ما هي الأسس التي تقوم عليها التنمية في الدول العربية، هل تقوم على نظريات مجربة ام انها تجارب جديدة تحمل مخاطرها، وهل تسمح الفروقات بين الدول العربية بتطبيق نظرية واحدة شاملة ام اننا بحاجة الى وضع ما يناسب كل دولة على حدة مع التركيز على اهمية تكنولوجيا التصنيع كأولوية وضرورة وضع سياسة لتوزيع المكاسب ليستفيد المواطن والمجتمع بشكل رئيسي. فما رأي المجالس الاقتصادية العربية في تحديد المسار الانسب؟
مساهمة في هذا النقاش نواصل ما خلصنا اليه في مقالنا السابق (أخبار الخليج 6 أغسطس) من اننا كدول عربية ليس لدينا خيار سوى التقدم التكنولوجي والمعرفي والعلمي كي نستطيع ان نبني مواطنينا ومجتمعاتنا وقدراتنا ليمكننا الدفاع عن اوطاننا وحقوق امتنا. فامتلاك التكنولوجيا هو المحدد والفاصل بين الدول الغنية والدول الفقيرة. وأكدنا أهمية التعليم ودوره في خلق مجتمعات ممكنة ناقدة مدافعة عن حقوق أمتها. في هذه المقالة سوف ننظر إلى نماذج سلكتها دول غربية واسيوية ونرى كيف يمكن الاستفادة منها.
في ورقة بحثية لـ Erik S. Reinert (1996) تتحدث عن دور التكنولوجيا في خلق دول غنية متقدمة، وان عدم تبني نموذج تنموي وتنفيذه يقود الى استمرار الفقر والتعرض للاستغلال الرأسمالي العالمي. تطرح الورقة النموذج الألماني والأنجلو-ساكسوني (الإنجليزية) كنموذجين للتنمية، ونضيف النموذج الاسيوي والصيني كخيارات للدول العربية ان تبني عليها وتختط طريقا تنمويا يناسب قدراتها وظروفها. في مقالنا هذا سوف نلخص اهم خصائص هذه النماذج ومساهمتها في بناء الاقتصاد. مؤكدين أهمية تنبي نموذج تنموي يناقش على مستويات مختلفة وتراقب نتائجه مع الاستعداد للتعديل وفق ما تمليه النتائج.
يعتمد النموذج الاقتصادي الألماني على الإنتاج والتغيير التقني الديناميكي (أي إحداث تقدم يؤدي إلى استمرار ارتفاق الإنتاجية والكفاءة)، يعتبر هذا النموذج ان بعض الانشطة الاقتصادية «أفضل» بسبب قدرتها على إنتاج التغيير التقني المستمر وخلق العوائد المتزايدة. مما يؤدي إلى تحسينات مستمرة في الإنتاجية والكفاءة تعزز تنافسيتها. من القطاعات الرئيسية التي احدثت التقدم في الاقتصاد الالماني قطاع السيارات، الهندسة، الادوية والتكنولوجيا الحيوية، وقطاع التكنولوجيا. استفادت هذه القطاعات من الابتكار التقني وجعلت الاقتصاد الألماني من اقوى الاقتصادات. يعتمد النموذج سياسات حمائية تقوم بحماية القطاعات الواعدة التي لا يمكنها المنافسة مباشرة حتى تنضج وتكتمل دورتها التقنية ثم يتم الانفتاح التدريجي. يُبرز هذا النموذج أهمية التقدم التكنولوجي كما يبرز اهمية معالجة التوزيع غير المتكافئ للمكاسب من خلال وضع سياسات ضريبية تهدف إلى توزيع المكاسب على المجتمع لتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية.
اما النموذج الأنجلو-ساكسوني فيفترض تشابها بين الأنشطة الاقتصادية ويناقش السوق والتجارة الحرة كخيار مثالي مع اهتمام اقل بتأثير التغير التكنولوجي والتنظيمي. يركز هذا النموذج على التوزيع الكلاسيكي للمكاسب التكنولوجية، ففي الانشطة التقليدية (الزراعة والخدمات منخفضة التقنية) ينتقل أثر التطور من خلال انخفاض الأسعار وليس ارتفاع الأجور والارباح. بينما في الأنشطة الصناعية والتقنية الحديثة ينتقل الاثر إلى ارتفاع الأجور والارباح، بينما تبقى الأسعار مستقرة. أي بشكل عام فإن المكاسب من التغيير التقني تنتشر جراء خفض الأسعار في ظل المنافسة الكاملة أكثر من ارتفاع الاجور او الارباح. وبذلك يستفيد معظم السكان من فرق الأسعار مما يجعل الاعتماد على الضرائب اقل في إعادة توزيع الثروة.
نلاحظ في النموذجين اهتماما بآلية توزيع المكاسب على فئات المجتمع لتقليل الفوارق الطبقية في الدخل مما يحمي المجتمع من اضرار الفقر وعدم المساواة. وان لا يغيب عنا ان تطوير آلية توزيع المكاسب تقتضي وجود نظام سياسي ديمقراطي يحمي هذه المكاسب ويضمن سماع صوت كل فئة من المجتمع وقدرتها على تمثيل مصالحها وحقها في هذه المكاسب. وأفضل تعبير عن هذا النظام نجده في الدول الاسكندنافية.
في مقابل هذين النموذجين الأوروبيين ظهر نموذج آسيوي وآخر صيني قادا التقدم في شمال شرق آسيا وجعلاها في مصاف الدول الكبرى المتقدمة. أولها النموذج الآسيوي (الياباني الكوري التايواني) الذي يختلف في عدة جوانب. يركز هذا النموذج على التصنيع والتكنولوجيا للتصدير، ويعتمد بشكل كبير على التعليم والتدريب المهني، بالإضافة إلى التعاون الوثيق بين الحكومة والقطاع الخاص. فقد طور صناعات تكنولوجية متقدمة شملت السياسات والروبوتات والإلكترونيات. هذا التوجه تطلب استثمارات كبيرة في البحث والتطوير والتدريب المهني، وكان التعليم عنصرا أساسيا فيه عمل على تطوير المهارات التقنية والابتكارية لدى الطلاب.
اما النموذج الصيني فيختلف من حيث اعتماده على مزج التخطيط المركزي والاقتصاد السوقي، مع تركيز كبير على التصنيع والتكنولوجيا. كما يتميز بالتحكم الحكومي القوي في الاقتصاد، مع دعم كبير للشركات الحكومية والخاصة لتحقيق النمو الاقتصادي السريع.
بالعودة الى منطقتنا العربية نجد أن النموذج الخليجي اساسه اقتصاد ريعي مع تحولات مهمة في مجالات عدة، تتقدمها صناعات تحويلية تتبناها شركات مملوكة للدولة، وقطاع خاص يركز على النشاط الخدمي والاستهلاكي، مع توزيع المكاسب من خلال خدمات حكومية ومساهمة محدودة من القطاع الخاص.
يظهر مما تقدم أهمية وجود منهجية مناسبة لاختيار نموذج تنموي يتناسب مع قدرات وموارد الدول. الان هل يمكن للدول العربية الاستفادة من دراسة النماذج والتجارب الكثيرة في العالم والتوافق على مسار يحقق لها تقدما علميا وتكنولوجيا في نهج متوازن يجمع بين الابتكار التكنولوجي والنمو المتكافئ، وتبني سياسات تشجع هذه التوجهات تشمل جميع القطاعات الاقتصادية، واعتماد سياسات مالية تضمن توزيع المكاسب بشكل عادل، مما يسهم في تحقيق التنمية المستدامة وتقليل الفجوات الاقتصادية وتقليل مستويات الفقر وعدم المساواة. سوف يحتاج ذلك الى ما بحثناه في مقالنا السابق حول التعليم والتنوير الفكري الفلسفي المتقبل للتعددية والتنوع وطرح الاسئلة.
نخلص من ذلك الى أن أهم عناصر هذه التوجهات هو اعطاء التصنيع اولوية والتركيز على الابتكار لرفع الانتاجية الكلية، مقتبسين من النماذج ضرورة بناء القدرات الصناعية والبحثية، ودعم الشركات الناشئة والمشاريع التكنولوجية، واعتماد سياسات تضمن توزيع المكاسب بشكل عادل، والتأكيد، مرة اخرى، على التعليم والتنوير والتعددية والتنويع. وإذا جاز لنا ان نقترح أحد التوجهات في الصناعة فان الظروف الحالية والأمن المستقبلي يقتضي اعطاء أولوية لتكنولوجيا التصنيع وخصوصا الروبوتات والذكاء الاصطناعي، كتوجه عام، وتكنولوجيا تحلية المياه والطاقة الشمسية والزراعة في التربة الجافة كتوجه خاص. تتطلب القضية مزيجا من رؤية بعيدة المدى ونظرة آنية لمعالجة القضايا الملحة في رفع الكفاءة الانتاجية وتحسين مستويات المعيشة من خلال التعليم والتنوير الفكري وقبول الاختلاف لمعالجة النزاعات التي عانت منها دولنا العربية وما زالت.
drmekuwaiti@gmail.com

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك