زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
الجهالة المتلفزة (1)
قلت هنا أكثر من مرة إنني «دخيل» على مجتمع الإعلام، بمعنى أنني لست إعلاميا من حيث التأهيل الأكاديمي، ولم تكن لي علاقة بالإعلام إلا كمستهلك في بداية حياتي العملية، وبمعنى أنني دخلت مجال الإعلام متسللا عبر كوة صغيرة. بل لم أكن أحس بالرغبة بالعمل في مجال الإعلام، ثم طلبت مني صحف ان اترجم لها مقالات من مصادر أوروبية وأمريكية، ثم رأى القائمون على أمر تلك الصحف أنني وبقليل من التدريب والممارسة أستطيع ان أقوم بكتابة ما يسمى بمقالات «الرأي»، ففعلت ذلك ومن هناك دخلت مجال تحرير الأخبار و«عقبال أن أسهم في تحرير فلسطين».
وتعود علاقتي بالتلفزيون إلى أواخر سبعينيات القرن العشرين، عندما ابتعثت الى بريطانيا لدارسة إخراج وإنتاج البرامج التلفزيونية، ولا أقول هذا من باب تأكيد أن لي خبرة طويلة في العمل التلفزيوني. واقع الأمر هو أنني لم استطع ان أعمل طويلا في مجال التلفزيون بعد الفترة الدراسية في بريطانيا لأن التلفزيون السوداني شأنه شأن التلفزيونات العربية الرسمية كامل الدسم من حيث الركاكة والسخافة والنفاق والدجل والتدليس، وكان رئيسنا وقتها المشير جعفر نميري يقيم في مبنى التلفزيون فترات اطول من التي يقضيها في القصر الجمهوري بل صار يقدم برنامجا اسبوعيا يتلقى فيه اسئلة من مواطنين وهميين ويجيب عنها بكل «صدق وشفافية» - بل تحدثت عن دراستي العمل التلفزيوني لتأكيد أن لي خبرة في ألاعيب محطات التلفزيون تزيد على أربعة عقود.. أشعر بالرثاء على الذين يتهافتون على الهاتف للاشتراك في فقرات برامج تلفزيونية، خاصة النوعية التي تعد المشاهدين بجوائز.. وبعض الناس يعشق الاتصال بالبرامج التلفزيونية لأنه يعشق سماع صوته ورؤية اسمه عبر وعلى الشاشة.. وما لا يعرفه أغلب الناس هو ان الاتصال بقناة تلفزيونية هاتفيا يكلف نحو خمسة أضعاف قيمة الاتصال العادي بالبلد الذي يحتضن تلك القناة.. وأن البرامج التي تقدم جوائز للمشاركين بالاتصال الهاتفي تجني من عائد تلك الاتصالات أكثر من عشرين ضعف الجائزة الموعودة... يعني كما يقول المثل المصري فهي حكاية بلهاء يسترزقون من المجانين، والبلهاء هم من يعدون ويقدمون برامج المسابقات الركيكة والمجانين هم المتهافتون للاتصال الهاتفي بتلك البرامج على أمل الفوز بجائزة أو سماع أسمائهم تذاع عبر الأثير.
والله العظيم استمعت وشاهدت مصادفة قبل أيام مذيعا تلفزيونيا عربيا يستخدم من المساحيق ثلاثة أضعاف ما تستخدمه فتيات الفياغرا من مقدمات البرامج التي تهدف الى اجتذاب المشاهدين من خلال عروض اللحم الأبيض المتوسط.. كان صاحبنا يتغنج ويتثنى وكأنه «طفلة عربية تنعَّم بالديباج والحلي والحلل». كل هذا ماشي، فقد صارت القاعدة في العمل التلفزيوني مخاطبة الغرائز، وإزالة الفوارق بين الجنسين.. ما علينا، فقد طرح الرجل (مجازاً .. ولا أتحدث هنا عن الطرح!!) سؤالا على المشاهدين بالصيغة التالية: ما هو البيت الأول من معلقة الشاعر الجاهلي امرؤ القيس الذبياني؟ طبعا أبو جهل هذا ببغاء عقله في أذنيه ولم يفطن الى ان معد البرنامج يفوقه جهالة، ووجد السؤال بتلك الصيغة وردده نحو أربع مرات، وكما توقعت تماما فقد فشل جميع من حاولوا الإجابة عن السؤال في الإتيان ببيت الشعر الصحيح.. ليس لأن السؤال كان مطروحا بصيغة خاطئة بل لجهلهم بالشعر على إطلاقه، بدليل ان أحدهم ذكر بيتا لنزار قباني.. ولا تثريب على القارئ ان لم يكن يعرف الإجابة، أو حتى لو لم يفطن الى ان في السؤال خطأ، شخصيا أعرف تناتيف من معلقة زهير والنابغة ولبيد ولكنني لا اعرف كلمة من أي قصيدة للحارث بن حلزة اليشكري (بيني وبينكم هناك شاعر جاهلي من أصحاب المعلقات اسمه النابغة الذبياني وعليه فالاسم الصحيح للشاعر الذي تحدث عنه المذيع الجهلول هو أمرؤ القيس الكندي.. وهو بالمناسبة ليست من كندا).
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك