زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
الجهالة المتلفزة (2)
قلت بالأمس إنني درست فنون العمل التلفزيوني في بريطانيا، وإن ذلك لم يجعل مني إعلاميا، وأنني دخلت مجال الإعلام متسللا عبر بوابة الترجمة، ومن ثم فإنني كإعلامي ومستهلك لإنتاج الإعلام من حقي أن أقبل أو أرفض منتوج بعض او كل الجهات الإعلامية، ثم تحدثت عن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء التي يتحلى بها بعض مقدمي ما يسمى بالبرامج التفاعلية التلفزيونية (إذا كنت ممن يعشقون البلاغة ابحث عن خطبة زياد بن ابيه المسماة بالبتراء، والتي تبدأ بـ«أما بعد فإن الجهالة الجهلاء».
لجوء المحطات التلفزيونية إلى استدراج المكالمات الهاتفية من المشاهدين بأسعار فلكية، لا يقتصر فقط على برامج المسابقات، فالمحطات التجارية تدخل في شراكات مع شركات الاتصالات لتقاسم عائد المكالمات باهظة الثمن على خطوط هاتفية متفق عليها حتى في معظم البرامج.. حتى الرسائل النصية التي ترسلها إلى قنوات تلفزيونية للمشاركة في مسابقة ما تكون قيمتها مضروبة في خمسين، وفي بريطانيا وما أدراك ما بريطانيا (التي تسمع البعض يتحدث عن أمانة ونزاهة مواطنيها فتحسبهم يتحدثون عن السلف الصالح!!) المهم في بريطانيا تلك افتضح أمر قناة آي تي في «المستقلة» بعد ان كُشف النقاب عن استمرارها في استقبال المكالمات الهاتفية في برنامج للمسابقات، حتى بعد استلام الإجابة الصحيحة وتحديد الفائز بها.. وهذا أمر مفهوم لكل من يعرف خبايا العمل التلفزيوني التجاري الذي يقوم على استعباط واستغفال الجمهور، لأنه كلما وصلت مكالمة كلما ارتفع عائد المحطة ونصيبها من قيمة المكالمات ولو قفلوا باب الاشتراك بسبب العثور على «فائز» ستتوقف الحنفية عن صب المال في خزينة القناة.
ثم جاءت فضيحة القناة الخامسة التي تقدم برنامج مسابقات شهير اسمه برين تيزرز brain teasers الذي يتألف من أسئلة يفترض أنها ملتوية، وتتطلب إعمال العقل وسرعة البديهة للإجابة عليها على النحو الصحيح.. ولما كان من الوارد ألا ينجح أحد في الإجابة على هذا اللون من الأسئلة، فقد لجأ معدو البرنامج الى حيلة حقيرة تتمثل في قيامهم هم أنفسهم بالاتصال بالبرنامج تحت أسماء «مزيفة» وتقديم الإجابة الصحيحة.. وما هو أحقر من كل ذلك أنهم كانوا يتلقون الإجابات الصحيحة من مشاهدين، ولكنهم يتجاهلونهم ويعلنون عن فوز شخصيات وهمية! دعني أسألك: هل أضاءت الجملة الأخيرة هذه مصباحا أو تسببت في رنين أجراس في عقلك؟ تريد الاستعانة بصديق؟ سأكون أنا ذلك الصديق: هل تذكر كم مرة حصلت على كوبونات مسابقات من محلات تجارية وحلمت بامتلاك سيارة ببلاش؟ مائة مرة؟ خمسين؟ طيب خليها ثلاثين.. ويكون الفائز هو كالاشيل فرناديز رودريغيز.. أو بابو شنكار ارخميدس، أو عبد الله محمد أحمد «سعودي مقيم في سيبريا»!! طبعا هناك جهات تجارية تتعمد ان يفوز بجوائزها بين الحين والآخر أشخاص «حقيقيون»، ولكن الشاهد هو أن غالبية الجهات التي تقدم نفسها كـ«فاعلة خير» وتزعم أنها تفتح لك الطريق الى الثراء (النسبي) السريع، تمارس الاستهبال والاستعباط.. اسأل نفسك ما مصلحة أي منشأة تجارية هدفها الربح في ان تعطيك سيارة بي إم دبليو أو حتى أُم دبليو سي، لأنك اشتريت منها سندويتشا أو علبة كبريت؟ هل يعقل ان قناة تلفزيونية تبيع برامجها للفرد بالشيء الفلاني تصاب بالكرم الحميد وتمنحك آلاف الدولارات أو ما يعادلها من سلع من أجل عيونك المعمشة هذه؟
بعبارة أخرى فإن القناة البريطانية الخامسة ضبطت متلبسة بجرم إعطاء المشاهدين الانطباع بأن هناك آخرين ينجحون في الإجابة على الأسئلة دون أن يدري المشاهدون أن الفائز بالجائزة عضو في فريق البرنامج أو شخصية وهمية، وهكذا تنفتح شهيتهم للاتصال الهاتفي باهظ الكلفة جريا وراء سراب الآلاف.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك