العدد : ١٧٣١٨ - الجمعة ٢٢ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٨ صفر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣١٨ - الجمعة ٢٢ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٨ صفر ١٤٤٧هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

الجهالة المتلفزة (1)

قلت‭ ‬هنا‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬إنني‭ ‬‮«‬دخيل‮»‬‭ ‬على‭ ‬مجتمع‭ ‬الإعلام،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنني‭ ‬لست‭ ‬إعلاميا‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬التأهيل‭ ‬الأكاديمي،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬لي‭ ‬علاقة‭ ‬بالإعلام‭ ‬إلا‭ ‬كمستهلك‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬حياتي‭ ‬العملية،‭ ‬وبمعنى‭ ‬أنني‭ ‬دخلت‭ ‬مجال‭ ‬الإعلام‭ ‬متسللا‭ ‬عبر‭ ‬كوة‭ ‬صغيرة‭. ‬بل‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أحس‭ ‬بالرغبة‭ ‬بالعمل‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الإعلام،‭ ‬ثم‭ ‬طلبت‭ ‬مني‭ ‬صحف‭ ‬ان‭ ‬اترجم‭ ‬لها‭ ‬مقالات‭ ‬من‭ ‬مصادر‭ ‬أوروبية‭ ‬وأمريكية،‭ ‬ثم‭ ‬رأى‭ ‬القائمون‭ ‬على‭ ‬أمر‭ ‬تلك‭ ‬الصحف‭ ‬أنني‭ ‬وبقليل‭ ‬من‭ ‬التدريب‭ ‬والممارسة‭ ‬أستطيع‭ ‬ان‭ ‬أقوم‭ ‬بكتابة‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بمقالات‭ ‬‮«‬الرأي‮»‬،‭ ‬ففعلت‭ ‬ذلك‭ ‬ومن‭ ‬هناك‭ ‬دخلت‭ ‬مجال‭ ‬تحرير‭ ‬الأخبار‭ ‬و«عقبال‭ ‬أن‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬تحرير‭ ‬فلسطين‮»‬‭.‬

وتعود‭ ‬علاقتي‭ ‬بالتلفزيون‭ ‬إلى‭ ‬أواخر‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬عندما‭ ‬ابتعثت‭ ‬الى‭ ‬بريطانيا‭ ‬لدارسة‭ ‬إخراج‭ ‬وإنتاج‭ ‬البرامج‭ ‬التلفزيونية،‭ ‬ولا‭ ‬أقول‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬تأكيد‭ ‬أن‭ ‬لي‭ ‬خبرة‭ ‬طويلة‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬التلفزيوني‭. ‬واقع‭ ‬الأمر‭ ‬هو‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬استطع‭ ‬ان‭ ‬أعمل‭ ‬طويلا‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التلفزيون‭ ‬بعد‭ ‬الفترة‭ ‬الدراسية‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬لأن‭ ‬التلفزيون‭ ‬السوداني‭ ‬شأنه‭ ‬شأن‭ ‬التلفزيونات‭ ‬العربية‭ ‬الرسمية‭ ‬كامل‭ ‬الدسم‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الركاكة‭ ‬والسخافة‭ ‬والنفاق‭ ‬والدجل‭ ‬والتدليس،‭ ‬وكان‭ ‬رئيسنا‭ ‬وقتها‭ ‬المشير‭ ‬جعفر‭ ‬نميري‭ ‬يقيم‭ ‬في‭ ‬مبنى‭ ‬التلفزيون‭ ‬فترات‭ ‬اطول‭ ‬من‭ ‬التي‭ ‬يقضيها‭ ‬في‭ ‬القصر‭ ‬الجمهوري‭ ‬بل‭ ‬صار‭ ‬يقدم‭ ‬برنامجا‭ ‬اسبوعيا‭ ‬يتلقى‭ ‬فيه‭ ‬اسئلة‭ ‬من‭ ‬مواطنين‭ ‬وهميين‭ ‬ويجيب‭ ‬عنها‭ ‬بكل‭ ‬‮«‬صدق‭ ‬وشفافية‮»‬‭ - ‬بل‭ ‬تحدثت‭ ‬عن‭ ‬دراستي‭ ‬العمل‭ ‬التلفزيوني‭ ‬لتأكيد‭ ‬أن‭ ‬لي‭ ‬خبرة‭ ‬في‭ ‬ألاعيب‭ ‬محطات‭ ‬التلفزيون‭ ‬تزيد‭ ‬على‭ ‬أربعة‭ ‬عقود‭.. ‬أشعر‭ ‬بالرثاء‭ ‬على‭ ‬الذين‭ ‬يتهافتون‭ ‬على‭ ‬الهاتف‭ ‬للاشتراك‭ ‬في‭ ‬فقرات‭ ‬برامج‭ ‬تلفزيونية،‭ ‬خاصة‭ ‬النوعية‭ ‬التي‭ ‬تعد‭ ‬المشاهدين‭ ‬بجوائز‭.. ‬وبعض‭ ‬الناس‭ ‬يعشق‭ ‬الاتصال‭ ‬بالبرامج‭ ‬التلفزيونية‭ ‬لأنه‭ ‬يعشق‭ ‬سماع‭ ‬صوته‭ ‬ورؤية‭ ‬اسمه‭ ‬عبر‭ ‬وعلى‭ ‬الشاشة‭.. ‬وما‭ ‬لا‭ ‬يعرفه‭ ‬أغلب‭ ‬الناس‭ ‬هو‭ ‬ان‭ ‬الاتصال‭ ‬بقناة‭ ‬تلفزيونية‭ ‬هاتفيا‭ ‬يكلف‭ ‬نحو‭ ‬خمسة‭ ‬أضعاف‭ ‬قيمة‭ ‬الاتصال‭ ‬العادي‭ ‬بالبلد‭ ‬الذي‭ ‬يحتضن‭ ‬تلك‭ ‬القناة‭.. ‬وأن‭ ‬البرامج‭ ‬التي‭ ‬تقدم‭ ‬جوائز‭ ‬للمشاركين‭ ‬بالاتصال‭ ‬الهاتفي‭ ‬تجني‭ ‬من‭ ‬عائد‭ ‬تلك‭ ‬الاتصالات‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬ضعف‭ ‬الجائزة‭ ‬الموعودة‭... ‬يعني‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬المثل‭ ‬المصري‭ ‬فهي‭ ‬حكاية‭ ‬بلهاء‭ ‬يسترزقون‭ ‬من‭ ‬المجانين،‭ ‬والبلهاء‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬يعدون‭ ‬ويقدمون‭ ‬برامج‭ ‬المسابقات‭ ‬الركيكة‭ ‬والمجانين‭ ‬هم‭ ‬المتهافتون‭ ‬للاتصال‭ ‬الهاتفي‭ ‬بتلك‭ ‬البرامج‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬الفوز‭ ‬بجائزة‭ ‬أو‭ ‬سماع‭ ‬أسمائهم‭ ‬تذاع‭ ‬عبر‭ ‬الأثير‭.‬

والله‭ ‬العظيم‭ ‬استمعت‭ ‬وشاهدت‭ ‬مصادفة‭ ‬قبل‭ ‬أيام‭ ‬مذيعا‭ ‬تلفزيونيا‭ ‬عربيا‭ ‬يستخدم‭ ‬من‭ ‬المساحيق‭ ‬ثلاثة‭ ‬أضعاف‭ ‬ما‭ ‬تستخدمه‭ ‬فتيات‭ ‬الفياغرا‭ ‬من‭ ‬مقدمات‭ ‬البرامج‭ ‬التي‭ ‬تهدف‭ ‬الى‭ ‬اجتذاب‭ ‬المشاهدين‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عروض‭ ‬اللحم‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط‭.. ‬كان‭ ‬صاحبنا‭ ‬يتغنج‭ ‬ويتثنى‭ ‬وكأنه‭ ‬‮«‬طفلة‭ ‬عربية‭ ‬تنعَّم‭ ‬بالديباج‭ ‬والحلي‭ ‬والحلل‮»‬‭. ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬ماشي،‭ ‬فقد‭ ‬صارت‭ ‬القاعدة‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬التلفزيوني‭ ‬مخاطبة‭ ‬الغرائز،‭ ‬وإزالة‭ ‬الفوارق‭ ‬بين‭ ‬الجنسين‭.. ‬ما‭ ‬علينا،‭ ‬فقد‭ ‬طرح‭ ‬الرجل‭ (‬مجازاً‭ .. ‬ولا‭ ‬أتحدث‭ ‬هنا‭ ‬عن‭ ‬الطرح‭!!) ‬سؤالا‭ ‬على‭ ‬المشاهدين‭ ‬بالصيغة‭ ‬التالية‭: ‬ما‭ ‬هو‭ ‬البيت‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬معلقة‭ ‬الشاعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬امرؤ‭ ‬القيس‭ ‬الذبياني؟‭ ‬طبعا‭ ‬أبو‭ ‬جهل‭ ‬هذا‭ ‬ببغاء‭ ‬عقله‭ ‬في‭ ‬أذنيه‭ ‬ولم‭ ‬يفطن‭ ‬الى‭ ‬ان‭ ‬معد‭ ‬البرنامج‭ ‬يفوقه‭ ‬جهالة،‭ ‬ووجد‭ ‬السؤال‭ ‬بتلك‭ ‬الصيغة‭ ‬وردده‭ ‬نحو‭ ‬أربع‭ ‬مرات،‭ ‬وكما‭ ‬توقعت‭ ‬تماما‭ ‬فقد‭ ‬فشل‭ ‬جميع‭ ‬من‭ ‬حاولوا‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬السؤال‭ ‬في‭ ‬الإتيان‭ ‬ببيت‭ ‬الشعر‭ ‬الصحيح‭.. ‬ليس‭ ‬لأن‭ ‬السؤال‭ ‬كان‭ ‬مطروحا‭ ‬بصيغة‭ ‬خاطئة‭ ‬بل‭ ‬لجهلهم‭ ‬بالشعر‭ ‬على‭ ‬إطلاقه،‭ ‬بدليل‭ ‬ان‭ ‬أحدهم‭ ‬ذكر‭ ‬بيتا‭ ‬لنزار‭ ‬قباني‭.. ‬ولا‭ ‬تثريب‭ ‬على‭ ‬القارئ‭ ‬ان‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرف‭ ‬الإجابة،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬يفطن‭ ‬الى‭ ‬ان‭ ‬في‭ ‬السؤال‭ ‬خطأ،‭ ‬شخصيا‭ ‬أعرف‭ ‬تناتيف‭ ‬من‭ ‬معلقة‭ ‬زهير‭ ‬والنابغة‭ ‬ولبيد‭ ‬ولكنني‭ ‬لا‭ ‬اعرف‭ ‬كلمة‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬قصيدة‭ ‬للحارث‭ ‬بن‭ ‬حلزة‭ ‬اليشكري‭ (‬بيني‭ ‬وبينكم‭ ‬هناك‭ ‬شاعر‭ ‬جاهلي‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬المعلقات‭ ‬اسمه‭ ‬النابغة‭ ‬الذبياني‭ ‬وعليه‭ ‬فالاسم‭ ‬الصحيح‭ ‬للشاعر‭ ‬الذي‭ ‬تحدث‭ ‬عنه‭ ‬المذيع‭ ‬الجهلول‭ ‬هو‭ ‬أمرؤ‭ ‬القيس‭ ‬الكندي‭.. ‬وهو‭ ‬بالمناسبة‭ ‬ليست‭ ‬من‭ ‬كندا‭).‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا