‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقلقنا‭ ‬نحن‭ ‬كذلك،‭ ‬فإذا‭ ‬تركنا‭ ‬ما‭ ‬وصل‭ ‬إلينا‭ ‬من‭ ‬أهلنا‭ ‬عبر‭ ‬الأجيال‭ ‬فسوف‭ ‬يختفي‭ ‬مع‭ ‬الوقت‭.‬

الحرف‭ ‬اليدوية‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬ليست‭ ‬مهارة‭ ‬عابرة،‭ ‬هي‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬ملامح‭ ‬المكان‭ ‬وذاكرته‭. ‬النقدة‭ ‬التي‭ ‬زيّنت‭ ‬أثواب‭ ‬العرائس،‭ ‬وسعف‭ ‬النخيل‭ ‬الذي‭ ‬صُنعت‭ ‬منه‭ ‬أدوات‭ ‬البيت،‭ ‬والسدو‭ ‬‭ ‬ذلك‭ ‬النسيج‭ ‬التقليدي‭ ‬من‭ ‬الصوف‭ ‬والوبر‭ ‬‭ ‬الذي‭ ‬منح‭ ‬البيوت‭ ‬دفئها‭ ‬في‭ ‬عز‭ ‬الشتاء‭. ‬هذه‭ ‬الحرف‭ ‬كان‭ ‬يمارسها‭ ‬الرجال‭ ‬والنساء،‭ ‬لكن‭ ‬بعضها‭ ‬ارتبط‭ ‬أكثر‭ ‬بالنساء‭ ‬مثل‭ ‬النقدة‭ ‬والسدو،‭ ‬فيما‭ ‬برز‭ ‬الرجال‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬كالفخار‭ ‬والنجارة‭ ‬وصياغة‭ ‬الذهب‭. ‬شكلت‭ ‬هذه‭ ‬الحرف‭ ‬ضرورة‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬مضى،‭ ‬وما‭ ‬زالت‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭ ‬شاهدة‭ ‬على‭ ‬أسلوب‭ ‬عيش‭ ‬أجيال‭ ‬متعاقبة‭.‬

أتذكر‭ ‬في‭ ‬المدرسة،‭ ‬نظّمت‭ ‬لنا‭ ‬رحلة‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬يصنعون‭ ‬فيه‭ ‬الفخار‭. ‬بالنسبة‭ ‬لنا‭ ‬وقتها،‭ ‬كانت‭ ‬الفرحة‭ ‬كبيرة‭ ‬لدرجة‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أنم‭ ‬من‭ ‬الحماس،‭ ‬وكأننا‭ ‬ذاهبون‭ ‬إلى‭ ‬شيء‭ ‬لم‭ ‬نره‭ ‬من‭ ‬قبل‭.‬

هناك،‭ ‬جلسنا‭ ‬حول‭ ‬الطين،‭ ‬جربنا‭ ‬بأيدينا‭. ‬خرجتُ‭ ‬بحصالة‭ ‬صغيرة‭ ‬كنت‭ ‬أضع‭ ‬فيها‭ ‬بقايا‭ ‬مصروفي،‭ ‬وبعض‭ ‬الاحيان‭ ‬أكتفي‭ ‬بالنظر‭ ‬إليها‭ ‬وكأنها‭ ‬تذكّرني‭ ‬بالرحلة،‭ ‬لم‭ ‬يخطر‭ ‬في‭ ‬بالي‭ ‬وقتها‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الطين‭ ‬يمدني‭ ‬بخيط‭ ‬يصلني‭ ‬بأجيال‭ ‬سبقتني‭.‬

وبالحديث‭ ‬عن‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬التراث،‭ ‬لله‭ ‬الحمد‭ ‬هناك‭ ‬جهود‭ ‬حقيقية‭ ‬لإبقاء‭ ‬هذه‭ ‬الذاكرة‭ ‬حية‭ ‬في‭ ‬بلدنا‭. ‬ففي‭ ‬قلب‭ ‬المنامة،‭ ‬مازال‭ ‬مركز‭ ‬الحرفيين‭ ‬يقدم‭ ‬ورشا‭ ‬ويعرض‭ ‬منتجات‭ ‬محلية‭. ‬وفي‭ ‬الجسرة،‭ ‬يمكن‭ ‬للزائر‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬الحرفيين‭ ‬أثناء‭ ‬العمل،‭ ‬ويشارك‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬الفخار‭ ‬أو‭ ‬النسيج‭ ‬بأسلوبهم‭ ‬التقليدي‭. ‬أما‭ ‬الفخار،‭ ‬فما‭ ‬زال‭ ‬في‭ ‬عالي‭ ‬حرفة‭ ‬حية،‭ ‬يصنعها‭ ‬الحرفيون‭ ‬بالطريقة‭ ‬التي‭ ‬ورثوها‭ ‬عن‭ ‬آبائهم‭.‬

مبادرات‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬Made‭ ‬in‭ ‬Bahrain‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬أطلقتها‭ ‬هيئة‭ ‬الثقافة‭ ‬والآثار‭ ‬قبل‭ ‬أعوام،‭ ‬فتحت‭ ‬للحرف‭ ‬مساحة‭ ‬أكبر،‭ ‬وربطتها‭ ‬بالهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬وبالأسواق‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬المحلي‭ ‬وكذلك‭ ‬العالمي‭. ‬لكن‭ ‬قيمتها‭ ‬الحقيقية‭ ‬تظهر‭ ‬حين‭ ‬تصبح‭ ‬هذه‭ ‬المنتجات‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬حياتنا‭ ‬اليومية،‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬نراه‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬المعارض‭.‬

في‭ ‬صباح‭ ‬الاثنين‭ ‬11‭ ‬أغسطس‭ ‬2025،‭ ‬نظم‭ ‬الاتحاد‭ ‬النسائي‭ ‬البحريني‭ ‬‭ ‬برئاسة‭ ‬السيدة‭ ‬أحلام‭ ‬رجب‭ ‬‭ ‬حفلاً‭ ‬كرّم‭ ‬فيه‭ ‬خمس‭ ‬عشرة‭ ‬سيدة‭ ‬من‭ ‬الحرفيات‭ ‬الفائزات‭ ‬في‭ ‬مسابقة‭ ‬‮«‬الأستاذة‭ ‬ثاجبة‭ ‬المنصوري‭ ‬لدعم‭ ‬المرأة‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الحرفي‮»‬‭. ‬خطوة‭ ‬تُحسب‭ ‬للاتحاد،‭ ‬لأنها‭ ‬منحت‭ ‬هذه‭ ‬الفئة‭ ‬مساحة‭ ‬تقدير‭ ‬تستحقها‭.‬

حضر‭ ‬الحفل‭ ‬الأستاذة‭ ‬لولوة‭ ‬العوضي،‭ ‬الأمين‭ ‬العام‭ ‬للمجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬للمرأة،‭ ‬وعدد‭ ‬من‭ ‬الشخصيات‭ ‬النسائية‭ ‬من‭ ‬مجالات‭ ‬مختلفة‭. ‬وفي‭ ‬كلمتها،‭ ‬تحدثت‭ ‬الاستاذة‭ ‬العوضي‭ ‬عن‭ ‬أهمية‭ ‬إدماج‭ ‬الحرفيات‭ ‬في‭ ‬منظومة‭ ‬ريادة‭ ‬الأعمال‭ ‬وربط‭ ‬المهن‭ ‬التقليدية‭ ‬بفرص‭ ‬اقتصادية‭ ‬أكبر‭. ‬كان‭ ‬حديثها‭ ‬واقعيا‭ ‬ووصل‭ ‬فكرته‭ ‬بسهولة،‭ ‬وأعطى‭ ‬انطباعا‭ ‬أن‭ ‬الفكرة‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬التكريم‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬تمكين‭ ‬هؤلاء‭ ‬السيدات‭ ‬من‭ ‬تطوير‭ ‬أعمالهن‭ ‬ومواصلة‭ ‬هذا‭ ‬الإرث‭ ‬بأسلوب‭ ‬يناسب‭ ‬زمننا‭.‬

إذا‭ ‬نظرنا‭ ‬خارج‭ ‬حدود‭ ‬بلادنا،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالحرف‭ ‬أخذ‭ ‬أشكالا‭ ‬مختلفة‭. ‬في‭ ‬اليابان،‭ ‬هناك‭ ‬حرفيون‭ ‬يُمنحون‭ ‬لقب‭ ‬‮«‬الكنز‭ ‬البشري‭ ‬الحي‮»‬‭ ‬تقديرا‭ ‬لمهاراتهم‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬الصين،‭ ‬فقد‭ ‬حصلوا‭ ‬على‭ ‬دعم‭ ‬رسمي‭ ‬جعل‭ ‬منتجاتهم‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬معارض‭ ‬كبرى‭. ‬كما‭ ‬ان‭ ‬المغرب‭ ‬بدورها‭ ‬حولت‭ ‬أسواق‭ ‬مدنها‭ ‬القديمة‭ ‬إلى‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬التجربة‭ ‬السياحية‭ ‬لأي‭ ‬زائر‭. ‬كلها‭ ‬تجارب‭ ‬تثبت‭ ‬أن‭ ‬الحرفة‭ ‬ليست‭ ‬بقايا‭ ‬ماضٍ،‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬مصدر‭ ‬رزق‭ ‬وفخر‭ ‬حين‭ ‬تجد‭ ‬من‭ ‬يحافظ‭ ‬عليها‭.‬

الحرف‭ ‬التقليدية‭ ‬تستمر‭ ‬حين‭ ‬يمارسها‭ ‬الناس،‭ ‬وليست‭ ‬فقط‭ ‬قطعا‭ ‬للعرض‭ ‬خلف‭ ‬الزجاج،‭ ‬أن‭ ‬تتعلم‭ ‬فتاة‭ ‬صغيرة‭ ‬النقدة‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬أو‭ ‬يجرّب‭ ‬صبي‭ ‬نسج‭ ‬سعف‭ ‬النخيل‭ ‬في‭ ‬المدرسة،‭ ‬هذه‭ ‬خطوات‭ ‬تحافظ‭ ‬على‭ ‬المهارة‭ ‬وتمنحها‭ ‬عمرا‭ ‬أطول‭.‬

ان‭ ‬إدخال‭ ‬هذه‭ ‬الأنشطة‭ ‬في‭ ‬المناهج‭ ‬أو‭ ‬حصص‭ ‬الفن‭ ‬يجعلها‭ ‬تنتقل‭ ‬طبيعيا‭ ‬بين‭ ‬الأجيال‭. ‬لكن‭ ‬رغم‭ ‬ذلك،‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬منتجاتنا‭ ‬الجميلة‭ ‬لا‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬الأسواق‭ ‬كما‭ ‬يجب،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يفرض‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬تسويق‭ ‬أفضل‭ ‬يربط‭ ‬بين‭ ‬الحرفة‭ ‬وذوق‭ ‬الناس‭ ‬اليوم‭.‬

وبصراحة،‭ ‬ان‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الحرف‭ ‬أبسط‭ ‬مما‭ ‬نتصور،‭ ‬ويتوقف‭ ‬علينا‭ ‬نحن‭ ‬كمجتمعات‭ ‬تسعى‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬موروثها‭ ‬الثقافي‭. ‬أن‭ ‬نقتني‭ ‬قطعة‭ ‬صنعها‭ ‬حرفي‭ ‬محلي،‭ ‬أو‭ ‬نفتح‭ ‬لأطفالنا‭ ‬باب‭ ‬تجربة‭ ‬يدوية‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬المراكز،‭ ‬هو‭ ‬فعل‭ ‬صغير‭ ‬لكن‭ ‬أثره‭ ‬كبير‭. ‬بهذه‭ ‬الخطوات،‭ ‬نضمن‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المهن‭ ‬لا‭ ‬تبقى‭ ‬ذكرى‭ ‬بعيدة،‭ ‬بل‭ ‬عنصرا‭ ‬أصيلا‭ ‬من‭ ‬حاضرنا‭ ‬ومستقبلنا‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا