في ظل ما يشهده العالم من أزمات بيئية واقتصادية راهنة، أصبح من الضروري إعادة التفكير في أسس النمو وتمويل الاقتصاد الوطني وتأمين مصادر الطاقة. فلم تعد التقنيات التقليدية كافية، بل باتت في كثير من الأحيان عبئًا على البيئة، ومساهمًا مباشرًا في تفاقم ظواهر كالاحتباس الحراري وتغير المناخ. ولهذا فإن أغلبية الدول في يومنا هذا تتجه نحو مسارات بديلة، تجمع بين الابتكار البيئي والاستدامة الاقتصادية، وعلى رأسها الاقتصادات الملونة، التي يمثل كل لون منها قطاعًا محددا في المنظومة الاقتصادية العالمية الجديدة. ومن بين هذه الأنماط يبرز الاقتصاد الأصفر كأحد النماذج الاقتصادية الواعدة، لا سيما لقدرته على التكيف مع البيئات ذات الطبيعة الجافة، واعتماده على الطاقة الشمسية كمصدر نظيف ومتجدد. إن هذا النموذج يشكل ركيزة للتنمية المستدامة، لما يقدمه من حلول لمشكلات الطاقة، وذلك من خلال دمج التكنولوجيا والابتكار في كفاءة الإنتاج وتخفيض الانبعاثات الكربونية.
ويُعرَّف الاقتصاد الأصفر بأنه التوجه الاقتصادي الذي يركّز على الاستفادة من الطاقة الشمسية بوصفها أداة رئيسية لتحقيق التنمية المستدامة. ويأتي هذا التركيز لما تمثله الشمس كونها المصدر الأساسي لمعظم أنواع الطاقة الأخرى، إلى جانب أنها طاقة متجددة، مجانية، وآمنة، يمكن إيصالها حتى إلى أبعد المناطق النائية التي تعجز مصادر الطاقة التقليدية عن بلوغها. ما يميز الطاقة الشمسية عن غيرها أنها طاقة نظيفة، لا تنتج عنها ملوثات أو انبعاثات ضارة، مما يجعلها خيارًا مثاليًا في ظل التحديات البيئية المتصاعدة. كما أنها لا تنضب، وتشكل كنزًا حراريًا طبيعيًا يمكن تحويله إلى طاقة كهربائية تُستخدم في تشغيل المصانع، وإنارة المنازل، وتحلية المياه، وتسخينها، وحتى في الزراعة والصناعة. ومن خلال تقنيات مثل السخانات الشمسية ومحطات الطاقة الشمسية الحرارية، يمكن توليد البخار اللازم لتدوير التوربينات الكهربائية، ما يجعل من الشمس مصدرًا للطاقة، وركيزة أساسية يمكن البناء عليها في مستقبل يعتمد على الطاقة النظيفة والعدالة في التوزيع الطاقة. ولا يقتصر دور الاقتصاد الأصفر على تقديم حلول بيئية، بل أصبح أحد أسرع القطاعات نموًا على الصعيد العالمي.
ووفقًا لتقرير الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (2023)، فقد تجاوز عدد العاملين في مجال الطاقة الشمسية 4.9 ملايين شخص، مع توقعات بأن يصل إلى 14 مليون وظيفة بحلول عام 2030، وبناء على بنود مبادرة «التحديات الكبرى للطاقة الشمسية» (SolarX Grand Challenge))، التي أُطلقت خلال مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (COP27)، حيثُ تهدف إلى تعزيز الابتكار واكتشاف الحلول المحلية للشركات الناشئة في مجال الطاقة الشمسية، مع التركيز على دعم التعاون وتوسيع الفرص في هذا القطاع الحيوي. وفي دول الخليج ومنها البحرين، حيث يزداد استهلاك الطاقة صيفًا بسبب التبريد، يشكّل التحول إلى الطاقة الشمسية خيارًا ذكيًا لتخفيف الضغط على البنية التحتية الكهربائية، وخفض التكاليف، وتقليل الانبعاثات الكربونية، وتعكس هذه المبادرة أهمية تطوير تقنيات الطاقة الشمسية واستخدامها كأداة فعالة لمواجهة تحديات التغير المناخي، بالإضافة إلى دعم الشركات الناشئة التي تلعب دورًا رئيسيًا في دفع عجلة التحول نحو الطاقة النظيفة.
وقد أظهرت القراءات المتأنية لجهود مملكة البحرين التزامًا قويًا بقيادة حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، وخاصة مع صدور المرسوم الملكي رقم 87 في أكتوبر 2019، الذي أنشأ هيئة متخصصة تهتم بمصادر الطاقة الطبيعية الدائمة والمستدامة. بدأ اهتمام البحرين بمشروعات الطاقة النظيفة يتعزز منذ انضمامها كعضو دائم في الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (IRENA) ، وتجسد هذه الخطوة، إلى جانب إطلاق الخطة الوطنية للطاقات المتجددة، رؤية وطنية واضحة لدعم مصادر طاقة نظيفة وفعالة من حيث التكلفة، مع تعزيز التعاون المحلي والدولي لتطوير قطاع الطاقة المستدامة، مواكبةً للتحولات العالمية نحو اقتصاد أخضر ومستدام.
وفي مملكة البحرين، التي تنعم بوفرة في الإشعاع الشمسي ودعم حكومي بوتيرة متسارعة لمشاريع الطاقة النظيفة، تبدو ملامح التحول نحو الاقتصاد الأصفر أكثر وضوحًا. فالمبادرات الوطنية الطموحة والاستثمارات المتزايدة في الطاقة المتجددة تؤكد أن البحرين تخطو بثقة نحو نموذج اقتصادي قادر على تحقيق الاستقرار المناخي والنمو الاقتصادي معًا، لتصبح جزءًا فاعلًا في مستقبلٍ عالمي أكثر توازنًا واستدامة. ويُنظر إلى الاقتصاد الذهبي أو الأصفر باعتباره أكثر من مجرد توجه اقتصادي جديد؛ فهو يضع الطاقة في قلب معادلة النمو والتنمية، كونها المحرك الحيوي الذي يغذي مختلف القطاعات الإنتاجية والخدمية. يسعى هذا النموذج إلى التخفيف من الآثار السلبية للاعتماد على الوقود الأحفوري – كما هو الحال في الاقتصاد البني – عبر التوجه نحو مصادر الطاقة المتجددة مثل: الشمس، والرياح، والمياه، والطاقة الحرارية الأرضية، وطاقة المد والجزر، وغيرها. ولا يقف الاقتصاد الأصفر عند حدود الطاقة فقط، بل يتقاطع أيضًا مع الاقتصادين الأخضر والأزرق لمعالجة التحديات البيئية والاجتماعية التي تواجه العالم اليوم، مما يجعله أداة استراتيجية لبناء مستقبل أكثر استدامة.
ولعل من أبرز استخداماته الرمزية، ما أُطلق عليه اسم «اقتصاد الشمس المشرقة» في ولاية فلوريدا الأمريكية، وأيضًا توصيفه كنموذج لتطوير الصناعات التقليدية في جنوب إفريقيا، مما يعكس مرونة هذا المفهوم وقابليته للتكيف مع مختلف السياقات الجغرافية والاقتصادية. كذلك الأمر فإن الاقتصاد الأصفر يشكّل فرصة واعدة واستثمارا في المستقبل، والمتمثل في الطاقة الشمسية، ويحقق أهدافًا أساسية للتنمية المستدامة. فهو يوفر فرص عمل جديدة نتيجة لزيادة الطلب العالمي على الكهرباء والحاجة إلى مراكز تدريب وبحوث متخصصة. كما يسهم في حماية البيئة من خلال تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري ومكافحة التغير المناخي، مما يقلل من التلوث وتدهور جودة الحياة. بالإضافة إلى ذلك، يضمن الاقتصاد الأصفر تحقيق توازن بين أجيال اليوم والغد، حيث يعتمد على طاقة نظيفة تضمن مستقبلًا أكثر أمانًا واستدامة للأجيال القادمة.
ونختم القول بأن الاقتصاد الأصفر لم يعد مجرد توجه بيئي، بل هو ركيزة لاستقرار اقتصادي ومناخي. ومع توافّر الموارد الطبيعية والدعم الرسمي في البحرين ودول منطقة الخليج، يبرز هذا النموذج كخيار واقعي وملح. وتقدّم البحرين مثالًا ملهمًا من خلال رؤاها التنموية ومشاريعها الطموحة، مما يجعل من التحول إلى الطاقة النظيفة مشروعًا قابلًا للتنفيذ والتوسع خليجيًا. وفرصة تاريخية لتحويل ضوء الشمس إلى مصدر للنمو والازدهار، وما نؤكد عليه هو أن مملكة البحرين تسير بخطى ثابتة لتصبح واحدة من الدول الرائدة في مجال الطاقة الشمسية خلال الفترة القادمة، وخاصة مع دمج الاقتصاد الأصفر بالاقتصاد الأصفر الفاقع (اقتصاد المعرفة). هذا التكامل يفتح آفاقًا واعدة أمام البحرين لتطوير سوق الطاقة الشمسية الكهروضوئية، ويعزز من فرص الابتكار والتنمية المستدامة في قطاع الطاقة. وسنتناول تفاصيل هذا التحول الواعد في مقالات قادمة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك